قطرات.. رواية من المستقبل

الأدب النبطي والفصيح

بسم الله الرحمن الرحيم




هذه الرواية واقعية، إلا أنها من نسج الخيال..


تقع أحداثها في المستقبل، إلا أنها امتداد للحاضر..


قد يكون أي منا أحد أبطالها..


استمتعي بالرواية..


وبما تحمل من أفكار بين طياتها..



***

7
738

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

**متفائلة دوما**
بسم الله الرحمن الرحيم

~~ ( 1 ) ~~


التاريخ
19/ 7 /2030



بدأت باستعادة وعيها ، كان شيئاً بارداً هو الذي أوقظها.. لم تستوعب حتى الآن ما هو .. هل هي أختها تزعجها بقنينة الماء الباردة.. أم لعلها صديقتها كعادتها تحب إزعاجها إن هي تركت الشبكة الخاصة المتصلة بينهما مفتوحة "نسيت إغلاقها ثانيةً!" لامت نفسها..
لكن الصوت الذي بدأ يأتيها من بعيد ليس صوت أياً منهما، ولا يشبهه حتى..
ما هذا الصوت..؟!
هذه الفكرة أقلقتها لدرجة أنها بدأت ترغم باقي جسدها على الاستيقاظ ومحاولة استيعاب ما يحدث.. قبل أن تتمكن من فتح عينيها شعرت بشيء غريب.. شعور لم يسبق لها معايشته في حياتها..
هناك شيء يدغدغها بطريقة غريبة..
في ذلك الجزء الضئيل من الثانية كان عقلها يعمل بسرعة محاولاً أن يحلل ويكتشف ما يكون، في اللحظة التي كانت تفتح عينيها..
وقبل أن تستوعب المنظر الذي أمامها ، ازداد اندفاع تلك البرودة ، إنه المطر..
مطر حقيقي!
كان رذاذ متواصل من المطر يهطل عليها ، ازدادت قوة الهطول حتى بدأت تشعر كأنها تضرب بشيء دقيق.. وكان هناك تيار هواء قوي يدفعها ليجبرها للتحرك باتجاه معين..
لازالت الصورة ضبابية..
أين هي الآن؟ وما الذي يحدث؟!!
بدأت الرؤية تتضح لديها بالتدريج..
تحاول أن تستوعب المشاهد التي أمامها..
الصور لا زالت غير مفهومة، وإن اتضحت الرؤية!! "ماذا أرى!!"
عشرات الآلاف من الأجهزة المحطمة، بقايا أجهزة، مبعثرة في كل مكان.. على..!
لم تكن هذه هي الأرض التي ألفتها..!
إنها شيء آخر..
رمال حمراء، منثور عليها سجاد من الرمال البيضاء اللامعة..!
و..
قبل أن تمنطق ما ترى، استوعبت أنها تستمع لصياح وبكاء مختلط، أناس كثر يبكون ويصرخون هنا وهناك..
بعضهم هائم على وجهه، وبعضهم يرفع أجزاء من تلك الأجهزة والحاويات وينادي على اسم ما..
والدماء تغطي بعضهم..
والمطر يزداد غزارة وقوة في هطوله..
والهواء يشتد في دفعها ، وفي دفع الآخرين، وكلن يتشبث في ما تصل إليه يده..
و..
فجأة استوعبت ما يحدث وتذكرت كل شيء..
"هيفاء!"
صديقتها كانت تتحدث معها قبل قليل أين هي.
"هيفااااء" أخذت تصيح عليها وهي متمسكة بحد حاوية بارزة من بين أكوام أخرى لم تستطع استيعاب ما تمثل..
"لا فائدة لن تسمعني مع هذا الضجيج" حدثت نفسها..
"عليّ أن أفتش عنها، قد تكون في ورطة تحت بعض الأنقاض"
وصارت تفتش وتنادي على صديقتها، مثل ما يفعل الآخرون..
قبل عشرون دقيقة من الآن، كانت هند تتحدث مع هيفاء وهما تقضيان وقتاً ممتعا في التنزه في (حديقة الكائنات البحرية النادرة) ..
وكانتا تقرءان كل ما ذكر من معلومات عن هذه الكائنات النادرة عبر نافذة الألياف البصرية الافتراضية التي تظهر على الحوض الذي توجهان انتباههما إليه..
لم تعد الكائنات البحرية متوفرة هذه الأيام، ولم يعد البشر بحاجة إليها سوى للتمتع بجمالها.. فهذا هو أنسب مكان لها الآن!
هذه الحديقة ، كسواها من الحدائق، تحتوي على نظام تهوية مختلف عن ما هو موجود في باقي الأماكن..
فدرجات الحرارة هنا، مع أنها تتشابه مع البقية في الخارج بتكيفها مع درجة حرارة أجساد الناس الموجودين في المكان وكذلك بضبط درجة الرطوبة ، إلا أن الحدائق الحالية تمتاز عن بقية الأماكن بإشعار مرتاديها بأجواء عطرية متنوعة مختلفة، تعبق للشخص حسب ما يجذبه من رائحة، بناء على نظام حساس يرسل نبضات معينة من مركز نظام التكييف نحو مركز الشم في الدماغ، ويستقبل منه الرائحة التي يفضلها من مخزن الروائح لديه، فيطلق هذا النظام الرائحة المحببة لكل شخص تتبعه ليستمتع بها كل على حده..
جاءت هند مع صديقتها هيفاء لقضاء يومان في الساحل الشرقي ، من باب تغيير الجو..
صحيح أنهما كثيراً ما تنزها معاً في أماكن رائعة في جزر المحيط الكبير، من خلال الشاشة الافتراضية ، وهما في غرفتيهما، إلا أن النظام الافتراضي لا يشبع أبداً الفضول البشري، خاصة إذا كان كفضول هاتين المشاكستين!
لم تكن والدتها سعيدة برحلتها هذه، ولا ترى لها أي داعي، إلا أن والدها أيدها، فكثيراً ما يشير لرأيه بأن العالم الافتراضي لا يمكن أن يكون هو كل حياتها
"الواقع أن العالم الافتراضي ليس كل شيء، وإن كان!" هذا ما كان يردد.
الآن تذكرت أن شيئاً غريباً حدث ، كأن العالم توقف معه لحظات، ثم غابت عن الوعي..
"هل هي صاعقة؟!"
مع أنها تعلم أن جدران الحاويات التي يعيش فيها المجتمع اليوم على امتداد جميع الأماكن المأهولة، كلها جدران مقاومة لجميع عوامل التخريب الطبيعية والصناعية، حتى القنابل لا تقدر عليها! فهي مصنوعة من مادة تم تكوينها بتركيبة شديدة البساطة لكن شديدة الصلابة أيضاً..
"هذا الرمل الأبيض هو المكون لجدران الحاويات التي نتنقل بداخلها!" الآن استوعبت.
استمرت هند في رفع ما تستطيع أن ترفع..
"أشعر بأني أحفر في الرمل الناعم" عاشت تجربة الرمل الناعم في ملعب الرمال عندما كانت صغيرة..
فلا يوجد في بيئتهم رمال حقيقية للعب بها..
قبل اليوم طبعا..!!
كانت أمها تخبرها عن بحار الرمال الساطعة كانت تعبرها كل يوم في بداية شبابها للوصول إلى مكان عملها..
"تقطعين الصحراء على مركبة مترنحة!" سألت هند والدتها عندما أخبرتها عن ذلك في المرة الأولى..
"وبأجواء مناخية لا تطاق، فضلاً عن انعدام وسائل السلامة" أخبرتها أمها.. "ومع ذلك ها أنا لا أزال على قيد الحياة" قالتها ضاحكة..
"لا أدري كيف كنتم تعيشون!" كانت هند تستغرب، بل تتعجب ويصعب عليها أحياناً تخيل بعض ما يصف لها من يكبرونها سناً.. وتلجأ إلى شاشتها الافتراضية وتطلب منها أن تعرض لها ما عصى عليها تخيله..

"قدرة الله فوق كل شيء" قالت لنفسها.. "قد نغتر بما وصلنا إليه من تقدم بالعلم إلى درجة تجعلنا ننسى قدرة الله تعالى" تذكرت شيئاً قرأته سابقاً حول هذا المفهوم.
لا تستطيع أن تحدد أين هي الآن على وجه التحديد..
بدأت تبحث عن المساعدة وتستجدي الآخرين تطلب منهم البحث معها..
تسألهم إن كانوا رأوا فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها ترتدي ملابس زرقاء..
"كلٌ يبكي على ليلاه"! لم يعرها أحد اهتماماً..
شعرت بالفتور والإنهاك..
بدأت هند تبكي ، تسرب إليها اليأس ، أين تبحث وكيف سترفع هذه الأكوام..
" ربما هيفاء الآن تبحث عني في مكان آخر" عززت نفسها بهذا الأمل..
قررت هند أن تلوذ في مكان يحميها من هذا المطر وتلملم شتاتها قبل أن تعاود البحث من جديد..
**متفائلة دوما**
بسم الله الرحمن الرحيم ~~ ( 1 ) ~~ التاريخ 19/ 7 /2030 بدأت باستعادة وعيها ، كان شيئاً بارداً هو الذي أوقظها.. لم تستوعب حتى الآن ما هو .. هل هي أختها تزعجها بقنينة الماء الباردة.. أم لعلها صديقتها كعادتها تحب إزعاجها إن هي تركت الشبكة الخاصة المتصلة بينهما مفتوحة "نسيت إغلاقها ثانيةً!" لامت نفسها.. لكن الصوت الذي بدأ يأتيها من بعيد ليس صوت أياً منهما، ولا يشبهه حتى.. ما هذا الصوت..؟! هذه الفكرة أقلقتها لدرجة أنها بدأت ترغم باقي جسدها على الاستيقاظ ومحاولة استيعاب ما يحدث.. قبل أن تتمكن من فتح عينيها شعرت بشيء غريب.. شعور لم يسبق لها معايشته في حياتها.. هناك شيء يدغدغها بطريقة غريبة.. في ذلك الجزء الضئيل من الثانية كان عقلها يعمل بسرعة محاولاً أن يحلل ويكتشف ما يكون، في اللحظة التي كانت تفتح عينيها.. وقبل أن تستوعب المنظر الذي أمامها ، ازداد اندفاع تلك البرودة ، إنه المطر.. مطر حقيقي! كان رذاذ متواصل من المطر يهطل عليها ، ازدادت قوة الهطول حتى بدأت تشعر كأنها تضرب بشيء دقيق.. وكان هناك تيار هواء قوي يدفعها ليجبرها للتحرك باتجاه معين.. لازالت الصورة ضبابية.. أين هي الآن؟ وما الذي يحدث؟!! بدأت الرؤية تتضح لديها بالتدريج.. تحاول أن تستوعب المشاهد التي أمامها.. الصور لا زالت غير مفهومة، وإن اتضحت الرؤية!! "ماذا أرى!!" عشرات الآلاف من الأجهزة المحطمة، بقايا أجهزة، مبعثرة في كل مكان.. على..! لم تكن هذه هي الأرض التي ألفتها..! إنها شيء آخر.. رمال حمراء، منثور عليها سجاد من الرمال البيضاء اللامعة..! و.. قبل أن تمنطق ما ترى، استوعبت أنها تستمع لصياح وبكاء مختلط، أناس كثر يبكون ويصرخون هنا وهناك.. بعضهم هائم على وجهه، وبعضهم يرفع أجزاء من تلك الأجهزة والحاويات وينادي على اسم ما.. والدماء تغطي بعضهم.. والمطر يزداد غزارة وقوة في هطوله.. والهواء يشتد في دفعها ، وفي دفع الآخرين، وكلن يتشبث في ما تصل إليه يده.. و.. فجأة استوعبت ما يحدث وتذكرت كل شيء.. "هيفاء!" صديقتها كانت تتحدث معها قبل قليل أين هي. "هيفااااء" أخذت تصيح عليها وهي متمسكة بحد حاوية بارزة من بين أكوام أخرى لم تستطع استيعاب ما تمثل.. "لا فائدة لن تسمعني مع هذا الضجيج" حدثت نفسها.. "عليّ أن أفتش عنها، قد تكون في ورطة تحت بعض الأنقاض" وصارت تفتش وتنادي على صديقتها، مثل ما يفعل الآخرون.. قبل عشرون دقيقة من الآن، كانت هند تتحدث مع هيفاء وهما تقضيان وقتاً ممتعا في التنزه في (حديقة الكائنات البحرية النادرة) .. وكانتا تقرءان كل ما ذكر من معلومات عن هذه الكائنات النادرة عبر نافذة الألياف البصرية الافتراضية التي تظهر على الحوض الذي توجهان انتباههما إليه.. لم تعد الكائنات البحرية متوفرة هذه الأيام، ولم يعد البشر بحاجة إليها سوى للتمتع بجمالها.. فهذا هو أنسب مكان لها الآن! هذه الحديقة ، كسواها من الحدائق، تحتوي على نظام تهوية مختلف عن ما هو موجود في باقي الأماكن.. فدرجات الحرارة هنا، مع أنها تتشابه مع البقية في الخارج بتكيفها مع درجة حرارة أجساد الناس الموجودين في المكان وكذلك بضبط درجة الرطوبة ، إلا أن الحدائق الحالية تمتاز عن بقية الأماكن بإشعار مرتاديها بأجواء عطرية متنوعة مختلفة، تعبق للشخص حسب ما يجذبه من رائحة، بناء على نظام حساس يرسل نبضات معينة من مركز نظام التكييف نحو مركز الشم في الدماغ، ويستقبل منه الرائحة التي يفضلها من مخزن الروائح لديه، فيطلق هذا النظام الرائحة المحببة لكل شخص تتبعه ليستمتع بها كل على حده.. جاءت هند مع صديقتها هيفاء لقضاء يومان في الساحل الشرقي ، من باب تغيير الجو.. صحيح أنهما كثيراً ما تنزها معاً في أماكن رائعة في جزر المحيط الكبير، من خلال الشاشة الافتراضية ، وهما في غرفتيهما، إلا أن النظام الافتراضي لا يشبع أبداً الفضول البشري، خاصة إذا كان كفضول هاتين المشاكستين! لم تكن والدتها سعيدة برحلتها هذه، ولا ترى لها أي داعي، إلا أن والدها أيدها، فكثيراً ما يشير لرأيه بأن العالم الافتراضي لا يمكن أن يكون هو كل حياتها "الواقع أن العالم الافتراضي ليس كل شيء، وإن كان!" هذا ما كان يردد. الآن تذكرت أن شيئاً غريباً حدث ، كأن العالم توقف معه لحظات، ثم غابت عن الوعي.. "هل هي صاعقة؟!" مع أنها تعلم أن جدران الحاويات التي يعيش فيها المجتمع اليوم على امتداد جميع الأماكن المأهولة، كلها جدران مقاومة لجميع عوامل التخريب الطبيعية والصناعية، حتى القنابل لا تقدر عليها! فهي مصنوعة من مادة تم تكوينها بتركيبة شديدة البساطة لكن شديدة الصلابة أيضاً.. "هذا الرمل الأبيض هو المكون لجدران الحاويات التي نتنقل بداخلها!" الآن استوعبت. استمرت هند في رفع ما تستطيع أن ترفع.. "أشعر بأني أحفر في الرمل الناعم" عاشت تجربة الرمل الناعم في ملعب الرمال عندما كانت صغيرة.. فلا يوجد في بيئتهم رمال حقيقية للعب بها.. قبل اليوم طبعا..!! كانت أمها تخبرها عن بحار الرمال الساطعة كانت تعبرها كل يوم في بداية شبابها للوصول إلى مكان عملها.. "تقطعين الصحراء على مركبة مترنحة!" سألت هند والدتها عندما أخبرتها عن ذلك في المرة الأولى.. "وبأجواء مناخية لا تطاق، فضلاً عن انعدام وسائل السلامة" أخبرتها أمها.. "ومع ذلك ها أنا لا أزال على قيد الحياة" قالتها ضاحكة.. "لا أدري كيف كنتم تعيشون!" كانت هند تستغرب، بل تتعجب ويصعب عليها أحياناً تخيل بعض ما يصف لها من يكبرونها سناً.. وتلجأ إلى شاشتها الافتراضية وتطلب منها أن تعرض لها ما عصى عليها تخيله.. "قدرة الله فوق كل شيء" قالت لنفسها.. "قد نغتر بما وصلنا إليه من تقدم بالعلم إلى درجة تجعلنا ننسى قدرة الله تعالى" تذكرت شيئاً قرأته سابقاً حول هذا المفهوم. لا تستطيع أن تحدد أين هي الآن على وجه التحديد.. بدأت تبحث عن المساعدة وتستجدي الآخرين تطلب منهم البحث معها.. تسألهم إن كانوا رأوا فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها ترتدي ملابس زرقاء.. "كلٌ يبكي على ليلاه"! لم يعرها أحد اهتماماً.. شعرت بالفتور والإنهاك.. بدأت هند تبكي ، تسرب إليها اليأس ، أين تبحث وكيف سترفع هذه الأكوام.. " ربما هيفاء الآن تبحث عني في مكان آخر" عززت نفسها بهذا الأمل.. قررت هند أن تلوذ في مكان يحميها من هذا المطر وتلملم شتاتها قبل أن تعاود البحث من جديد..
بسم الله الرحمن الرحيم ~~ ( 1 ) ~~ التاريخ 19/ 7 /2030 بدأت باستعادة وعيها ، كان شيئاً...

~~ ( 2 ) ~~

وجدت هند لوحاً مائلاً من حاوية دفنت أغلب أجزائها تحت الحطام، وقدّرت أنها يمكن أن تستوعب جسدها الصغير إن هي انحنت بعض الشيء.. دخلت تحته وضمت جسدها واستمرت تبكي..
كانت تشعر بمشاعر لم تعرفها من قبل في حياتها..
الخوف..!
الخوف من ما حصل.. ما الذي حدث!
الخوف مما يحصل الآن.. أين هيفاء، هل هي بخير!!
الخوف مما سيحصل.. لم يستطع عقلها أن يصور لها ما يمكن أن يحدث بعد هذه اللحظة!
المشهد أمامها يجعل المرء يعجز عن طرح التوقعات..
لا زال الناس في حالة الفوضى، بعضهم يصيح بأسماء يبحث عنها..
بعضهم يصرخ من الخوف أو الألم..
والبعض قد يأس من الحركة بلا هدف..
الدماء تغطي أغلبهم..
البعض ملقي ربما ميت أو مجروح.. لكن هيفاء ليست منهم.. الحمد لله !
"يا إلهي! هل يعقل!!!"
استوعبت أن ما تنظر إليه هو عضو بشري مبتور!!!
لم تحتمل المنظر.. غضت طرفها وأمسكت برأسها في محاولة لمنع نفسها من فقدان الوعي..
لم ترد أن تفقد أعصابها في هذا الموقف العصيب..
فشعور الأمان لديها الآن مرتبط بوجود هيفاء إلى جوارها..
كان هذا ما يشغل فكرها الآن..
للحظة، جاءتها حالة تأمل..
كل الناس مشغولون بطريقة أو بأخرى..
وكأن لا أحد منهم مستوعب وجود أحد سواه..!
جالت في خاطرها فكرة أن هيفاء يمكن أن تكون من ضمن ...
هزت رأسها واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم، وعقدت العزم على أن تباشر البحث من جديد الآن..
لأن حالة الانتظار هذه لم تجلب لها سوى الأفكار السيئة.
ربطت جأشها ومسحت دموعها بيديها وعادت تبحث حول المكان الذي استيقظت فيه أول الأمر..
تصيح باسم هيفاء..
ترفع ما تستطيع أن ترفع، وما تتجرأ أن ترفع ..
كانت تجد بعض المناظر السيئة أحياناً..
و عاودها الشعور بالوهن، ولكن كان الواهن هذه المرة جسدها، وليست عزيمتها..
قررت أن تطلب المساعدة، أو تسأل من يبحثون لعلهم رأوها..
بدأت تحاول إيقاف بعضهم لكن لم يعطها أحد فرصة..
واكتشفت أن صوتها كان ضعيفاً جداً لدرجة لن تجعل أحد يلتفت إليها..
كان ذلك من تأثير الصياح..
"ستأتي المساعدة قريباً وستكون هيفاء بخير" أخذت توحي لنفسها بإيحاءات إيجابية لتتمكن من الاستمرار..

*****

توقف المطر المنهمر..
اقترب المغيب، والناس على حالهم من التوهان..
لم تبد أي بادرة لوصول مساعدة حتى الآن..
يبدو أن الكل قد فقد الشعور بالوقت..
كانت كأنها لحظات من كابوس مزعج ينتظر المرء أن يستيقظ منها سريعاً..
لكنها كانت الواقع!
تنبه أحدهم أن أوقات فريضيتين قد مضت وسيحل وقت الثالثة ولم يصلوا بعد..
حاول أن يتوقع اتجاه القبلة بناء على خلفيته البسيطة حسب موقعه من الشمس..
استقبل ما ظن أنها القبلة وبدأ الآذان..
فعلاً.. الكثير منهم لم ينتبهوا لمضي كل هذا الوقت..
صار المؤذن كأنه قبلة لهم..
كثير توجهوا إليه..
وكأن لديه إجابات على أسئلة العالم بأسره..
تحلق من تجمعوا حوله وأخذوا يتساءلون..
بعضهم يسأله عما حدث..
والبعض يشكوا من فقد من كانوا معه..
والكل مستغرب "أين هي المساعدة؟؟!! لقد تأخروا"
لم تكن هناك أية إجابة..
اقترح أحدهم أن يوأدوا صلواتهم الفائتة قبل غروب الشمس، ثم يتباحثون عما يمكنهم أن يفعلوا..
كأن الجميع ألجم ولم يتمكن من فهم ما يقول!!
"كيف نصلي بدون وضوء؟!!" تساءل أحد الشبان..
لم يمروا بظرف حجب عنهم الماء فيه من قبل..!
من حسن حظهم أن البعض تذكر شيئاً عن التيمم.. وشرح للبقية ما عليهم فعله..
كان الظلام بعدها قد حل، وازداد وضوح شعورهم بالخوف..
صار خوفهم من المجهول هو الطاغي الآن..
بالرغم من أن القلة عادوا للبحث، إلا أن الأغلبية مالت للتجمع كمجموعات صغيرة هنا أوهناك..
أحد هذه المجموعات بدأت تتصاعد فيها نبرة صوت غاضب..
وارتفعت الأصوات..
كأن عراكاً سيقع الآن..

***

شعرت هند بالراحة بعد أن أدت صلواتها..
دعت الله كثيراً أن يفرج عليهم هذا الكرب وأن تجد هيفاء وهي بخير..
كانت قد سمعت من قبل عن التيمم، لكنها المرة الأولى التي تتيمم فيها..
انتبهت لصوت تلك الجماعة الغاضبة..
كانت قريبة منهم بدرجة تكفي لسماع بعض الكلمات التي تصدر عنهم..
لم تكن كلمات مريحة..الأمر مقلق..
سمحت لنفسها بالتطفل والانضمام إليهم.. شعور قوي بداخلها يقول لها يجب أن تتدخلي!
كان اثنان منهما يصرخان بغضب على بعضيهما، ويدفعان بعضهما أحياناً، أما الثالث فكأنه يعلن عما يخجل منه ، أو لعله يخشاه!!
لازال ذلك الشعور الداخلي يلح عليها بالتدخل..
"الآن" قالت دافعة نفسها..
"هل ترون الوقت مثاليٌ للعراك.." تشجعت ونطقت بتلك الكلمات بحزم وقوة، لم تدر بأن صوتها قد عاد إليها!
التفت إليها أحد الغاضبين وقال لها "لو علمت بما يقوله هؤلاء المجانين لعرفت سبب العراك"
تساءلت "ما الموضوع؟"
التفت الغاضب الآخر نحو الشاب الخائف وأشار إليه "تفضل وأعلن ما لديك"
تردد الشاب وكأنه ينتظر عقاباً من نوع ما، إلا أنه قال بعد أن عاود زميله يشجعه "يجب أن نغادر!"
استغربت هند من هذه السخافة، وأحست بأنها تشاطر ذلك الغاضب شعوره، همت بتركهم لأنها أحست بأن الأمر سخيف ولا يستحق منها لحظة تضيعها بينهم..
"إن ما حصل يعني أننا انعزلنا عن العالم تماماً، لا يمكن لأحد أن يصل إلينا، ولا أن نصل إلى أي مكان يخدمنا!!" أكمل الشاب، وكأنه خشي أن تذهب قبل أن تستمع للباقي
عادت هند وقد جذب اهتمامها هذه المرة "ما هذا الكلام الفارغ؟"
أزاح الشاب كل ذلك التردد ليكمل "صدقوني، أنا أعمل متخصصاً بيولوجياً للنانو في محطة النانو المركزية في المنطقة منذ أكثر من عشر سنوات، وأعرف بأن تحطم هذه الجزئيات بالصورة التي حدثت ليس له سوى معنى واحد.. أننا تعرضنا لنوعية إشعاع فريدة من نوعها، بعضنا تمكن جسده من التوافق معها، والبعض الآخر لم يتمكن لظروف معينة يصعب شرحها الآن، لكن النقطة المهمة بالموضوع، هي أننا مجرد كوننا تعرضنا لتلك الأشعة تلك اللحظة وبهذه الظروف وما نتج عنها، فإن ذلك يعني استحالة عودتنا إلى نفس البيئة التي كنا فيها سابقاً، لسببين، أولاً لأنه سيقتلنا، فيكفي أجسادنا أنها تمكنت من تجاوز تلك الصدمة، ولا يمكن لجسد بشري مهما قدم له من تعزيزات خارجية أن يتحمل صدمة أخرى.."
شعر بأنه استحوذ على كامل اهتمامهم الآن، أخذ نفساً عميقاً قبل أن يكمل "السبب الثاني هو أن الإشعاع الذي انطلق لو اقترب منه أي إنسان لم يتعرض للحظة الانطلاق تلك فإنه سيقضي عليه بالتأكيد..!"
نظر إليهم وأكمل "والأهم من كل ذلك، أن هناك احتمال بنسبة 98% بأن ما حصل هنا حصل أيضاً في كل وحدات النانو حول العالم"!!
شعروا بأن هذا الشاب قد أزاح عن كاهله هماً ثقيلاً ألقاه مضاعفاً عليهم!!
انخفضت أكتافهم كما انخفضت معنوياتهم..
انتبهت هند بأن ثلاثة آخرون قد انضموا إليهم وسمعوا بما قال الشاب..
"سيجزع الجميع و ستعم فوضى لا نحتاجها!" قالت هند في نفسها..
قالت للجميع بحزم وبصوت منخفض "ما سمعناه الآن لن تخبروا أحداً به أياً كان ، لا يجب أن نجلب لأنفسنا المتاعب، علينا أن نبحث عن حل سريع للوضع الذي نحن فيه" شعرت بالمسؤولية عن الجميع..
قال أحدهم "كلما تجمعنا كلما شعرنا بالدف ، ويمكننا أن نبحث في الصباح عن المفقودين وعن الطعام"
"فكرة جيدة.." قالت له هند "فليتجه كل إلى جهة ولنجمع الناس قريبين من بعضهم هنا، ومن وجد جريحاً فليحضره هنا أيضاً، واطلبوا المساعدة من كل من له القدرة، كونواً مواسين ولا تنسوا أن ما سمعتم هنا غير قابل للإعلان في الوقت الحاضر، لمصلحة الجميع، أعاننا الله تعالى"
وانطلق كلٌ في اتجاه.. وكأنهم كانوا بحاجة لمن يدلهم ما عليهم أن يفعلوا الآن..!

***

انتابت هند نوبة من التوتر، سببها مزيج من الانفعالات..
"لا وقت للتوتر الآن يا هند" قالت محدثة نفسها..
عرفت أنها في موقف حساس الآن.. فهي ما بين خوفها وقلقها على هيفاء، وخوفها على كل من تحب إن صدق كلام المختص، وبين تحاملها على نفسها وإظهار رباطة جأشها حتى تمضي هذه الليلة على خير..
الموقف الذي حصل قبل قليل لم يمر عليها مرور الكرام.. كان أمراً مقلقاً بالنسبة لها.. وقد وضعها في موقف لا يمكنها التراجع عنه الآن..
استمرت بتجميع الناس في المنطقة المتفقة عليها ، وهي تأمل أن تجد هيفاء في أي لحظة، وفي نفس اللحظة لا تستطيع أن تمحو من ذهنها ذلك المنظر..
إنه ليس منظر طفل جريح، ولا أم تبحث عن ابنها، ولا حتى منظر العضو البشري الذي رأته ملقي قبل عدة ساعات..
إنه منظر آخر.. منظر هؤلاء الرجال..!
عندما ألقت إليهم الأوامر، تفاجأت بردة فعلهم العجيبة! لقد استسلموا لها وسمعوا ما أمرتهم بفعله، وها هم ينفذون ما طلبت منهم..
"يا الله يا ربي يا حبيبي، اهدني وسددني، ماذا علي أن أفعل الآن".. كانت هند تدعو في قلبها..
أخبرها شعورها بأنهم سيعودون إليها بعد قليل لتخبرهم بما عليهم أن يفعلوا بعد ذلك!

جبل شامخ
جبل شامخ
.
جبل شامخ
جبل شامخ
.
.
متابعة :35:
**متفائلة دوما**
شكرا

للأسف لا يوجد تفاعل