كان شهر رمضان المبارك ..
دعوة لنا للاستيقاظ من الغفلة
والانفلات من واقع متخبط يكتنفه الغموض والاضطراب ..
يحيطنا من كل حدب وصوب ..
واقع يتجاوز الحدود والسدود ويمثل جانباً مظلماً من الحياة
انسحب تأثيره على ذواتنا .. فعشنا بين صراعين :
صراع حياتنا اليومية ...
وصراع العالم من حولنا وما يفرزه من مخرجات ..
تمثل غيوماً سوداء تمتص الأمان وتنفث السموم ..
ولذا كان قدوم شهر رمضان انفراجة أمل
ودعوة إلى إيقاظ الهمم وصحوة الضمائر
والتزود من معين الإيمان ،
وطرح أعباء الحياة المادية ، وأوهاق النفس ،
وإجلاء الرين عن القلوب
وبعث الوجدان في مسالك الروح ..
وتجديد عهود الطاعة. لله ، والاغتسال من الذنوب ..
والسعيد الفائز منا من أدرك ذلك ..
نقـــــــــــــــــــــــــطة ضــــــــــــــــــــوء ~
( ليس من مات فاستراح بميتٍ
إنما الميت ميّت الأحياءِ...)
الإنسان لايستطيع أن يحيا حياة طيبة سعيدة ..
إلا إذا أخذ بالاعتبار النظرة الشمولية للحياة..
ينظر إلى البداية والوسط ، وآخر المطاف ،
وما سيترتب على ذلك ، وما يستلزمه من استعداد .
وآخر المطاف هو النقلة إلى عالم آخر ، فلنقف عندها ...!
ولا نجعل هذه الوقفات التذكيرية تشل إرادتنا في الحياة ،
كما أنه يجب أن لانغفل عن الاستعداد لتلك النقلة وما يتبعها.!
ومن يظن أن تذكر الموت سيكون عائقاً عن السعي والعمل ..
فقد جانب الحقيقة والصواب ..
فـ( من ارتقب الموت سارع في الخيرات )
نعم قد يكون ذكر الموت أكبر عائق عن العمل والتقدم ، ومعول هدم ..
في نفوس أولئك الذين فقدوا إيمانهم بيوم الحساب ،
فهم يظنون أن الموت هو المحطة الأخيرة للحياة ، وبعدها لاشيء...
ولكن المؤمن يدرك أن الدنيا معبر للآخرة ، وأن خروج الإنسان منها بالموت
أشبه بخروج الطفل من بطن أمه من الضيق والظلمة .. إلى الرحابة والنور .
فلا يزيده ذكر الموت إلا حباً للعمل الصالح ، واغتناماً للفرص السانحة ،
فهو متشوق للقاء موعد الجزاء الأوفى والأجر والعطاء الأعظم ..
.....
إذن : لم يخاف البعض الموت ولا يطيقه ؟
وفي الحقيقة أن للمـــــــــــــوت خوفــــــــــــــــــــــان :
الأول إيجابي وهو المطلوب والصحيح ..
وهو مانعد له العدة ونتزود لاستقباله بالعمل الصالح .. بنفس مطمئنة
وهذا مانجده في الآيات التي تصف هؤلاء ..
يقول تعالى :
( يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ).
( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى ).
....
والثاني خوف سلبي مرفوض وهو ينشأ عن أسباب :
وأهمها حب الدنيا والتعلق بها ..
او ضعف الإيمان واليقين ..
وقد يخشى المرء من الموت نفسه ... سكراته وما يعقبه ..
وكيف يكون ؟ ويجهل حقيقته ، ويرتعب من ذكره..!!
....
إذن لو انتفت هذه الأسباب لتغيرت وجهة نظرنا إلى هذا المحتوم ..
كما يفعل المؤمن عندما يشعر بدنو أجله واقتراب ساعته ..
فيستقبل الموت مرحباً ..
****
هذا الإمام ( ابو حامد الغزالي) وقد أحس دبيب الموت يقترب منه
قال لبعض أصحابه : ائتوني بثوبٍ جديد ،
فقالوا له : وماذا تصنع به ؟
قال : سألقى به الملك !!
فجاءوه بالثوب ، فطلع به إلى بيته ، وأبطأ على أصحابه ،
انتظروه .. فلم يعد .. فذهبوا إليه يستطلعون نبأه ، فإذا هو ميت ..!
ووجدوا عند رأسه ورقة كتبت فيها أبيات رائعة ..
وهذا بعضها أنثره هنا لنقرأ كيف هو شعور المؤمن المطمئن
وكيف أنه يرى في الموت بداية حياة خالدة سعيدة لافناء بعدها :
قل لإخوانٍ رأوني ميتاً : فرثوني، وبكوا لي حزنـــــــــــــــا
أتظنوني بأني ميتكم : ليس هذا الميت و الله أنـــــــــــــــا
أنا في الصور وهذا جسدي كان بيتي وقميصي زمنا
أنا عصفور و هذا قفصي طرت عنه و بقى مرتهنـــــــــا
أنا درّ قد حواه صدفٌ : لامتحاني فنفيت المحـــنــــتـــا
أحمد الله الذي خلصني : وبنى لي في المعالي سكنا
لاتظنوا الموت موتاً إنه : كحياة وهو غايات المنــى
لاترعكم هجمة الموت فما : هي إلا نقلة من هاهنــــــا
ولكــــــــــن ..! دعـــــونا نسأل أنفســــــــــــنا :
ماذا يكون موقف كل منا فيما لو قيل له أنه مرتحل عن الدنيا بعد عام
أو شهور .. لسبب ما .. ؟
ماترانا فاعلين لإدراك مافاتنا من عمل الخير، واستقبال الآخرة ؟
....
الكثير سيعتريه الندم على فوات فرص ومواقف كان سيكسب منها لأخراه!
الكثير سيبادر بالتوبة ، وطلب المغفرة ، ويصلح ماقصر فيه من أمور دينه
وما قصر فيه من أمور دنياه ، ويحاول إصلاح ماأفسد في علاقته بالناس ..
....
يتمنى لو يمتد به العمر حتى يقوّم نفسه ، ويصلح كل أخطائه ،
ويعيد حساباته ، ويرد الحقوق لأصحابها ، ويعتذر لمن ظلم ،
ويسامح من أخطأ بحقه ، ويعين محتاجاً ، ويبذل ذات اليد ،
وينفس كربة ، ويقضي ديناً ،
ويترك أثراً طيباً ، ويحرر الذات من كل ضروب الأنانية ..!!
إذن ليكن موقفنا الآن .. ونحن نجهل متى نموت ..
كموقف ذلك الذي ينتظر ساعة موته المعلوم ..
لأن كل لحظة في حياتنا مرشحة لتلقي خبر موتنا ...
ربما ننام فلا نصحو ..
ربما نتعرض لحوادث الدنيا الكثيرة ...
لذا ينبغي أن لاتغيب تلك الحقيقة عن ذاكرتنا
فـ ( إن أمراً لاتعلم متى يفجؤك ينبغي أن تستعد له قبل أن يغشاك )..
....
فحذاري أن نموت ونحن في حالة عصيان أو غفلة ..
أو نقضي وفي رقابنا حقوقاً لم نردها لأصحابها ..
لنحرص على أن لانكون من النادمين يوم لاينفع مال ولا بنون ...
إلا من أتى الله بقلب سليم ..
يقـــــــــــــــــــــــول تعالـــــــــــــــــــــــــى :
( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا
ياحسرتنا على مافرطنا فيها ، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم
ألا ساء مايزرون ).
****
فلنبدأ منذ هذه اللحظة بمحاسبة أنفسنا قبل أن نحاسب ..
و ننظر في جدول أعمالنا ..مالنا .. وما علينا ..
ونعقد النية ، ونشمر ساعد الجد في إصلاح مافسد من مسار حياتنا ..
وننظر في كل سيئة .. أي حسنة نقابلها بها لتمحها ..
غالـياتــــــــــــــــــــــــــــــــي :
إن الموت الذي يجب أن نهرب منه ونخشاه .. هو الموت على الضلال ..
وهناك من يقال عنه : مات في العشرين ودفن في الخمسين . ..
فلا تكوني من هؤلاء الأحياء الأموات ..
فإن الموت ليس موت الجسد ..
لكنه موت القلوب ...
موتها عن ذكر الله ..
وكم من ميت طواه الثرى ونخر. عظامه التراب ...
لايزال حياً بيننا محمود الذكر ، بما اشتهر به من حسن الخلق ..
وبما قدم من عمل الخير ...
وبما خلفه من علم ينفع الناس ...
....
فلنخشى الله وحــــــــــــــــــــــــــــــده ..
( والذين هم من خشية ربهم مشفقون )
....
ولنتزود بالتقوى ...
( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى )
....
ولنترك لنا ذكراً طيباً بين الناس ..
لنبقى أحياء في القلوب وإن وارانا الثرى
فبذلك نكــــــــــــــــــــــــــــــون قد هزمنــــــــــــــا المــــــــــــــــــــــوت ..
طرحكِ.. مميز
يشدو بعبق رمضان
ويدعو للصحوة من براثن الغفلة
قبل أن يُداهمنا هادم اللذات..!
خشية الله هي سبيل النجاة
وطريق الجنان..!
بوركتِ يامُزهرة الروح والفكر
وأثابكِ الله على هذا القطاف القيّم،
وجعلنّا وإياكِ ممن يخشاه بالسر والعلانية!!