(13)
وقف الصديقان حائران , المكان هائل البذخ من الخارج فكيف به من الداخل!
مال يحيى على أذن صديقه هامساً:
- ويحك يا رجا أين أتيت بنا ألا ترى هيئتي ؟ سأعود.
وتحرك يحيى يسرعة لاوياً رأسه ومطلقاً ساقيه لريح باردة ثقيلة لم تسعفه حملاً فقد قبض على ياقة معطفه صديقه مؤنباً:
- ما بك؟ هو رجل ثري, مليونير ولكنه مثقف وصاحب اتجاه متزن لديه مصالح كثيرة
منها بنك , وقناة فضائية , وجامعة أهلية وهو يحب المثقفين والأدب . هيا ..هيا إياك أن تجبن هنا فهذه فرصتك فقد يفتح لك الرجل آفاقاً أنت بحاجة لها .
- أو تظنني يا رجا من المنتفعين الذين يسيل لعابهم لمعرفة أمثال صاحبك , إنني
- هيا........ وجره رجا قبل أن يكمل موشحاته المثالية ودخلا البهو الكبير ليشعر يحيى بضآلته أمام هذا الترف ويحاول بكل ما أوتي من قوة أن يعالج موضوع الفتق في حذائه كيلا يظهر فيسدل بنطاله عليه وعبثاً تنجح المحاولات إلا إذا تسمر واقفاً.
- وهو يجيد التسمر وقوفا ويعشقه على حد قول رجا :
- أنت يا صديقي تطلب التحرك من حولك ولما تقع في دائرة الحركة تتسمر واقفاً .
- نعم قال يحيى ساخراً : ًفالحياة يا يحيى أيها الأديب المغوار هي صولة بقلمك في كل اتجاه وهي بحث عن أثير مناسب المناخ تسقط فيه مطر القلم , وإلا نُسيت وبقيت تقرأ مقالاتك لمن يضحك عليها في رواقات الأندية فقط .!!!!
هز رجا رأسه يأساً من صديقه ودخلا حيث زياد أبو الوفا صاحب القصر المشيد .
لمح زياد الصديقين يقدمان فقام بكل حفاوة للترحيب من بين الحشود المتواجدة والرؤوس المنتشرة وتقدم إليهما مبتسماً بكل كرم ماداً يديه مرحبا ً:
- أهلاً بكما في رواقي الأدبي فاليوم جميل بتواجد هذا الكم الهائل من الأدباء كم أنا سعيد بتشريفكما . ارتاح يحيى لترحيب السيد زياد وابتسم راداً التحية .
لم يكن يتوقع يحيى أن يكون شكل زياد هكذا ظنه ضخم بفمه سيجار مكتوب عليه صنع في هافانا, وبذلة فرنسية , وحذاء إيطالي , ولكنه كان قصيراً صغير الحجم يرتدي بذلة رمادية بدون ربطة عنق ولم يكن متأكداً من نوع الحذاء ...!
الجو في الرواق خانق من كثرة الدخان ولكنه دافيء جداً بسبب التدفئة المركزية وقد تحلق الكثير مجموعات مجموعات الكل يناقش ويتحدث ويدافع عن قضاياه وتناهى إلى مسمع يحيى مجموعة بجانبه لمح فيها أدباء وأصحاب دور نشر:
- أتعلمون يا إخوة إن صناعة النشر في عد تنازلي
- نعم نعم قال أحد الأدباء وهو يعدل من ربطة عنقه الحمراء فأنا أعاني من هبوط أسعار الكتب ورفض دور النشر لإنتاجي رغم تهافتهم عليها من قبل .
- الأمر عام ودولي والسبب يعود إلى تدني مستوى الثقافة
- وإلى غزو الإنترنت أيضاً .
- وإلى عدم رغبة الناس في القراءة فالجيل الذي يقرأ قد انقرض تقريبا ً.
- بل قل أصبح همه جمع المال ولقمة العيش
- ماهو الحل برأيكم ؟
- يجب أن يعود الكتاب هو الأول في ميزان الثقافة
- وكيف ؟؟ تخفيض أسعار الكتب لم ينجح كثيراً . من المسؤول عن هذا التدني يا ترى ؟؟
وابتسم يحيى في نفسه قائلاً : لا شك أنه صحن الفول , أبسط رد منه على العقول الغازية له يبحثون عنه ويقصفونه ولما يستهلكوه يصول ويجول في أدمغتهم وبطونهم يثقل فيهم حب الحركة والتفاعل .... .ويبتسم ساخراً
(14)
بطرف عينه ..كان يحيى يلمح السيد زياد أبو الوفا وهو يرقبه من بعيد أحس بنوع من التحرج لما رأى تحركاته ترصد وأحس بحرج أكثر أنه في هذا الجو الذي لم يستطع أبدا التأقلم معه .
وحتى رجا تركه ودار بين الناس كالنحلة يسلم على هذا وذاك .
جلس يحيى على أريكة في طرف الرواق ينظر من خلال نافذة كبيرة مطلة على حديقة غناء وقد لفت نظره هذا الاخضرار الغريب رغم الشتاء الذي يسلخ الطبيعة من ردائها المخضر , وكأن النباتات هنا لديها فصل آخر لا يتمشى مع عادية ما يفقه.
فاللغة المنسابة جمالاً من خلال النافذة العريضة تسلب فيه القدرة على فهم إشكاليات الثراء ومعادلته الصعبة في قاموسه المحدود .
تمنى لو أنه ينطلق في هذه الحديقة يختفي بين وريقات هذا الزمن الغريب ويحاول كتابة حروف وصل واتصال فهو في زمن مر تعلو في جنبات روحه توق إلى رفة بلا تقصف .
وكاد ينطلق وهو متسمر واقفا ً لولا أن أخرجه صوت زياد أبو الوفا من عالم الحلم التائه إلى واقع ذي ضوضاء ليس فيه صوته .
- ها أيها الأديب لقد سمعت من رجا أنك أديب لا يشق له غبار.
- كأني فارس وليس أديباً بهذا الوصف.
- أوليس الأديب فارس الكلمة !
وابتسم يحيى مؤيداً :
- بلى هو فارس على حصان خشبي .
- هذه إذا نبرة متشائمة .
- لم ؟؟ أعتقد أنها واقعية
- أمم فرك زياد ذقنه مبتسماً ولمعت عيناه
لم تعجب يحيى هذه الومضة وأحس بأن مطراً سيهطل وراء هذا البرق الخاطف بلون لا يحبه.
وقدم رجا لما رأى صديقه مع زياد
- ها يا صديقي أرأيت كم نحن محظوظون بالتعرف على السيد الوجيه زياد ؟
- نعم .. أجاب يحيى باقتضاب
أحس بكتفيه تثاقلان من عبء مديح لا يريده فابتلع بقية الكلام .
راقب زياد يحيى وهو مبتسم وبادره بالسؤال:
- ما آخر إنتاجك يا صاحبي؟؟
- لا جديد .
- لماذا؟
- أحس بعدم الجدوى فلمن أكتب؟؟ فالكتابة لا تنشر .
- آه مشكلة النشر هذه اتركها علي .. إسمع في الغد تأتيني بكل إنتاجك وأنا سأنشره لك كله وبالأسعار التي ترضيك .
مفاجيء جداً ..مفاجيء هذا العرض وكأنه انهيار ورود من أعلى الجبل على مرج أخضر لمار في طريق لم يكن مستعداً لها .
ألجمته الدهشة وأنقذه رجا قائلاً:
- يا إلهي ما أكرمك ! ألم أقل لك يا يحيى كم نحن محظوظون!!
أخذ زياد يدي يحيى الباردتين وربت عليهما وقال له :
- غداً في مثل هذا الوقت أنا بانتظارك لا تتأخر علي ..
(15)
كأن الدنيا ستكشف عن جمال قريب وكالتائه جر من يده حيث غرفة الطعام
المكان صفعه موقظة من سبات .
يا إلهي ماهذه الكميات من الطعام إنها تطعم أهله سنة كاملة ونظر إلى الأنواع الغريبة والأيدي المتلاحقة تجتريء على جمالها وتعبث بسطوتها القوية على نفسه .
كان له مكان ولكنه لم يستطع أن يستغله ولا أن يمد يده الباردة لتدفأ ببعض من لهيب الطعام .
وتسمر واقفاً وتجمدت أوصاله هذه المرة ليس من مرأى المتنافسين على إعدام الأطباق ولكن كانت أمامه حلوة المذاق وولده الصغير .
ونظرة عتاب في قلبه المغمى عليه حزنا ً :
- ماذا يا أبي أستأكل هذه الأطايب دوننا ..نريد منها نريد ..وتلاحقت أصواتهم الطفلة تغطي على شراسة وقوة جوعه .
فانسحب بعيدا وخارج غرفة الطعام وأنفاسه تتلاحق ويتصبب عرقاً .
كانت دهشته لما قاله الثري المليونير أبو الوفا قد تلاشت أمام هذا الشعور المر الذي يتنامى في حلقه حتى أحس به كبحر بدوامة زبدية تلجمه .
لن يخون حزن أطفاله وسيتوحد معهم
لن يخون جوعهم وينافق معدته على حساب حرمانهم
لن يفعل ..
وبينما هو في تمرده الداخلي إذا بطبق مليء يقدم له :
- تفضل يا أديب
السيد يقدم له بنفسه طبقا ً, أحس يحيى بإحراج كبير وجلس الرجل بجانبه قائلا:
- لم تركت غرفة الطعام ؟ ألم يعجبك طعامنا ؟
- وكاد يحيى أن يخرج لسانه الساخر المبتلع داخلا ً ولكن كرم ضيفه زواه في خانة استحياء
- وأجاب متلعثما : أبدا ولكني أقصد لا شيء لا شيء وصمت فقد تدافعت الدماء لرأسه وابتدأت حالة من الاختناق تمنى لو يكسر زجاج النافذة فيسمح لحر الهواء أن يحرر نفسه المقيد ة هنا .
- عموما ًقد نجد أحياناً أنفسنا في أماكن نظن أن كل من بها ليسوا من طينتنا أو لا يتنفسون من ذات الأثير الذي نتنفسه فنحس بالاختناق أليس كذلك يا أخ يحيى؟
- بل لربما امتصوا الأثير فما تبقى لنا شيء..
- لربما ..
وقف زياد أبو الوفا واستند بيديه على يدي مقعد يحيى وأحنى ظهره حتى اقترب وجهه من يحيى الجالس وأحس يحيى بأنفاس الرجل تحيط به . شعر بالاختناق أكثر واختلط الهواء برائحة عطره ممزوجاً برائحة الطبق المملوء بالطعام فما عاد يحيى يعرف من أين تنطلق الروائح ..
واقتربت أنفاس زياد من يحيى أكثر وتمركزت عيناه على عيني الأديب ليقول له :
- عندما نحس أن المكان نقص هواؤه او امتصه أحد لا نبتعد فقد يكون الخارج أكثر شحا ً.
وغمز له بعينيه ليتركه يفكر ويفكر بكل أبعاد كلامه فيا ترى ماذا يخبيء هذا الزياد
ماذا يخبيء ليحيى . ..الأديب.......
تحية لكل من يتابع وسأعود لكل من مر هنا لما أنتهي من وضع بقية الرواية وعند تمامها لكم كل حبي
بلا استثناء فلا أنسى أحدا
يتبع
(13)
وقف الصديقان حائران , المكان هائل البذخ من الخارج فكيف به من الداخل!
مال يحيى على أذن...
(13)
وقف الصديقان حائران , المكان هائل البذخ من الخارج فكيف به من الداخل!
مال يحيى على أذن صديقه هامساً:
- ويحك يا رجا أين أتيت بنا ألا ترى هيئتي ؟ سأعود.
وتحرك يحيى يسرعة لاوياً رأسه ومطلقاً ساقيه لريح باردة ثقيلة لم تسعفه حملاً فقد قبض على ياقة معطفه صديقه مؤنباً:
- ما بك؟ هو رجل ثري, مليونير ولكنه مثقف وصاحب اتجاه متزن لديه مصالح كثيرة
منها بنك , وقناة فضائية , وجامعة أهلية وهو يحب المثقفين والأدب . هيا ..هيا إياك أن تجبن هنا فهذه فرصتك فقد يفتح لك الرجل آفاقاً أنت بحاجة لها .
- أو تظنني يا رجا من المنتفعين الذين يسيل لعابهم لمعرفة أمثال صاحبك , إنني
- هيا........ وجره رجا قبل أن يكمل موشحاته المثالية ودخلا البهو الكبير ليشعر يحيى بضآلته أمام هذا الترف ويحاول بكل ما أوتي من قوة أن يعالج موضوع الفتق في حذائه كيلا يظهر فيسدل بنطاله عليه وعبثاً تنجح المحاولات إلا إذا تسمر واقفاً.
- وهو يجيد التسمر وقوفا ويعشقه على حد قول رجا :
- أنت يا صديقي تطلب التحرك من حولك ولما تقع في دائرة الحركة تتسمر واقفاً .
- نعم قال يحيى ساخراً : ًفالحياة يا يحيى أيها الأديب المغوار هي صولة بقلمك في كل اتجاه وهي بحث عن أثير مناسب المناخ تسقط فيه مطر القلم , وإلا نُسيت وبقيت تقرأ مقالاتك لمن يضحك عليها في رواقات الأندية فقط .!!!!
هز رجا رأسه يأساً من صديقه ودخلا حيث زياد أبو الوفا صاحب القصر المشيد .
لمح زياد الصديقين يقدمان فقام بكل حفاوة للترحيب من بين الحشود المتواجدة والرؤوس المنتشرة وتقدم إليهما مبتسماً بكل كرم ماداً يديه مرحبا ً:
- أهلاً بكما في رواقي الأدبي فاليوم جميل بتواجد هذا الكم الهائل من الأدباء كم أنا سعيد بتشريفكما . ارتاح يحيى لترحيب السيد زياد وابتسم راداً التحية .
لم يكن يتوقع يحيى أن يكون شكل زياد هكذا ظنه ضخم بفمه سيجار مكتوب عليه صنع في هافانا, وبذلة فرنسية , وحذاء إيطالي , ولكنه كان قصيراً صغير الحجم يرتدي بذلة رمادية بدون ربطة عنق ولم يكن متأكداً من نوع الحذاء ...!
الجو في الرواق خانق من كثرة الدخان ولكنه دافيء جداً بسبب التدفئة المركزية وقد تحلق الكثير مجموعات مجموعات الكل يناقش ويتحدث ويدافع عن قضاياه وتناهى إلى مسمع يحيى مجموعة بجانبه لمح فيها أدباء وأصحاب دور نشر:
- أتعلمون يا إخوة إن صناعة النشر في عد تنازلي
- نعم نعم قال أحد الأدباء وهو يعدل من ربطة عنقه الحمراء فأنا أعاني من هبوط أسعار الكتب ورفض دور النشر لإنتاجي رغم تهافتهم عليها من قبل .
- الأمر عام ودولي والسبب يعود إلى تدني مستوى الثقافة
- وإلى غزو الإنترنت أيضاً .
- وإلى عدم رغبة الناس في القراءة فالجيل الذي يقرأ قد انقرض تقريبا ً.
- بل قل أصبح همه جمع المال ولقمة العيش
- ماهو الحل برأيكم ؟
- يجب أن يعود الكتاب هو الأول في ميزان الثقافة
- وكيف ؟؟ تخفيض أسعار الكتب لم ينجح كثيراً . من المسؤول عن هذا التدني يا ترى ؟؟
وابتسم يحيى في نفسه قائلاً : لا شك أنه صحن الفول , أبسط رد منه على العقول الغازية له يبحثون عنه ويقصفونه ولما يستهلكوه يصول ويجول في أدمغتهم وبطونهم يثقل فيهم حب الحركة والتفاعل .... .ويبتسم ساخراً
(14)
بطرف عينه ..كان يحيى يلمح السيد زياد أبو الوفا وهو يرقبه من بعيد أحس بنوع من التحرج لما رأى تحركاته ترصد وأحس بحرج أكثر أنه في هذا الجو الذي لم يستطع أبدا التأقلم معه .
وحتى رجا تركه ودار بين الناس كالنحلة يسلم على هذا وذاك .
جلس يحيى على أريكة في طرف الرواق ينظر من خلال نافذة كبيرة مطلة على حديقة غناء وقد لفت نظره هذا الاخضرار الغريب رغم الشتاء الذي يسلخ الطبيعة من ردائها المخضر , وكأن النباتات هنا لديها فصل آخر لا يتمشى مع عادية ما يفقه.
فاللغة المنسابة جمالاً من خلال النافذة العريضة تسلب فيه القدرة على فهم إشكاليات الثراء ومعادلته الصعبة في قاموسه المحدود .
تمنى لو أنه ينطلق في هذه الحديقة يختفي بين وريقات هذا الزمن الغريب ويحاول كتابة حروف وصل واتصال فهو في زمن مر تعلو في جنبات روحه توق إلى رفة بلا تقصف .
وكاد ينطلق وهو متسمر واقفا ً لولا أن أخرجه صوت زياد أبو الوفا من عالم الحلم التائه إلى واقع ذي ضوضاء ليس فيه صوته .
- ها أيها الأديب لقد سمعت من رجا أنك أديب لا يشق له غبار.
- كأني فارس وليس أديباً بهذا الوصف.
- أوليس الأديب فارس الكلمة !
وابتسم يحيى مؤيداً :
- بلى هو فارس على حصان خشبي .
- هذه إذا نبرة متشائمة .
- لم ؟؟ أعتقد أنها واقعية
- أمم فرك زياد ذقنه مبتسماً ولمعت عيناه
لم تعجب يحيى هذه الومضة وأحس بأن مطراً سيهطل وراء هذا البرق الخاطف بلون لا يحبه.
وقدم رجا لما رأى صديقه مع زياد
- ها يا صديقي أرأيت كم نحن محظوظون بالتعرف على السيد الوجيه زياد ؟
- نعم .. أجاب يحيى باقتضاب
أحس بكتفيه تثاقلان من عبء مديح لا يريده فابتلع بقية الكلام .
راقب زياد يحيى وهو مبتسم وبادره بالسؤال:
- ما آخر إنتاجك يا صاحبي؟؟
- لا جديد .
- لماذا؟
- أحس بعدم الجدوى فلمن أكتب؟؟ فالكتابة لا تنشر .
- آه مشكلة النشر هذه اتركها علي .. إسمع في الغد تأتيني بكل إنتاجك وأنا سأنشره لك كله وبالأسعار التي ترضيك .
مفاجيء جداً ..مفاجيء هذا العرض وكأنه انهيار ورود من أعلى الجبل على مرج أخضر لمار في طريق لم يكن مستعداً لها .
ألجمته الدهشة وأنقذه رجا قائلاً:
- يا إلهي ما أكرمك ! ألم أقل لك يا يحيى كم نحن محظوظون!!
أخذ زياد يدي يحيى الباردتين وربت عليهما وقال له :
- غداً في مثل هذا الوقت أنا بانتظارك لا تتأخر علي ..
(15)
كأن الدنيا ستكشف عن جمال قريب وكالتائه جر من يده حيث غرفة الطعام
المكان صفعه موقظة من سبات .
يا إلهي ماهذه الكميات من الطعام إنها تطعم أهله سنة كاملة ونظر إلى الأنواع الغريبة والأيدي المتلاحقة تجتريء على جمالها وتعبث بسطوتها القوية على نفسه .
كان له مكان ولكنه لم يستطع أن يستغله ولا أن يمد يده الباردة لتدفأ ببعض من لهيب الطعام .
وتسمر واقفاً وتجمدت أوصاله هذه المرة ليس من مرأى المتنافسين على إعدام الأطباق ولكن كانت أمامه حلوة المذاق وولده الصغير .
ونظرة عتاب في قلبه المغمى عليه حزنا ً :
- ماذا يا أبي أستأكل هذه الأطايب دوننا ..نريد منها نريد ..وتلاحقت أصواتهم الطفلة تغطي على شراسة وقوة جوعه .
فانسحب بعيدا وخارج غرفة الطعام وأنفاسه تتلاحق ويتصبب عرقاً .
كانت دهشته لما قاله الثري المليونير أبو الوفا قد تلاشت أمام هذا الشعور المر الذي يتنامى في حلقه حتى أحس به كبحر بدوامة زبدية تلجمه .
لن يخون حزن أطفاله وسيتوحد معهم
لن يخون جوعهم وينافق معدته على حساب حرمانهم
لن يفعل ..
وبينما هو في تمرده الداخلي إذا بطبق مليء يقدم له :
- تفضل يا أديب
السيد يقدم له بنفسه طبقا ً, أحس يحيى بإحراج كبير وجلس الرجل بجانبه قائلا:
- لم تركت غرفة الطعام ؟ ألم يعجبك طعامنا ؟
- وكاد يحيى أن يخرج لسانه الساخر المبتلع داخلا ً ولكن كرم ضيفه زواه في خانة استحياء
- وأجاب متلعثما : أبدا ولكني أقصد لا شيء لا شيء وصمت فقد تدافعت الدماء لرأسه وابتدأت حالة من الاختناق تمنى لو يكسر زجاج النافذة فيسمح لحر الهواء أن يحرر نفسه المقيد ة هنا .
- عموما ًقد نجد أحياناً أنفسنا في أماكن نظن أن كل من بها ليسوا من طينتنا أو لا يتنفسون من ذات الأثير الذي نتنفسه فنحس بالاختناق أليس كذلك يا أخ يحيى؟
- بل لربما امتصوا الأثير فما تبقى لنا شيء..
- لربما ..
وقف زياد أبو الوفا واستند بيديه على يدي مقعد يحيى وأحنى ظهره حتى اقترب وجهه من يحيى الجالس وأحس يحيى بأنفاس الرجل تحيط به . شعر بالاختناق أكثر واختلط الهواء برائحة عطره ممزوجاً برائحة الطبق المملوء بالطعام فما عاد يحيى يعرف من أين تنطلق الروائح ..
واقتربت أنفاس زياد من يحيى أكثر وتمركزت عيناه على عيني الأديب ليقول له :
- عندما نحس أن المكان نقص هواؤه او امتصه أحد لا نبتعد فقد يكون الخارج أكثر شحا ً.
وغمز له بعينيه ليتركه يفكر ويفكر بكل أبعاد كلامه فيا ترى ماذا يخبيء هذا الزياد
ماذا يخبيء ليحيى . ..الأديب.......
تحية لكل من يتابع وسأعود لكل من مر هنا لما أنتهي من وضع بقية الرواية وعند تمامها لكم كل حبي
بلا استثناء فلا أنسى أحدا
يتبع