جيـــان
جيـــان
الباب الثاني
وكانت بيعة


لم تكن صلتي بجماعة الأخوان المسلمين حديثة كما توهمها العابثون إذ كانت تعود بتاريخها إلى سنة 1357 هـ 1937 م . في ذلك اليوم البعيد المبارك من 1358 هـ تقريباً وبعد ما يقرب من ستة أشهر على تأسيس جماعة السيدات المسلمات كان أول لقاء لي مع الإمام الشهيد حسن البنا . كان ذلك عقب محاضرة ألقيتها على الأخوات المسلمات في دار الإخوان المسلمين وكانت يومئذ في العتبة .
كان الإمام المرشد في سبيله لتكوين قسم للأخوات المسلمات ، وبعد مقدمة عن ضرورة وحدة صفوف المسلمين واتفاق كلمتهم دعاني إلى رئاسة قسم الأخوات المسلمات . وكان هذا يعنى دمج الوليد الجديد الذي أعتز به " جماعة السيدات المسلمات " واعتباره جزء من حركة الإخوان المسلمين ، ولم أعد بأكثر من مناقشة الأمر مع الجمعية العمومية للسيدات المسلمات ، التي رفضت الاقتراح وإن حبذت وجود تعاون وثيق بين الهيئتين .
وتكررت اللقاءات مع تمسك كل منا برأيه وتأسست الأخوات المسلمات ولم يغير ذلك من علاقتنا الإسلامية شيئاً . وحاولت في أخر لقاء لنا في دار السيدات المسلمات أن أخفف من غضبه بعهد آخذه على نفسي أن تكون السيدات المسلمات لبنة من لبنات الإخوان المسلمين على أن تظل باسمها واستقلالها بما يعود على الدعوة بفائدة أكبر . على أن هذا أيضاً لم يرضه عن الاندماج بديلاً ودارت الأحداث بسرعة ووقعت حوادث سنة 1948 وصدر قرار حل الإخوان ومصادرة أملاكهم وإغلاق شعبها ، والزج بالآلاف في المعتقلات وقامت الأخوات المسلمات بنشاط يشكرن عليه وكانت إحداهن السيدة تحية الجبيلي زوجة أخي وابنة عمى ومنها عرفت الكثير من التفاصيل ، ولأول مرة وجدت نفسي مشتاقة إلى مراجعة كل آراء الأستاذ البنا وإصراره على الاندماج الكلي . وفي صبيحة اليوم التالي لحل جماعة الإخوان كنت بمكتبي في دار السيدات المسلمات وفي نفس الحجرة التي كان بها آخر اجتماع لي بالمرشد الإمام ، ووجدت نفسي أجلس إلي مكتبي وأضع رأسي بين يدي وأبكي بكاءً شديداً ، فقد أحسست أن حسن البنا كان على حق فهو الإمام الذي يجب أن يبايع من المسلمين جميعاً على الجهاد لعودة المسلمين إلي مقعد مسئوليتهم ، وإلي وجودهم الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه ، وهو مكان الذروة في العالم يقودونه إلي حيث أراد الله ويحكمونه بما أنزل الله . وأحسست أن حسن البنا كان أقوى مني وأكثر صراحة في نشر الحقيقة وإعلانها . وإن هذه الشجاعة والجرأة هي الرداء الذي يجب أن يرتديه كل مسلم . وقد ارتداه البنا ودعا إليه . ثم وجدت نفسي أهتف بالسكرتير ليوصلني بالأخ عبد الحفيظ الصيفي الذي كلفته بنقل رسالة شفوية للإمام البنا يذكره فيها بعهدي في آخر لقاء لنا … وحين عاد بتحيته ودعائه استدعيت أخي محمد الغزالي الجبيلي وكلفته بإيصال وريقة صغيرة بواسطته أو بواسطة زوجته إلي الإمام المرشد وكان في الوريقة : " سيدي الإمام حسن البنا … زينب الغزالي الجبيلي تتقدم إليك اليوم وهي أمة عارية من كل شي إلا عبوديتها لله وتعبيد نفسها لخدمة دعوة الله ، وأنت اليوم الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يبيع هذه الأمة بالثمن الذي يرضيه لدعوة الله تعالى . في انتظار أوامرك وتعليماتك سيدي الإمام … " .
وعاد شقيقي ليحدد لي لقاءً سريعاً في دار الشبان المسلمين ، كان المفروض أن يحدث وكأنه مصادفة . ولم أكن أعدم مبرراً لتواجدي هناك ، فقد كنت ذاهبة إلي صالة دار الشبان لإلقاء محاضرة ، والتقيت بالأستاذ البنا فقلت له ونحن نصعد الدرج : " اللهم إني أبايعك على العمل لقيام دولة الإسلام وأرخص ما أقدم في سبيلها دمي ، والسيدات المسلمات بشهرتها " فقال : " وأنا قبلت البيعة وتظل السيدات المسلمات على ما هي عليه " . وافترقنا على أن يكون اتصالنا بواسطة منزل أخي وكانت أول رسالة من الإمام الشهيد تكليفاً بالوساطة بين النحاس والإخوان ، وكان رفعة مصطفى باشا النحاس خارج الحكم حينذاك وحدد النحاس المرحوم أمين خليل للقيام بإزالة سوء التفاهم ورضى به الإمام الشهيد وكنت حلقة الاتصال . وفي ليلة من ليالي فبراير سنة 1949 جاءني أمين خليل ليقول لي " يجب اتخاذ إجراءات ليسافر البنا من القاهرة فالمجرمون يأتمرون به ليقتلوه . ولم أجد وسيلة للاتصال به مباشرة فقد اعتقل أخي ، فحاولت الاتصال بالإمام الشهيد شخصياً ، وأنا في طريقي للاتصال بلغني خبر الاغتيال ونقله إلى المستشفى ثم تواترت الأخبار بسرعة بسوء حالته وذهب شهيداً إلى ربه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً . وكان ألمي كبيراً وكانت نقمتي على المجرمين مرة لم أحاول كتمها .
وجاءت حكومة اتحاد الأحزاب وأصدرت أمراً بحل جماعة السيدات المسلمات واعترضت أمام القضاء الذي حكم لنا في عهد حكومة حسين سري باشا سنة 1950 بالعودة للنشاط . وكان المحامي في هذه القضية الأستاذ عبد الفتاح حسن "باشا" وجاءت حكومة الوفد وعاد الإخوان إلي نشاطهم وهم على بيعتهم للإمام المرشد حسن الهضيبي ، وأحببت في اليوم الأول لافتتاح المركز العام للإخوان المسلمين أن أعلن ولائي للدعوة بطريق غير مباشر إلي أن يقضي الله في الأمر بما يريد ، فتبرعت بأغلى شئ كنت أعتز به في أثاث منزلي وهو طاقم صالون أرابيسك مطعم بالصدف ليؤثث به مكتب المرشد العام .
وسارت الأمور هادئة مطمئنة ، وزارني الشهيد عبد القادر عودة وشكرني على التبرع وقال : " يسعدنا إذا أصبحت زينب الغزالي الجبيلي من الإخوان المسلمين ." قلت : " أرجو أن أكونها بإذن الله . " فقال : " قد كانت والحمد لله . " وصارت الأمور في هدوء ومودة بيني وبين كثيرة من أعضاء الجماعة حتى حكومة الانقلاب العسكري بقيادة اللواء محمد نجيب الذي كان قد زارني قبل الانقلاب بأيام بصحبة الأمير عبد الله الفيصل وليس سراج الدين والشيخ الباقوري وشقيقي علي الغزالي بمناسبة وجود الأمير عبد الله الفيصل في مصر ، وقد تعاطف الإخوان مع الانقلاب وكذلك السيدات المسلمات لفترة أحسست بعدها أن الأمور لا تسير كما كنا نأمل وأنها ليست الثورة المنتظرة تتويجاً لجهود سبقت على أيدي العاملين لإنقاذ هذا البلد … وأخذت أنقل رأيي لمن ألقاه من الإخوان . وحين عرضت منا مناصب وزارية على بعض الإخوان ، وضحت رأيي في مجلة السيدات المسلمات ، فما كان لأحد من الإخوان أن يقسم يمين ولاء لحكومة لا تحكم بما أنزل الله .. ومن يفعل منهم ذلك يجب فصلهم من الإخوان وواجب الإخوان أن يحددوا موقفهم بعد أن اتضحت نوايا الحكومة . وزارني الشهيد عبد القادر عودة طالباً مني تأجيل الكتابة في هذا الموضوع ، وأمسكت عددين ، ثم عدت إلى الكتابة إلى أن زارني الشهيد عبد القادر عودة للمرة الثانية حاملاً في هذه المرة أمراً من المرشد العام بعدم الكتابة في هذا الموضوع ، وتذكرت بيعتي للبنا - رحمه الله - واعتقدت أن الولاء قائم بها للهضيبي ، وامتثلت للأمر . ومنذ ذلك الوقت والبيعة تحكم تصرفاتي حتى ما يبدو منها خاصاً كرحلة مؤتمر السلام في فيينا التي لم أقم بها إلا بعد أن حصلت على لإذن الإمام المرشد الهضيبي …
جيـــان
جيـــان
الباب الثاني
وسقط القناع

ومرت الأيام وجاءت أحداث 1954 ونكباتها ومخا زيها التي أسقطت القناع عن وجه جمال عبد الناصر لتظهر عدائه للإسلام ومحاربته له في شخوص دعاته وقيادات نهضته ، وصدرت أحكام الإعدام البشعة على قمم القيادات الإسلامية : الشهيد المستشار عبد القدر عودة ، صاحب الفضيلة العالم الأزهري الورع الذي رصدت القيادة البريطانية في القنال عام 1951 عشرة آلاف جنيه لمن يأتي به حياً أو ميتاً : الشيخ محمد فرغلي الذي أُهدي للاستعمار ميتاً دون أن تخسر الخزينة البريطانية مبلغ المكافأة ، وباقي الشهداء الكرام . حتى المجاهد الكبير الإمام حسن الهضيبي حكموا عليه بالإعدام ، ولم ينفذ ، فقد أصيب فجأة بذبحة شديدة بالقلب نقل على أثرها للمنزل وقرر الأطباء أنه لن يعيش إلا ساعات ، وهنا ظهر عبد الناصر فأصدر عنه عفواً ، متوقعاً أن يقرأ نعيه في الصحف صباح اليوم التالي . ولكن قدرة الله أحبطت كيده ، وعاش الإمام . فلكل أجل كتاب ، نعم عاش ، ليؤدي بعد ذلك خدمات للمسلمين ويقود الدعوة الإسلامية في أحلك أيام شهدتها الدعوة ، وقد أظهر قوة الصلابة في الحق وهو المريض بعدة أمراض مما أذهل الجلادين وجعلهم يقودونه إلى السجن الحربي مرة أخرى ويعذبونه بأبشع أنواع التعذيب ، ولكنه ظل متمسكاً بالحق سائراً على طريق أصحاب الدعوات إلى أن شهد هو نهاية عبد الناصر وزبانيته وهو صامد ، رافع أعلام الحق والتوحيد الذي أعتقده ، متلبس بكل حبات وجوده ، وأخذ بالعزيمة ولم يتسرب إلى نفسه ضعف أو وهن في دين الله ورفض أن يأخذ بالرخص فيقيم في بيته وينكر بقلبه كما يفتي ويأخذ بذلك بعض العلماء . بل أني لأذكر له هذا الموقف الكريم الشجاع حينما أراد بعض من طالت عليهم المدة واعتراهم بعض الضعف أن يأخذوا بالرخصة ويكتبوا للطاغية مؤيدين وملتمسين العفو منه ، وسألوا الإمام حسن الهضيبي أن يأذن لهم في ذلك فقال قولته المشهورة : " أنا لا أكره أحد على الأخذ بالعزيمة والوقوف معنا ، ولكنى أقول لكم : إن الدعوات لم تقم يوماً بالذين يأخذون بالرخص " . قال ذلك وهو الشيخ الكبير ذو الثمانين عاماً ، وظل بسجن مزرعة طره إلى آخر الأفواج التي أفرج عنها بعد موت عبد الناصر … ولنا عودة أخرى إلى تفاصيل أحداث 1965 .
جيـــان
جيـــان
الباب الثاني
صرخات تنادى للواجب


وفي عام 1955رأيت نفسي مجندة لخدمة الدعوة الإسلامية بغير دعوة من أحد فقد كانت صرخات اليتامى الذين فقدوا آباءهم بالتعذيب ودموع النساء اللاتي ترملن وأزواجهن خلف قضبان السجون . والآباء والأمهات من الشيوخ الذين فقدوا فلذات أكبادهم . كانت هذه الصرخات والدموع تنفذ إلى أعماقي . ووجدت نفسي وكأني من المسئولين عن ضياع الجياع وجراح المعذبين . وأخذت أقدم القليل .
ولكن أعداد الجياع تزداد يوماً بعد يوم . وأعداد العرايا كذلك . وأخبار الشهداء الذين يقضى عليهم تحت سياط الفجرة المارقين القساة الجاحدين . والمدارس والجامعات تتطلب مصاريف وأدوات وملابس . وأصحاب المنازل يطالبون بإيجار منازلهم . وزادت المشكلة تعقيداً وثقل الحمل على حامله . واتسع الخرق على الراقع وبخاصة بعد عام ونصف . وبالتحديد في منتصف 1956 حينما خرج بعض أعداد من المعتقلين الذين لم يحكم عليهم . كان البعض منهم في اشد الحاجة لمن يزوده بالمال والطعام والملابس والمأوى . كل هذا والمسلمون في هذا البلد الطيب في مصر التي نكبت بمن قاد الانقلاب ليس فيهم من يعي واجبه . بل على العكس من ذلك وجدنا كثيراً من علماء وشيوخ الدين يتبرءون من المجاهدين …

كان الجميع من المتفرجين على ما يحدث . حتى الذين يبكون للمأساة ويتألمون كانوا يكتمون آلامهم ويخفون دموعهم خشية أن يتهمهم الطاغية بأنهم مسلمون . ولما اشتد بي الألم على ما وصلت إليه الأمور . ولم أجد لنفسي مخرجاً . ذهبت لزيارة أستاذي الجليل صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأودن . وهو من القلة القليلة التقية النقية من رجال الأزهر . وكنت أستشيره في كل ما يعرض لي من أمور الدعوة وعلوم الإسلام . وكان يعتقد معي أن عدم اندماج السيدات المسلمات ربما يخدم الإخوان في فترة مقبلة . وقد كان يعلم ببيعتي للبنا ويباركها ويؤيدها كما كان يعلم ولائي للدعوة بعد استشهاد البنا وقبله . وجلست إليه أحدثه عن مأساة الأسر . كان يستمع إليّ في ألم شديد . وأنهيت حديثي بعرض ما فكرت في عمله في حدود إمكانياتي . وكنت أرى أنه لا يكفي أن نتألم وجراح الجوع وجراح السياط وجراح العرايا وتشرد النساء والأطفال يجرى بقسوة وشدة في دوائر حياة الدعاة والملبين والمجاهدين لتكون كلمة الله هي العليا . وأرى أني أستطيع كرئيسة للسيدات المسلمات أن أقدم العون إن شاء الله لأسر الإخوان بما يمكني الله فيه . فقبل فضيلته رأسي وهو يبكي قائلاً لي : لا تترددي في أي عون . والله هو المبارك للخطى . وعدت لأوضح له موقفي في الجماعة والثقة المطلقة في شخصي من السيدات المسلمات أعضاء الجماعة فقال لي فضيلته : قد أصبح فرضاً حتمياً عليك أن لا تبخلي بجهد في هذا الطريق وما تقومين به اجعليه بينك وبين الله تبارك وتعالى ثم أضاف : إن المنقذ الوحيد بأمر الله للإسلام هم هؤلاء المعذبون " الإخوان المسلمون " لا أمل لنا إلا في الله ثم في إخلاصهم وما يبذلون في سبيل الدعوة . اعملي يا زينب كل ما تستطيعين عمله . وعملت فعلاً ما أستطيع . وبذلت جهدي في أن أقدم شيئاً ولم يشعر أحد أني أفعل شيئاً . فقد كان فرد أو فردان هما اللذان أُسلمهما ما أستطيع على أنها أشياء مرسلة لي وأنا مكلفة بنقلها إليهم فقط . ثم علمت أن الوالدة الفاضلة المجاهدة الكبيرة حرم الأستاذ الهضيبي تبذل هي أيضاً مجهوداً كبيراً مع بعض الفضليات الكريمات من الأخوات المسلمات مثل : المجاهدة آمال العشماوي حرم الأستاذ منير الدلة وكانت هي بنفسها على رأس الأخوات المسلمات . ومثل خالدة حسن الهضيبي وأمينة قطب وحميدة قطب وفتحية بكر والمجاهدة أمينة الجوهري وعلية الهضيبي وتحية سليمان الجبيلي . واتسعت اتصالاتي رويداً رويداً فاتصلت بخالدة الهضيبي في سرية شديدة ثم بحميدة قطب وأمينة قطب . وكل ذلك من أجل المعذبين والأطفال واليتامى .
جيـــان
جيـــان
الباب الثاني
على الطريق مع عبد الفتاح إسماعيل


كان أول لقاء لي به في عام 1957 وفي موسم الحج . كنت في ميناء السويس على رأس بعثة الحج لجماعة السيدات المسلمات ، وكان معي في المودعين شقيقي محمد الغزالي الجبيلي فوجدته مقبلاً عليّ في صحبة إنسان يكسو وجهه نور ومهابة يغض بصره ، قدمه لي أخي قائلاً : الأخ عبد الفتاح إسماعيل ، كان من أحب شباب الإخوان إلى الإمام الشهيد حسن البنا ، كان فضيلة المرشد يحبه ويؤثره وله فيه ثقة مطلقة ، وقد طلب مني أن أقدمه لك بهذه الصورة حتى تعرفيه ، وحياني الأخ وهو يقول سأكون ***** الله معكم في الباخرة ، فرحبت به وانصرف ، وصعدنا إلى الباخرة وتحركت بعيداً عن الشاطئ وانشغلت بمطالب البعثة ، بعثة حج السيدات المسلمات. وعندما ذهبت إلى حجرتي بعد تناول الغداء ، سمعت طرقات على الباب ، أذنت بالدخول فتكرر الطرق ثانية ولكن الطارق كان يذهب بعيداً عن فتحة الباب ، ولما سمع صوتي يأذن بالدخول للمرة الثالثة . دخل فوجدته الأخ الذي قدمه لي شقيقي على رصيف الميناء .. قال في إخبات وهو يطرق إلى الأرض بعد أن ألقى عليّ السلام .. أنا أعلم بحمد الله أن بينك وبين الإمام الشهيد حسن البنا بيعة بعد طول خلاف ، ولما سألته عن مصدر معلوماته أجاب : الإمام الشهيد نفسه طيب الله ثراه .. فسألته عما يريد ، أجاب : أن نلتقي في مكة لوجه الله نتحدث فيما كان البنا يريده منك إن شاء الله . كانت كلمات سهلة العبارات طيبة النوايا لينة ، لكنها مع بساطتها قوية صادقة ثقيلة التكاليف تحمل معنى الأمر ولا تترك مجالاً للتفكير . قلت ***** الله في دار بعثة السيدات المسلمات بمكة أو بجدة ، ولما سأل عن العناوين حدثته عن أخوين في جدة قال إنه يعرفهما وهما الشيخ العشماوي ومصطفى العالم وكلاهما يستطيع أن يرشده إلى مكان إقامتي بمكة وجدة . حياني الأخ وانصرف .

وفي ليلة من ليالي ذي الحجة كنت على موعد بعد صلاة العشاء مع فضيلة المرحوم الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم المفتي الأكبر للملكة العربية السعودية حينذاك .. وكنا نبحث معاً مذكرة قدمتها لجلالة الملك أشرح له فيها ضرورة تعليم البنات في المملكة ، وأطلب منه الإسراع في تنفيذ هذا المشروع ، مبينة مصلحة المملكة في ذلك ، وحولت المذكرة على فضيلة المفتي الذي طلب مقابلتي . وقضيت ساعتين أبحث المشروع معه . وعند انصرافي من مجلسه ، أخذت طريقي إلى باب السلام وكان في نيتي أن أطوف حين أوقفني صوت يناديني باسمي محييا بتحية الإسلام ، والتفت فإذا به عبد الفتاح إسماعيل وسألني عن وجهتي ولما عرف أنها الطواف ثم دار البعثة صحبني إلى المسجد وطفنا بالبيت معاً وبعد صلاة سنة الطواف جلسنا تجاه الملتزم وأخذ يتحدث فيما يريد .
سألني عن رأيي في قرار حل الإخوان . أجبت أنه قرار باطل شرعاً . قال : هذا الأمر الذي أريد بحثه معك .. ولما سألته أن يزورني في دار البعثة استبعدها كمكان لمثل هذه الأمور خوفاً من أجهزة التجسس الناصرية ، واتفقنا على أن نجتمع في مكتب عمارة الحرم المكي .. في مكتب معالي الرجل الصالح الشيخ صالح القزاز ، واجتمعنا هناك ولكنه أسر إليّ أن الأفضل أن نلتقي في الحرم وانصرف هو على أن نلتقي خلف مقام إبراهيم . وبعد ركعتي الطواف جلسنا خلف مبنى زمزم بالقرب من مقام إبراهيم ، وأخذ يتحدث عن بطلان قرار حل جماعة الإخوان المسلمين ووجوب تنظيم صفوف الجماعة وإعادة نشاطها ، واتفقنا على أن نتصل بعد العودة من الأرض المقدسة بالإمام حسن الهضيبي المرشد العام لنستأذنه في العمل . وقال عندما هممنا بالانصراف : يجب أن نرتبط هنا ببيعة مع الله على أن نجاهد في سبيله ، لا نتقاعس حتى نجمع صفوف الإخوان ونفاصل بيننا وبين الذين لا يرغبون في العمل أيا كان وضعهم ومقامهم ، وبايعنا الله على الجهاد والموت في سبيل دعوته . وعدت إلي مصر …
جيـــان
جيـــان
الباب الثاني
الإذن بالعمل


ومع أوائل 1958 كانت لقاءاتي قد تعددت بعبد الفتاح إسماعيل في منزلي وفي دار المركز العام للسيدات المسلمات . كنا نبحث في أمور المسلمين محاولين بكل جهدنا أن نفعل شيئاً للإسلام يعيد لهذه الأمة مجدها وعقيدتها ، مبتدئين بسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح ومن بعدهم ، جاعلين منهجنا مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وكانت خطة العمل تستهدف تجميع كل من يريد العمل للإسلام لينضم إلينا .. كان ذلك كله مجرد بحوث ووضع خطط حتى نعرف طريقنا ، فلما أردنا أن نبدأ العمل كان لابد من استئذان الأستاذ الهضيبي باعتباره مرشداً عاماً لجماعة الإخوان ، لأن دراساتنا الفقهية حول قرار الحل انتهت إلى أنه باطل لأن عبد الناصر ليس له ولاء ولا تجب له طاعة على المسلمين حيث أنه يحارب الإسلام ولا يحكم بكتاب الله تعالى .. والتقيت بالأستاذ الهضيبي لأستأذنه في العمل باسمي وباسم عبد الفتاح إسماعيل ، وأذن لنا في العمل بعد لقاءات عديدة شرحت له فيها الغاية وتفاصيل الدراسات التي قمت بها وعبد الفتاح . وكان أول قرار لبدء العمل هو أن يقوم الأخ عبد الفتاح عبده إسماعيل بعملية استكشاف على امتداد مصر كلها . على مستوى المحافظة والمركز والقرية ، والمقصود من هذا أن نتبين من يرغب في العمل من المسلمين ومن يصلح للعمل معنا ، مبتدئين بالإخوان المسلمين لجعلهم هم النواة الأولى لهذا التجمع ..
وبدأ الأخ عبد الفتاح إسماعيل جولته بادئاً بالذين خرجوا من السجون من الإخوان والذين لم يدخلوا لتختبر معادنهم وهل أثرت المحنة في عزيمتهم ، وهل دخول من دخل السجن جعلهم يبتعدون عما يعرضهم للسجن مرة أخرى أم أنهم لا يزالون على ولائهم للدعوة مستعدين للتضحية بكل غال ورخيص في سبيل الله ونصرة دينه . .
كانت عملية استكشاف لابد منها حتى نبدأ العمل على أرض صلبة ، وحتى نعرف من يصلح فعلاً ، وكنا ندرس معاً التقارير التي يقدمها عبد الفتاح إسماعيل عن كل منطقة ، وكنت أزور المرشد العام وأبلغه مجمل ما اتفقنا عليه وما وصلنا إليه .. وكنا إذا عرضنا عليه صوراً من الصعوبات التي نلاقيها ، قال : استمروا في سيركم ولا تلتفتوا إلى الوراء ، لا تغتروا بعناوين الرجال وشهرتهم . أنتم تبنون بناء جديداً من أساسه . وكان تارة يقر ما يعرض عليه وتارة يعطي بعض التوجيهات . ومن هذه التوجيهات أنه أوصانا بأن نضمك إلى مراجع بحوثنا " المحلي لابن حزم " . وفي سنة 1959 انتهت بحوثنا إلى وضع برنامج للتربية الإسلامية ، وأشهد الله على أنه لم يكن في برنامجنا غير تربية الفرد المسلم الذي يعرف واجبه تجاه ربه وتكوين المجتمع المسلم الذي سيجد نفسه بالضرورة مفاصلاً للمجتمع الجاهلي . ولما كانت جماعة الإخوان المسلمين معطلاً نشاطها بسبب قرار الحل الجاهلي لسنة 1954 كان ضرورياً أن يكون النشاط سرياً .