شاعر ومليون غاوٍ

يقول الحق جل وعلا في محكم التنزيل " والشعراء يتبعهم الغاوون"، إن أنسب شعار للبرنامج الذائع الصيت "شاعر المليون" هو شاعر المليون غاوي، بل ملايين الغاوين يدفعون من أموالهم ويبددون ثرواتهم ومعها ثروات الأمة وخيراتها للتصويت - مجرد التصويت - لشاعر، فهل يستحق ظهور شاعر إلى الساحة المملوءة بالشعراء كل هذه الضجة الإعلامية والمبالغ التي أنفقت أو ستنفق؟ وما الذي ستنجزه الأمة من التقدم الثقافي والاجتماعي, ناهيك عن العلمي والصناعي, إذا ظهر ذلك الشاعر الذي يستحق المليون؟ وهل هناك شاعر بلغ ما بلغ يستحق مليونا؟
إن هذا البرنامج هو إحدى سلسلة البرامج التفاعلية التي لا يهدف منتجوها إلى تحقيق أي إثراء معرفي أو إنتاج ثقافي بقدر اهتمامهم بالثراء على حساب الأبرياء من أبناء الأمة وبناتها. ظهرت هذه البرامج أول ما ظهرت في العالم الغربي منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي ثم انتشرت بشكل سريع نظرا لما تحققه من دخل للقنوات، وللتطور الكبير في مجال الاتصالات وظهور أجيال الهاتف النقال مع إمكانات كبيرة لإرسال الرسائل وظهور ما يسمى مجتمعات ما بعد الرأسمالية واقتصاديات "الإنترنت"، حتى أصبح من السهل تحقيق ثروات كبيرة بمجرد إنتاج برامج يغلب عليها طابع الإثارة العاطفية. ثم انتقلت هذه الحمى إلى الوطن العربي مع ظهور خدمات الاتصالات، مثل خدمة 700 التي تقدمها شركة الاتصالات السعودية، وبرامج الحوارات المباشرة بالتركيز أيضا على الإثارة العاطفية، لتظهر بعد ذلك وبشكل منظم سلسة البرامج التفاعلية مثل برنامج "ستار أكاديمي, الذي استقبل بموجة استهجان عارمة من العلماء والمفكرين وحتى الشارع العربي على الرغم من النجاحات المادية التي حققها البرنامج لمنتجيه. ردة الفعل هذه لم تكن, وللأسف, على جوهر فكرة البرنامج التفاعلي وإنما انصبت على فكرة برنامج "ستار أكاديمي" نفسه، لذلك لم يكن من الصعب على المنتجين الساعين وراء الثراء على حساب فكر الأمة أن يقدموا البرامج التفاعلية مرة أخرى ولكن بطريقة محببة للشارع والمفكر العربي، لهذا ظهر برنامج "شاعر المليون" تحت غطاء دعم الشعر النبطي المحبب والقريب من البيئة العربية، وزادت حدة المنافسة حتى اقتحم هذا المجال العديد من القنوات التي لا يمكن حصرها ومنها من رفع شعار المنهج الإسلامي, وهي تستخدم أساليب برنامج "ستار أكاديمي". كل ذلك والمشاهد العربي يدفع ثمنا كبيرا وباهظا لثقافة ضحلة جدا لا تستوعب أكثر من شخص وتصويت عبر رسالة SMS، إثارة للنعرة القبلية – دعوها فإنها منتنة - إهدار للثروات والأوقات وسحب البساط من تحت أقدام البرامج الجادة والوثائقية، زيادة العبء الثقافي على المفكر العربي حتى لا يكاد يجد مساحة نقية للحوار أو التفكير السليم.
كل هذا والجانب الاقتصادي في القضية أكبر وأمر فهذه البرامج مع زحفها إلى إقناع الشارع العربي بأهميتها وإلباسها ثوب الفكر الواسع عليها، تسعى إلى تعميم ثقافة الاستهلاك الترفيهي وهدم مبادئ الادخار والاستثمار. هدم منظم للفكر الاقتصادي في الشارع العربي وتعزيز مفاهيم الهدر واللامبالاة الاقتصادية، فبمجرد لمس مفاتيح جوالك تنفق الريالات فيما لا ينفع ولا تشعر بها إلا مع صدور فاتورة الاتصالات، ثم تعجز عن سداد قيمة الفواتير لتدخل إلى نفق المديونية. والمستفيد من كل ذلك فئة من المستثمرين على عدد أصابع اليد الواحة يزدادون ثراء بزيادة عدد المديونين.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإني لا أعرف أيضا كيف يتم التقاص بين شركات الاتصالات وهذه البرامج فهل يتم التقاص بعد قيام المتصل بعملية الاتصال أم في وقت لاحق لها؟ هل تأخذ شركة الاتصالات في الاعتبار إمكانية عدم السداد نظرا لارتفاع قيمة الفاتورة, ولذلك تخصص لها المخصصات اللازمة أم أنها تعالجها بحساب ديون معدومة ولا عزاء للمساهمين؟ هل هناك دراسة جدية وعلمية للعلاقة بين عدم سداد الفواتير ونسبة الاتصال على البرامج التفاعلية؟ كل هذه الأسئلة مهمة جدا لفهم أثر هذه البرامج في الاقتصاد الكلي، الذي أكاد أجزم، وإن خالفت بذلك المنهج العلمي الرصين، أنها تضغط وبقوة على الناتج المحلي وتؤثر بشكل مستمر ومتزايد في الادخار والاستهلاك الطبيعي ومن ثم الاستثمار.
إن برنامج شاعر المليون ليس المعني من هذا المقال بشكل أساسي بل كل البرامج التي على شاكلته وتتبع أسلوبه نفسه مهما تلبست من شعارات دينية أو أخلاقية أو ثقافية. "إننا نبي" جيلا هشا ونحارب الفكر الجاد ونمنح الفرص تلو الفرص لمثل هذه البرامج في الوقت الذي نعاقب الجامعات بكل قسوة على تقييمات لم تكن على علم بها أو اطلاع على أساليب إعدادها، نقلص من المخصصات اللازمة للبحث والمنح العلمية، لا نعرف كم أنتجنا من كتاب خلال العام الماضي ولا نعرف اتجاهات القارئ العربي. لذلك فإني أرفع رسالة من خلال هذا المقال إلى مؤسسة الفكر العربي لإنقاذه من مثل هذه البرامج.