dolai

dolai @dolai

محررة ذهبية

الحقيقة ، د: سعد البريك

ملتقى الإيمان

فضيلة الشيخ الدكتور سعد بن عبد الله البريك

الحقيقة هي تلك الخِلْقة التي خلق الله عباده وفطرهم عليها بقوله سبحانه { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ
ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ}.

ـــ هذه الحقيقة هي جبل أبيٌّ بشموخه أن يناطحه فكر متسيب ، أو فهم متنطع بقرون واهية ومخالب
مقصوصة .

ـــ هذه الحقيقة بحر حالَ اتساعُه دون أن يختزله متهور أو متخاذل في قربة ضيقة.

ـــ هذه الحقيقة فضاء رحب مَنَعَ مَن ضاق أفقه وتحجر فهمه مِن أن يحصره في غرفة صغيرة .

ـــ هذه الحقيقة شمس تحرق كل من حاول طمْسَ شعاعها أو وَأْدَ توهجها بخرقة نتنة بالية متذرعاً بدعوى
التطور ومواكبة روح العصر .

ـــ هذه الحقيقة شجرة طيبة أصلها ثابت في الأرض وأغصانها منتشرة في السماء، فأنى لهبةِ ريحٍ أو هزةِ
عاصفةٍ أن تقتلع جذورها الراسخة رسوخ الجبال ؟.{ مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في
السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} .

بعض الناس خاضوا في صراعات مع هذه الحقيقة باسم الإصلاح ، وآخرون فتحوا جبهة مخروقة باسم الدعوة .

ولستُ أجدُ وصفاً لهؤلاء وهؤلاء أبلغ من قول الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه حين قام ينصح بعض
المنحرفين فاعتذروا بقولهم : ما أردنا إلا الخير ، فقال لهم قولاً مليئاً بالحكمة وعمق البصيرة ورجاحة العقل:
(وكم من مريد للخير لن يصيبه ).

إن من كيد ( إبليس ) أنه يتتبع نفس المسلم ويَشُمُّها حتى يعلم أي المحبتين تغلب عليها : محبة الدين أم محبة
الدنيا ، فإن رأى أن الغالب على النفس حب الدنيا والشهوات والإخلاد إلى الأرض زاد في إضعافها وثقّلها عن
الواجب وزين لها الشهوات ، حتى تترك دينها كله أو تقصر فيه وتتهاون به . وإن رأى أن الغالب عليها حب
الدين والحرص على الخير وسوس لصاحبها أن الذي يفعله من الخير قليل ولا بد من الاستكثار والزيادة ،
فيوقعه في التنطع والتشدد والغلو .

يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: ( ما من أمر إلا وللشيطان فيه نزغتان : إما إلى غلو، وإما إلى تقصير،
والحق وسط بين ذلك".

وأكثر الناس قد أخذوا في هذين الواديين وادي التقصير ووادي التعدي والمجاوزة، والقليل منهم من ثبت على
حقيقة الدين والصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .

تجاوز قوم الحد ؛ فتشددوا وتنطعوا في الدين ، وقصَّر آخرون فأعرضوا عن تزكية أنفسهم حتى أظهروا القبائح
وتجاهروا بالفسق دون حياء أو خوف .{ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها }.

العسر والتنطّع ليس من سمات هذه الشريعة تماماً كما أن التساهل والتميع ليس من سماتها .وكثيراً ما يدعو
إلى هذا وذاك قلةُ الفقه في الدين، والجهلُ بمقاصد الشرع وأصول الملة . وحقٌ على أهل الإسلام أن يسلكوا
مسالك التوسط والتيسير في الأمر كلّه، لكن بلا مداهنة ولا مجاملة ولا مجافاة للحق .عن أنس رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تشددوا على أنفسكم فيُشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشُدد
عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ".

إن دين الإسلام رخصة بعد عزيمة، ولين من غير شدّة، ويسرٌ من غير عسر، ورفع للحرج عن الأمة {يُرِيدُ
ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ} ، {يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً }.

ولقد فهم البعض من القول بيسر الشريعة وتحذيرها من التشديد أنه دعوة إلى التساهل في أمور الدين عقيدةً
وأحكاماً وأخلاقاً، أو ترغيباً في التنصل من أحكام الإسلام والضعف في نصرة الدين والحق . وهؤلاء في شطط
وبعد عن الحقيقة .

فليس من التيسير التساهل بالأحكام الشرعية والأوامر الربانية ، وليس من التيسير التهاون بالمنكرات ، وليس
من التيسير التنكر للفضائل وأصول الأخلاق والتساهل بالموبقات ، وليس من التيسير الإهمال في تربية البنين
والبنات، وتركهم نهباً لزيغ العقائد وتيارات الإلحاد والبعد عن الالتزام بأحكام الإسلام والحفاظِ عليهم من دواعي
الفجور واللهو المحرم بحجة التحضّر والبعد عن التعقيد وتغيّر الزمان.

وليس من التيسير ما يسلكه البعض حين يدَّعون سماحة الدين أمام أعداء الإسلام ، ويتنصلون من أحكامه
وتعاليمه ، ثم هم من أشدّ الناس على الصُّلحاء والأخيار، بل قد يوظِّفون دعوى التيسير أداةً لقمع الدعوة إلى
الحق وكبت الخير وتكبيله بحجة مسايرة العصر.وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: "
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور".

إن من يجيل النظر في جوانب هذا الدين ويمعن فكره في نواحي عظمته وشواهد حكمته يجد أن هناك سمة
بارزةً وميزةً ظاهرةً وحقيقة راسخة كانت سبباً في تبوّؤ هذه الأمة مكانتها المرموقة بين الأمم، ومنحِها
مؤهلات القيادة والريادة للبشرية، ومقومات الشهادة على الناس كافة. إنها حقيقة الاعتدال والوسطية التي
تُجَلّي صور سماحة الإسلام ، وتبرز محاسنه ورعايته للمثل الأخلاقية العليا والقيم الإنسانية الكبرى { وَكَذٰلِكَ
جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : ( إن الشريعة جارية في التكليف لمقتضاها على الطريق الوسط العدل الآخذِ
من الطرفين بقسط لا ميل فيه، فإذا نظرت إلى كلية شرعية فتأملها تجدها حاملةً على التوسط والاعتدال، ورأيت
التوسط فيها لائحاً، ومسلك الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يُرجع إليه، والمعقِل الذي يُلجأ إليه). ويقول الإمام
العز بن عبد السلام رحمه الله : (الأولى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جلب مصلحة أو درء
مفسدة ، مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير) .

تابع ........


وتتجلّى حقيقة هذه الوسطية في كافة مجالات الحياة :

ففي مجال الاعتقاد جاء الإسلام وسطاً بين الملل كلها ، فلا إلحاد وإعراض بالكلية ، ولا تدين يشوبه شرك ، بل
عبودية خالصة لله في الربوبية والألوهية { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } .

وفي مسألة الإيمان وسطٌ بين من جَفَوْا فلم يتعاهدوا إيمانهم ولم يتمسكوا بدينهم ، وبين من غلَوا فأخرجوا من
دائرة الإيمان من عمل بعض المعاصي. والبعض كفروا بالكبيرة ، وأهل الحق لا يكفِّرون بالذنوب ما لم تُستحلّ،
كما لم يجعلوا المذنب كامل الإيمان ، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.

وفي مسألة الغرائز والشهوات نجد أن أقواماً أعرضوا عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح وتلبية
الغرائز بالطرق المباحة ، بينما تجاوز آخرون وتهاونوا بالأعراض فارتكبوا الزنا واللواط . لكن هذه الملة السمحة
راعت مقتضيات الفطرة وحققت الانسجام الكامل بين متطلبات الروح والجسد، بلا غلو في التجرّد الروحي، ولا
في ارتكاس في الدرَك المادي، فلا رهبانية ولا مادية، بل تناسق واعتدال ، بنور من قوله تعالى { وَٱبْتَغِ فِيمَا
ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا }.

لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون رضي الله عنه عن التبتل ، وأنكر صلى الله عليه وسلم
على من حرَّم نفسه طيبات الدنيا قائلاً: " أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد،
وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". رواه البخاري ومسلم . كما حذَّرت الملة من الزنى وإطلاق
العنان للشهوات والنزوات.قال تعالى { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا }،وقال صلى الله عليه
وسلم :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر
حين يشربها وهو مؤمن ". رواه البخاري ومسلم وأبو داود .

إن حقيقة هذه الشريعة أنها تنأى بأهلها عن كل الكبوات والنبوات والهزات والهفوات التي تُخِلُّ بغاية وجود
الإنسان ، وتضيِّع حقوق البشر، وتفرط في تحقيق التوازن بين متطلبات الروح والجسد ، حيث تأرجحت كثير
من النظم المادية ــ كما هو ظاهر معلوم ــ في المدنية الغربية التي تنطلق من نظرات ومقتضيات مادية صِرفة ،
حتى تنادى عقلاؤهم ومنصفوهم بالحاجة إلى منهج يحقق التوازن بين الرغبات والتناسق بين المتطلبات ،
ويرتفع بالبشرية إلى مستوى إنسانيتها وتحقيق قيمها ومثلها، وينتشلها مما تعاني منه من بؤس وطغيان
وشقاء . ولن يجدوا ذلك إلا في هذه الشريعة الربانية الخالدة .

ومن المجالات المهمة التي تبرز فيها حقيقة الوسطية : ما يتعلّق بالتحليل والتحريم ، حيث توسطت بين
المتنطعين الذين حرموا على أنفسهم كثيراً من الطيبات ، وبين المتساهلين الذين استهانوا بالمحرمات
والمنهيات.

وفي منهج النظر والاستنباط نجد أن هذا الدين وازن بين الحفاظ على مصادر التلقي والاحتكام والرجوع إليها ،
وبين الاستفادة من كل ما هو جديد في عالم المعرفة والتطور ، فلا جمود وتحجر وتقوقع، ولا انفلات وذوبان في
حمأة المادية ، بل استِفادة من كل ما هو جديد مع المحافظة على الثوابت .

وفيما يتعلق بالمرأة ، جاءت هذه الشريعة الغراء والمرأة مظلومة بين جاهليتين ، فكرَّمتها وحفظت حقوقها،
وأكّدت على مكانتها وعِظم منزلتها، وجعلتها مرفوعةَ الرأس، عاليةَ المكانة، مرموقةَ القدْر، لها الاعتبارُ الأسمى
والمقامُ الأعلى، تتمتّع بشخصيةٍ محترمة وحقوقٍ مقرّرة وواجبات معتبرة. نظرت إليها على أنها شقيقةُ الرجل،
خُلِقا من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر ويأنس به في هذه الحياة، في محيط خيرٍ وصلاح وسعادة، قال صلى الله
عليه وسلم :"إنما النساء شقائق الرجال" . رواه أحمد وأبو داود والترمذي .

كما سمت بها أن تكون أجيرة مستعبدة تُعامَل كسِقط المتاع ، فإنها صانتها من الوقوع في مستنقعات الرذيلة،
وكفلت لها حريتها الشرعية، ونأت بها عن مسالك التحرر من القيم والهبوط إلى براثن الإباحية والانحلال ،
والانسلاخ من الفضائل وسلوك مسالك التبرج والسفور والاختلاط المحرم ... إلى غير ذلك من الدعوات التي
تنطلق من مبادئَ مُهلكةٍ ومقاييسَ فاسدة منتنة ، تزيِّن الشرورَ والفساد بأسماء برّاقة ومصطلحات خادعة.

وفي مجال الأخلاق والسلوك تبرز حقيقة هذا الدين في قدرته على التوازن بين الجنوح إلى المثالية وبين
الواقعية ، فشرع وسطيةً تزكي المشاعر، وتهذّب الضمائر، وتسمو بالتفكير والشعور، وتوازن بين متطلبات
الفرد والمجتمع، وإعمال العقل والعاطفة، في تربية متوازنة، وتنسيق متَّسق بديع، على ضوء المنهج النبوي:
" إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه "
أخرجه أحمد ومسلم.

وفي النظام الاقتصادي تجلت الوسطية في الموازنة بين حرية الفرد وحق المجتمع، فهي تحترم الملكية الفردية
وتقرها ، ولكن هذبتها بحيث لا تضر بمصلحة المجتمع . جاء الإسلام وسطاً بين رأسمالية ترعى الفرد على
حساب الجماعة ، واشتراكية تلغي حقوق الأفراد وتملُّكَهم بحجة مصلحة الجماعة.

وفي مجال الإنفاق قال تعالى { وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }، قال حذيفة بن
اليمان صلى الله عليه وسلم : (هو الحسنة بين سيئتين)، والمراد أن الإسراف سيئة والتقتير سيئة والحسنة ما
بين ذلك، فخير الأمور أوسطها. وبرغم هذا السمو في التشريع فإننا نجد أقواماً منعوا الزكاة الواجبة وبخلوا
بأموالهم، وآخرين تجاوزوا الحد فأخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا يسألون الناس ويطمعون بما في أيديهم.

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كِلا طرفي قصد الأمور ذميم .


وللحديث بقية .... .


10
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

نور عيونيB
نور عيونيB
جزاكي الله كل خير
اخت المحبه
اخت المحبه
بارك الله فيك
أحب الكيك
أحب الكيك
مشكورره
القــــرآن في قلبي
جزاك الله خير الجزا واثابك الله غاليتي على هذه الدرر الثمينه

رفع الله قدرك ورزقك الجنه ونعيمها
dolai
dolai
جزاكن الله كل خير واشكر مروركن الكريم