صباح الضامن
صباح الضامن
صباح الضامن يعجز القلم عن كتابة أي شئ في ساحة القلم ويعجز العقل عن صياغة جملة في حقك وحق كلماتك وحق الحقيقة هنا أجد أكثر من قصة انما هي حياة يعشها الكثيرون في كثير من النواحي خاض قلمك حربا أعدائك فيها كثيرون وأنت لهم بوركت يا غالية وفي انتظارك لا تنسينا من صالح الدعاء تقبلي تقديري واحترامي أختك أم حنين فهل تذكرينني؟؟
صباح الضامن يعجز القلم عن كتابة أي شئ في ساحة القلم ويعجز العقل عن صياغة جملة في حقك وحق...

(13)
وقف الصديقان حائران , المكان هائل البذخ من الخارج فكيف به من الداخل!
مال يحيى على أذن صديقه هامساً:
- ويحك يا رجا أين أتيت بنا ألا ترى هيئتي ؟ سأعود.
وتحرك يحيى يسرعة لاوياً رأسه ومطلقاً ساقيه لريح باردة ثقيلة لم تسعفه حملاً فقد قبض على ياقة معطفه صديقه مؤنباً:
- ما بك؟ هو رجل ثري, مليونير ولكنه مثقف وصاحب اتجاه متزن لديه مصالح كثيرة
منها بنك , وقناة فضائية , وجامعة أهلية وهو يحب المثقفين والأدب . هيا ..هيا إياك أن تجبن هنا فهذه فرصتك فقد يفتح لك الرجل آفاقاً أنت بحاجة لها .
- أو تظنني يا رجا من المنتفعين الذين يسيل لعابهم لمعرفة أمثال صاحبك , إنني
- هيا........ وجره رجا قبل أن يكمل موشحاته المثالية ودخلا البهو الكبير ليشعر يحيى بضآلته أمام هذا الترف ويحاول بكل ما أوتي من قوة أن يعالج موضوع الفتق في حذائه كيلا يظهر فيسدل بنطاله عليه وعبثاً تنجح المحاولات إلا إذا تسمر واقفاً.
- وهو يجيد التسمر وقوفا ويعشقه على حد قول رجا :
- أنت يا صديقي تطلب التحرك من حولك ولما تقع في دائرة الحركة تتسمر واقفاً .
- نعم قال يحيى ساخراً : ًفالحياة يا يحيى أيها الأديب المغوار هي صولة بقلمك في كل اتجاه وهي بحث عن أثير مناسب المناخ تسقط فيه مطر القلم , وإلا نُسيت وبقيت تقرأ مقالاتك لمن يضحك عليها في رواقات الأندية فقط .!!!!
هز رجا رأسه يأساً من صديقه ودخلا حيث زياد أبو الوفا صاحب القصر المشيد .
لمح زياد الصديقين يقدمان فقام بكل حفاوة للترحيب من بين الحشود المتواجدة والرؤوس المنتشرة وتقدم إليهما مبتسماً بكل كرم ماداً يديه مرحبا ً:
- أهلاً بكما في رواقي الأدبي فاليوم جميل بتواجد هذا الكم الهائل من الأدباء كم أنا سعيد بتشريفكما . ارتاح يحيى لترحيب السيد زياد وابتسم راداً التحية .
لم يكن يتوقع يحيى أن يكون شكل زياد هكذا ظنه ضخم بفمه سيجار مكتوب عليه صنع في هافانا, وبذلة فرنسية , وحذاء إيطالي , ولكنه كان قصيراً صغير الحجم يرتدي بذلة رمادية بدون ربطة عنق ولم يكن متأكداً من نوع الحذاء ...!
الجو في الرواق خانق من كثرة الدخان ولكنه دافيء جداً بسبب التدفئة المركزية وقد تحلق الكثير مجموعات مجموعات الكل يناقش ويتحدث ويدافع عن قضاياه وتناهى إلى مسمع يحيى مجموعة بجانبه لمح فيها أدباء وأصحاب دور نشر:
- أتعلمون يا إخوة إن صناعة النشر في عد تنازلي
- نعم نعم قال أحد الأدباء وهو يعدل من ربطة عنقه الحمراء فأنا أعاني من هبوط أسعار الكتب ورفض دور النشر لإنتاجي رغم تهافتهم عليها من قبل .
- الأمر عام ودولي والسبب يعود إلى تدني مستوى الثقافة
- وإلى غزو الإنترنت أيضاً .
- وإلى عدم رغبة الناس في القراءة فالجيل الذي يقرأ قد انقرض تقريبا ً.
- بل قل أصبح همه جمع المال ولقمة العيش
- ماهو الحل برأيكم ؟
- يجب أن يعود الكتاب هو الأول في ميزان الثقافة
- وكيف ؟؟ تخفيض أسعار الكتب لم ينجح كثيراً . من المسؤول عن هذا التدني يا ترى ؟؟
وابتسم يحيى في نفسه قائلاً : لا شك أنه صحن الفول , أبسط رد منه على العقول الغازية له يبحثون عنه ويقصفونه ولما يستهلكوه يصول ويجول في أدمغتهم وبطونهم يثقل فيهم حب الحركة والتفاعل .... .ويبتسم ساخراً

(14)
بطرف عينه ..كان يحيى يلمح السيد زياد أبو الوفا وهو يرقبه من بعيد أحس بنوع من التحرج لما رأى تحركاته ترصد وأحس بحرج أكثر أنه في هذا الجو الذي لم يستطع أبدا التأقلم معه .
وحتى رجا تركه ودار بين الناس كالنحلة يسلم على هذا وذاك .
جلس يحيى على أريكة في طرف الرواق ينظر من خلال نافذة كبيرة مطلة على حديقة غناء وقد لفت نظره هذا الاخضرار الغريب رغم الشتاء الذي يسلخ الطبيعة من ردائها المخضر , وكأن النباتات هنا لديها فصل آخر لا يتمشى مع عادية ما يفقه.
فاللغة المنسابة جمالاً من خلال النافذة العريضة تسلب فيه القدرة على فهم إشكاليات الثراء ومعادلته الصعبة في قاموسه المحدود .
تمنى لو أنه ينطلق في هذه الحديقة يختفي بين وريقات هذا الزمن الغريب ويحاول كتابة حروف وصل واتصال فهو في زمن مر تعلو في جنبات روحه توق إلى رفة بلا تقصف .
وكاد ينطلق وهو متسمر واقفا ً لولا أن أخرجه صوت زياد أبو الوفا من عالم الحلم التائه إلى واقع ذي ضوضاء ليس فيه صوته .
- ها أيها الأديب لقد سمعت من رجا أنك أديب لا يشق له غبار.
- كأني فارس وليس أديباً بهذا الوصف.
- أوليس الأديب فارس الكلمة !
وابتسم يحيى مؤيداً :
- بلى هو فارس على حصان خشبي .
- هذه إذا نبرة متشائمة .
- لم ؟؟ أعتقد أنها واقعية
- أمم فرك زياد ذقنه مبتسماً ولمعت عيناه
لم تعجب يحيى هذه الومضة وأحس بأن مطراً سيهطل وراء هذا البرق الخاطف بلون لا يحبه.
وقدم رجا لما رأى صديقه مع زياد
- ها يا صديقي أرأيت كم نحن محظوظون بالتعرف على السيد الوجيه زياد ؟
- نعم .. أجاب يحيى باقتضاب
أحس بكتفيه تثاقلان من عبء مديح لا يريده فابتلع بقية الكلام .
راقب زياد يحيى وهو مبتسم وبادره بالسؤال:
- ما آخر إنتاجك يا صاحبي؟؟
- لا جديد .
- لماذا؟
- أحس بعدم الجدوى فلمن أكتب؟؟ فالكتابة لا تنشر .
- آه مشكلة النشر هذه اتركها علي .. إسمع في الغد تأتيني بكل إنتاجك وأنا سأنشره لك كله وبالأسعار التي ترضيك .
مفاجيء جداً ..مفاجيء هذا العرض وكأنه انهيار ورود من أعلى الجبل على مرج أخضر لمار في طريق لم يكن مستعداً لها .
ألجمته الدهشة وأنقذه رجا قائلاً:
- يا إلهي ما أكرمك ! ألم أقل لك يا يحيى كم نحن محظوظون!!
أخذ زياد يدي يحيى الباردتين وربت عليهما وقال له :
- غداً في مثل هذا الوقت أنا بانتظارك لا تتأخر علي ..


(15)
كأن الدنيا ستكشف عن جمال قريب وكالتائه جر من يده حيث غرفة الطعام
المكان صفعه موقظة من سبات .
يا إلهي ماهذه الكميات من الطعام إنها تطعم أهله سنة كاملة ونظر إلى الأنواع الغريبة والأيدي المتلاحقة تجتريء على جمالها وتعبث بسطوتها القوية على نفسه .
كان له مكان ولكنه لم يستطع أن يستغله ولا أن يمد يده الباردة لتدفأ ببعض من لهيب الطعام .
وتسمر واقفاً وتجمدت أوصاله هذه المرة ليس من مرأى المتنافسين على إعدام الأطباق ولكن كانت أمامه حلوة المذاق وولده الصغير .
ونظرة عتاب في قلبه المغمى عليه حزنا ً :
- ماذا يا أبي أستأكل هذه الأطايب دوننا ..نريد منها نريد ..وتلاحقت أصواتهم الطفلة تغطي على شراسة وقوة جوعه .
فانسحب بعيدا وخارج غرفة الطعام وأنفاسه تتلاحق ويتصبب عرقاً .
كانت دهشته لما قاله الثري المليونير أبو الوفا قد تلاشت أمام هذا الشعور المر الذي يتنامى في حلقه حتى أحس به كبحر بدوامة زبدية تلجمه .
لن يخون حزن أطفاله وسيتوحد معهم
لن يخون جوعهم وينافق معدته على حساب حرمانهم
لن يفعل ..
وبينما هو في تمرده الداخلي إذا بطبق مليء يقدم له :
- تفضل يا أديب
السيد يقدم له بنفسه طبقا ً, أحس يحيى بإحراج كبير وجلس الرجل بجانبه قائلا:
- لم تركت غرفة الطعام ؟ ألم يعجبك طعامنا ؟
- وكاد يحيى أن يخرج لسانه الساخر المبتلع داخلا ً ولكن كرم ضيفه زواه في خانة استحياء
- وأجاب متلعثما : أبدا ولكني أقصد لا شيء لا شيء وصمت فقد تدافعت الدماء لرأسه وابتدأت حالة من الاختناق تمنى لو يكسر زجاج النافذة فيسمح لحر الهواء أن يحرر نفسه المقيد ة هنا .
- عموما ًقد نجد أحياناً أنفسنا في أماكن نظن أن كل من بها ليسوا من طينتنا أو لا يتنفسون من ذات الأثير الذي نتنفسه فنحس بالاختناق أليس كذلك يا أخ يحيى؟
- بل لربما امتصوا الأثير فما تبقى لنا شيء..
- لربما ..
وقف زياد أبو الوفا واستند بيديه على يدي مقعد يحيى وأحنى ظهره حتى اقترب وجهه من يحيى الجالس وأحس يحيى بأنفاس الرجل تحيط به . شعر بالاختناق أكثر واختلط الهواء برائحة عطره ممزوجاً برائحة الطبق المملوء بالطعام فما عاد يحيى يعرف من أين تنطلق الروائح ..
واقتربت أنفاس زياد من يحيى أكثر وتمركزت عيناه على عيني الأديب ليقول له :
- عندما نحس أن المكان نقص هواؤه او امتصه أحد لا نبتعد فقد يكون الخارج أكثر شحا ً.
وغمز له بعينيه ليتركه يفكر ويفكر بكل أبعاد كلامه فيا ترى ماذا يخبيء هذا الزياد
ماذا يخبيء ليحيى . ..الأديب.......



تحية لكل من يتابع وسأعود لكل من مر هنا لما أنتهي من وضع بقية الرواية وعند تمامها لكم كل حبي
بلا استثناء فلا أنسى أحدا



يتبع
صباح الضامن
صباح الضامن
(13) وقف الصديقان حائران , المكان هائل البذخ من الخارج فكيف به من الداخل! مال يحيى على أذن صديقه هامساً: - ويحك يا رجا أين أتيت بنا ألا ترى هيئتي ؟ سأعود. وتحرك يحيى يسرعة لاوياً رأسه ومطلقاً ساقيه لريح باردة ثقيلة لم تسعفه حملاً فقد قبض على ياقة معطفه صديقه مؤنباً: - ما بك؟ هو رجل ثري, مليونير ولكنه مثقف وصاحب اتجاه متزن لديه مصالح كثيرة منها بنك , وقناة فضائية , وجامعة أهلية وهو يحب المثقفين والأدب . هيا ..هيا إياك أن تجبن هنا فهذه فرصتك فقد يفتح لك الرجل آفاقاً أنت بحاجة لها . - أو تظنني يا رجا من المنتفعين الذين يسيل لعابهم لمعرفة أمثال صاحبك , إنني - هيا........ وجره رجا قبل أن يكمل موشحاته المثالية ودخلا البهو الكبير ليشعر يحيى بضآلته أمام هذا الترف ويحاول بكل ما أوتي من قوة أن يعالج موضوع الفتق في حذائه كيلا يظهر فيسدل بنطاله عليه وعبثاً تنجح المحاولات إلا إذا تسمر واقفاً. - وهو يجيد التسمر وقوفا ويعشقه على حد قول رجا : - أنت يا صديقي تطلب التحرك من حولك ولما تقع في دائرة الحركة تتسمر واقفاً . - نعم قال يحيى ساخراً : ًفالحياة يا يحيى أيها الأديب المغوار هي صولة بقلمك في كل اتجاه وهي بحث عن أثير مناسب المناخ تسقط فيه مطر القلم , وإلا نُسيت وبقيت تقرأ مقالاتك لمن يضحك عليها في رواقات الأندية فقط .!!!! هز رجا رأسه يأساً من صديقه ودخلا حيث زياد أبو الوفا صاحب القصر المشيد . لمح زياد الصديقين يقدمان فقام بكل حفاوة للترحيب من بين الحشود المتواجدة والرؤوس المنتشرة وتقدم إليهما مبتسماً بكل كرم ماداً يديه مرحبا ً: - أهلاً بكما في رواقي الأدبي فاليوم جميل بتواجد هذا الكم الهائل من الأدباء كم أنا سعيد بتشريفكما . ارتاح يحيى لترحيب السيد زياد وابتسم راداً التحية . لم يكن يتوقع يحيى أن يكون شكل زياد هكذا ظنه ضخم بفمه سيجار مكتوب عليه صنع في هافانا, وبذلة فرنسية , وحذاء إيطالي , ولكنه كان قصيراً صغير الحجم يرتدي بذلة رمادية بدون ربطة عنق ولم يكن متأكداً من نوع الحذاء ...! الجو في الرواق خانق من كثرة الدخان ولكنه دافيء جداً بسبب التدفئة المركزية وقد تحلق الكثير مجموعات مجموعات الكل يناقش ويتحدث ويدافع عن قضاياه وتناهى إلى مسمع يحيى مجموعة بجانبه لمح فيها أدباء وأصحاب دور نشر: - أتعلمون يا إخوة إن صناعة النشر في عد تنازلي - نعم نعم قال أحد الأدباء وهو يعدل من ربطة عنقه الحمراء فأنا أعاني من هبوط أسعار الكتب ورفض دور النشر لإنتاجي رغم تهافتهم عليها من قبل . - الأمر عام ودولي والسبب يعود إلى تدني مستوى الثقافة - وإلى غزو الإنترنت أيضاً . - وإلى عدم رغبة الناس في القراءة فالجيل الذي يقرأ قد انقرض تقريبا ً. - بل قل أصبح همه جمع المال ولقمة العيش - ماهو الحل برأيكم ؟ - يجب أن يعود الكتاب هو الأول في ميزان الثقافة - وكيف ؟؟ تخفيض أسعار الكتب لم ينجح كثيراً . من المسؤول عن هذا التدني يا ترى ؟؟ وابتسم يحيى في نفسه قائلاً : لا شك أنه صحن الفول , أبسط رد منه على العقول الغازية له يبحثون عنه ويقصفونه ولما يستهلكوه يصول ويجول في أدمغتهم وبطونهم يثقل فيهم حب الحركة والتفاعل .... .ويبتسم ساخراً (14) بطرف عينه ..كان يحيى يلمح السيد زياد أبو الوفا وهو يرقبه من بعيد أحس بنوع من التحرج لما رأى تحركاته ترصد وأحس بحرج أكثر أنه في هذا الجو الذي لم يستطع أبدا التأقلم معه . وحتى رجا تركه ودار بين الناس كالنحلة يسلم على هذا وذاك . جلس يحيى على أريكة في طرف الرواق ينظر من خلال نافذة كبيرة مطلة على حديقة غناء وقد لفت نظره هذا الاخضرار الغريب رغم الشتاء الذي يسلخ الطبيعة من ردائها المخضر , وكأن النباتات هنا لديها فصل آخر لا يتمشى مع عادية ما يفقه. فاللغة المنسابة جمالاً من خلال النافذة العريضة تسلب فيه القدرة على فهم إشكاليات الثراء ومعادلته الصعبة في قاموسه المحدود . تمنى لو أنه ينطلق في هذه الحديقة يختفي بين وريقات هذا الزمن الغريب ويحاول كتابة حروف وصل واتصال فهو في زمن مر تعلو في جنبات روحه توق إلى رفة بلا تقصف . وكاد ينطلق وهو متسمر واقفا ً لولا أن أخرجه صوت زياد أبو الوفا من عالم الحلم التائه إلى واقع ذي ضوضاء ليس فيه صوته . - ها أيها الأديب لقد سمعت من رجا أنك أديب لا يشق له غبار. - كأني فارس وليس أديباً بهذا الوصف. - أوليس الأديب فارس الكلمة ! وابتسم يحيى مؤيداً : - بلى هو فارس على حصان خشبي . - هذه إذا نبرة متشائمة . - لم ؟؟ أعتقد أنها واقعية - أمم فرك زياد ذقنه مبتسماً ولمعت عيناه لم تعجب يحيى هذه الومضة وأحس بأن مطراً سيهطل وراء هذا البرق الخاطف بلون لا يحبه. وقدم رجا لما رأى صديقه مع زياد - ها يا صديقي أرأيت كم نحن محظوظون بالتعرف على السيد الوجيه زياد ؟ - نعم .. أجاب يحيى باقتضاب أحس بكتفيه تثاقلان من عبء مديح لا يريده فابتلع بقية الكلام . راقب زياد يحيى وهو مبتسم وبادره بالسؤال: - ما آخر إنتاجك يا صاحبي؟؟ - لا جديد . - لماذا؟ - أحس بعدم الجدوى فلمن أكتب؟؟ فالكتابة لا تنشر . - آه مشكلة النشر هذه اتركها علي .. إسمع في الغد تأتيني بكل إنتاجك وأنا سأنشره لك كله وبالأسعار التي ترضيك . مفاجيء جداً ..مفاجيء هذا العرض وكأنه انهيار ورود من أعلى الجبل على مرج أخضر لمار في طريق لم يكن مستعداً لها . ألجمته الدهشة وأنقذه رجا قائلاً: - يا إلهي ما أكرمك ! ألم أقل لك يا يحيى كم نحن محظوظون!! أخذ زياد يدي يحيى الباردتين وربت عليهما وقال له : - غداً في مثل هذا الوقت أنا بانتظارك لا تتأخر علي .. (15) كأن الدنيا ستكشف عن جمال قريب وكالتائه جر من يده حيث غرفة الطعام المكان صفعه موقظة من سبات . يا إلهي ماهذه الكميات من الطعام إنها تطعم أهله سنة كاملة ونظر إلى الأنواع الغريبة والأيدي المتلاحقة تجتريء على جمالها وتعبث بسطوتها القوية على نفسه . كان له مكان ولكنه لم يستطع أن يستغله ولا أن يمد يده الباردة لتدفأ ببعض من لهيب الطعام . وتسمر واقفاً وتجمدت أوصاله هذه المرة ليس من مرأى المتنافسين على إعدام الأطباق ولكن كانت أمامه حلوة المذاق وولده الصغير . ونظرة عتاب في قلبه المغمى عليه حزنا ً : - ماذا يا أبي أستأكل هذه الأطايب دوننا ..نريد منها نريد ..وتلاحقت أصواتهم الطفلة تغطي على شراسة وقوة جوعه . فانسحب بعيدا وخارج غرفة الطعام وأنفاسه تتلاحق ويتصبب عرقاً . كانت دهشته لما قاله الثري المليونير أبو الوفا قد تلاشت أمام هذا الشعور المر الذي يتنامى في حلقه حتى أحس به كبحر بدوامة زبدية تلجمه . لن يخون حزن أطفاله وسيتوحد معهم لن يخون جوعهم وينافق معدته على حساب حرمانهم لن يفعل .. وبينما هو في تمرده الداخلي إذا بطبق مليء يقدم له : - تفضل يا أديب السيد يقدم له بنفسه طبقا ً, أحس يحيى بإحراج كبير وجلس الرجل بجانبه قائلا: - لم تركت غرفة الطعام ؟ ألم يعجبك طعامنا ؟ - وكاد يحيى أن يخرج لسانه الساخر المبتلع داخلا ً ولكن كرم ضيفه زواه في خانة استحياء - وأجاب متلعثما : أبدا ولكني أقصد لا شيء لا شيء وصمت فقد تدافعت الدماء لرأسه وابتدأت حالة من الاختناق تمنى لو يكسر زجاج النافذة فيسمح لحر الهواء أن يحرر نفسه المقيد ة هنا . - عموما ًقد نجد أحياناً أنفسنا في أماكن نظن أن كل من بها ليسوا من طينتنا أو لا يتنفسون من ذات الأثير الذي نتنفسه فنحس بالاختناق أليس كذلك يا أخ يحيى؟ - بل لربما امتصوا الأثير فما تبقى لنا شيء.. - لربما .. وقف زياد أبو الوفا واستند بيديه على يدي مقعد يحيى وأحنى ظهره حتى اقترب وجهه من يحيى الجالس وأحس يحيى بأنفاس الرجل تحيط به . شعر بالاختناق أكثر واختلط الهواء برائحة عطره ممزوجاً برائحة الطبق المملوء بالطعام فما عاد يحيى يعرف من أين تنطلق الروائح .. واقتربت أنفاس زياد من يحيى أكثر وتمركزت عيناه على عيني الأديب ليقول له : - عندما نحس أن المكان نقص هواؤه او امتصه أحد لا نبتعد فقد يكون الخارج أكثر شحا ً. وغمز له بعينيه ليتركه يفكر ويفكر بكل أبعاد كلامه فيا ترى ماذا يخبيء هذا الزياد ماذا يخبيء ليحيى . ..الأديب....... تحية لكل من يتابع وسأعود لكل من مر هنا لما أنتهي من وضع بقية الرواية وعند تمامها لكم كل حبي بلا استثناء فلا أنسى أحدا يتبع
(13) وقف الصديقان حائران , المكان هائل البذخ من الخارج فكيف به من الداخل! مال يحيى على أذن...


(16)
تمنى يحيى الان منقذه رجا , وضع طبقه على طاولة صغيرة أمامه ولم يتذوق منه شيئا ولو كان يملك ثمن الركوبة لبيته لغادر وسريعا .
نظر من النافذة ورأى أن الجو صحواً وأخذت نفسه تراوده أن يخرج ويعود مشياً على الأقدام غير منتظر لمقدم صديقه وهم فعلاً بالتنفيذ لولا خجله من رجا الذي اصطحبه هنا من أجله , فجلس متقوقعا على مقعده ككومة مهملة لا تدري متى تعطى صك انطلاق ونشور.
وسمع صوت صديقه مجلجلاً يضحك مع إحدى النساء فقد كانت ضحكاتها القصيرة ترن في أذنه واستدار ليراهما واقفين غير بعيد منه وأشار له رجا بالتقدم
- أعرفك إنها الأستاذة خولة علم الدين , أستاذة النحو في جامعة أبو الوفا الأهلية , ماجستير في الأدب وتحضر الدكتوراة تقول لي إن رسالتها سر ولن تبوح به فسيكون صرخة في عالم الأدب.
- أهلا بك قال يحيى بلطف متناه فقد كانت أمنيته إكمال دراسته ولكن لولا المنحة لما أكمل الجامعة الحكومية .
- هذا يا سيدتي أديبنا يحيى العمر لا شك أنك قرأت له .
ابتسم يحيى قائلاً
- قبل الاستعمار .
- كيف أجابت الأستاذة خولة ؟
- أي قبل أن يستعمر قلمي ويرسف في أغلال اللاءات كلها .
- أنا أعرف من اللااءات ثلاثا ً فهل هي ذاتها ؟
- لا يا أستاذتنا لاءات يحيى تختلف
- وهل لي أن أعرف ؟نظرت خولة دون تحفظ لوجه يحيى المبتسم فلمحت موجة من السخرية تعم شطآنه ستمتد وتمتد حتى تشبع فيه كل المرار فتتركه بنوع من الارتياح وكأنه انتقم من شيء دفين في نفسه لا يستطيع الإفصاح عنه .
- بالطبع تحمس يحيى
لا تكتب الا ما نريده
لا تكتب منطلقاً بل وأنت تلبس أسورة باهظة الثمن اسمها قيد
لا تكتب عن فلان وفلان
لا تكتب ما يغذي فالبطون ممتلئة
لا ترفض بيعا لقلمك فأنت جائع
لا تجادل .. لاتنتقد ...لا تنبه .... إلا بطريقتنا لا .........
ولم يكمل فقد أكمل عنه رجل آخر كان يسمع فقال:
- لا تكمل فما تقوله ليس صحيحا بالكلية فأنت تسخط على كل شيء والحرية طير يرفرف على الجميع .
نظر الجميع إليه ودارت بينهم نظرات ممزوجة بسحابات تحمل مطرا ثقيلاً انسكب في قلوبهم فكلام الرجل ينبيء بخطر داهم وقد تتحول الجلسة إلى ......
وأنقذ الموقف من زياد ساحباً الرجل من ذراعه حيث الثلاثة قائلاً
- أعرفكم : السيد المنتصر علي
واقترب يحيى منه قليلاً ووضع رجا يده على قلبه فهذا يعني حرب كلامية من شفاه ساخرة
لا تعرف الصمت بل ضاجة بمرار الدنيا وستسقط مخلفة ضحايا أولهم .يحيى فقد يكون هذا الرجل من سيعيد يحيى لسابق حرب كان قد كسر سيوفها . وقد ينزعج المضيف منه فيلغي عرضه الماسي .
وما أن اقترب يحيى منه حتى أدهش الجميع بقوله
- ألم تعرفني يا منتصر أنظر جيدا ً...


(17)
ولوى المنتصر شفتيه
- من ؟ يحيى العمر ؟؟ لا اصدق
- كيف أنت يا صديقي ؟
وضحك المنتصرقائلاً بنبرة فيها الكثير :
- كم هي صغيرة دنيانا أوبعد هذه السنين نلتقي ؟
- حقا ........... أنادم أنت يا منتصر ؟
- ولم أندم ؟؟ فرصة أن أراك ...
وقاطعه يحيى ساخراً
- لا أعتقد انك متشوق لي ولأخباري , يا منتصر ومد الألف في يا ورفع صوته ساخراً
آه يا قلبي بدأنا قال رجا في نفسه وتدخل بينهما :
يبدو أننا أما ........واحتار فالجو المخيم لا ينم عن وفاق فاستدرك قائلاً يبدو أننا أمام معارف
- أحسنت يا رجا فالمنتصر يعرفني منذ كنا في القرية نلعب في الطين ووراء حمار أبي عطية , كان المنتصر يبيع لنا الترمس الذي تصنعه .........وقاطعه زياد قائلاً :
- هيا يا جماعة تعالوا لنسمع قليلاً من أدب يحيى وفطن يحيى لكلمتي ((أدب يحيى)) وكأنه تنبيه أن تنبه يا أديب واحفظ لسانك
- هيا يا يحيى اقرأ لنا آخر ما كتبتْ
هيا وجره من أمام الملتهب المنتصر الذي أحس الجميع ببداية انهزام لأوداجه فانخفضت وانسحب وكرشه المليء يجلس بعيداً معلناً هدنة قسرية مقموعة من صاحب القصر المشيد .
حان موعد صلاة العشاء يا سيد زياد فسأصلي أولاً
ونظر حوله ودله زياد على مكان الصلاة ليختفي يحيى فينتهزها المنتصر فرصة ويقول :
- هل أصبح يحيى أديبا ؟؟ وضحك ماداً ذراعيه علامة الاستنكار .
- لا لم يصبح يا سيد منتصر فهو منذ ولد أديباً أجابه رجا ببرود.
- ما الأمر يبدو أننا سنشهد حرباً كلامية والأمسية الأدبية ستتحول لتصفية حسابات تدخلت خولة هامسة لرجا .
- هكذا يحيى ما أن يحل بمكان حتى يشعله نارا .
- وقد يكون نوراً أجابته خولة ونظرت إلى البعيد حيث ذهب يحيى يصلي مع بعض الحضور .
أعجبها التزامه في الصلاة وما أن أطل عليها حتى راودها شعور عجيب تجاهه فأسرت لرجا طلباً بأن تحصل على مؤلفاته كلها المعلن عنها والمخفي ..
- أما المخفي فلا أدري ..
وقدم يحيى بهدوء وسكينة جلس على مقعد بجوار رجا ووضع يده في جيبه وكأنه يسترجع نفساً كانت ورجعها مؤلم , فما نفع المهاترة مع أمثال المنتصر فالرجع أنين لا يرف بأنداء ولا يورف بظلال بل ينجب عقم حالة .
اما المنتصر فسينتصر لنفسه فقد تعمد يحيى إبراز ماضيه الفقير لتكون له اليد العليا ولكنه كجمل حمل هم صحراء بشوكها في جوفه فقرر الصبر والضربة حين تكون الفرصة متاحة .
ونظراته ليحيى كانت مفهومة للأخير فكره نفسه , لم يجرها إلى مثل هذا المنزلق الأسن ؟
أحس ببرودة في قدميه تسري لترتفع وتعلن موته في لحظات الغير وضجيجهم .
فحلق بعيدا منقذاً نفسه من كره لحظة لعشق تهارب .






(18)
ودارت القهوة .. وبخارها المحبب ليحيى كأنها من زمن حب قديم يوم كانت أمه رحمها الله تحمصها بيديها وتطحنها فيشتم يحيى رائحتها الزكية من أول القرية .
كم كانت جميلة تلك الأيام يا أمي كم كانت جميلة ... بسيطة حقا ولكنها جميلة
تلك الزهور البسيطة التي كانت ترتص في علب من صفيح صدأت بفعل المطر هي أجمل من هذه الحديقة المترامية الأطراف فذاك العشق الملتهب في قلم يحيى الآن يستيقظ ليصرخ في فؤاده .
أواه يا مهجة العمر كم أتوق لدفء ووارف ظلك ... أتراني أمي كبرت على حضن ؟؟ أتراك أخطأت يا حبيبة القلب لما بعت دكان أبي لأتعلم في المدينة . يا ليتك لم تفعلي .........يا ليتني بقيت عاملاً فيها عوضا أن ألتحف الآن ببرد عوزي ومرأى من كان يبيعني الترمس وهو يحمل مفتاح سيارته بميدالية ذهبية
يبدو أمي أن الترمس قد أنجب له ثروة قالها يحيى بمرارة ساخرة
أتعتقدين ذلك ؟؟ هاهو الآن ينظر لي قائلاً :
- أنا فوقك وفوق كل فوق تحصلت عليه يا يحيى العمر .أنا فوقك فلم ينفعك تفوقك
- تعالي أمي وانظري للجميع وافرحي لابنك فهو الأفضل بينهم
حذاء بال وجيوب خاوية وبطون أولاده تصفر قحلاً وزوجته المعطاءة حباً كقذائف في حرب لم تنته هي نفسه الجدباء الآن .
هاهو ابنك أماه تعالي فانظري فكر عال وحذاء بال ,
معادلة صعبة يا أمي لا يمكن أن تحليها الآن فقد بعنا الدكان وما كان قد كان
وأنا أكتب وثيقة اعتداء
وغداً سأكتب لحظة حرية .....غدا ً عندما أكون عندك أمي ......آه لم تركت ابنك المتفوق عقلا بجيب خاو لم ؟؟؟
وماذا بعد قال زياد ألن تسمعنا قليلاً من أدبك
ابتسم يحيى له وأومأ حاملاً ملفه الأخضر وقرر أن يقرأ (( وثيقة اعتداء ))
وتلا العنوان فقاطعه المنتصر قائلاً :
- يبدو أنك لم تترك ميولك العدوانية يا أستاذ يحيى .
- ابتسم يحيى قائلاً : لا يا صديقي فأجمل لحظات عمري لما أمسك بسيفي القلمي وأعبئه مداد فكري القاتل وأصوبه في قلب فوضى محدثة وأسافر معه في جولة إلى حيث عفن أسطوري عشش في النفوس فأفرش ورقي هناك أبيضاً مزروعاً ........... وتوقف قليلاً ثم أردف مبتسماً .......مزروعا ً ترمساً .
تبادل الجميع الابتسام فالكل فهم أن المقصود هو المنتصر فالجميع يعرف ماضيه وكيف فجأة من بيع الترمس أصبح مليونيراً وكل ما عرفوه ......أنه يغيب بالأيام خلف الحدود ليعود ولا يدرون أية تجارة يتعاطى فمنهم من اتهمه بالتهريب ومنهم بالمخدرات ومنهم ومنهم..ويعلم الجميع أنه غير نظيف أبداً .
وانتفض المنتصر حانقاً وقال
- ابق مع سيفك وورقك وتخدر معهما فأنا لا أتعاطى حلم المتخاذلين . وانصرف غاضباً .
صباح الضامن
صباح الضامن
نتابع بشوق
نتابع بشوق
(20)
فلنسمع إذا لفارس القلم الساخر مقالته
قال زياد مبتسما ًوأشار ليحيى أن يبدأ فقرأ يحيى بأسلوبه المميز في الإلقاء الآسر لكل لحظة تحاول أن تقصي اهتمام المستمعين :
وقرأ..
(( وثيقة اعتداء))
تحلق الجميع حوله كان لا بد من دراسة لوضعه الحالي كل ما يمكن أن يفعل بحقه يجب أن يستحضروه وتمنوا فعلاً في تلك الحالة أن يكونوا عشاق كلمة حتى يستطيعوا وصفه بكل الصفات الغزلية الأثيرة ولكنه كان ينظر إليهم وقد فغر فاهه لا يلقي بالاً لمصير قد يصيبه من إقبالهم عليه .
كان المسكين محط أنظار هذه المجموعة التي تظاهرت حوله ترفعه تارة وتحيط تواجده تارة باخضرار جميل ذو رائحة نفاذة وهو لا يستطيع حراكاً كل ما كان من الممكن فعله أن يقلب جنبيه فيخرج ما في جوفه نتيجة الهجوم المستمر عليه . ولكنه عزيز محبوب وكل ما يخرج منه تتلقفه الأيدي بحب وتودعها قلبها سائلة المولى أن يديم تواجده وأثره الفاعل .
وصاح أحدهم يا ألله لقد نسينا !
وتنبه الجميع ماذا يا قاصف ؟؟
نسينا أن نحفه بالإيقاع فلا يحلو تواجده إلا مع إيقاع الكؤوس الحمراء الخفيفة الحلوة نضرب باليمين فيه وبالشمال نرفع أيدينا بأكواب الشاي كم هو تناغم واقعي جميل .
وضحكوا لما سمعوه فقد ابتدأ القصف المحلي بالأرغفة الملتهبة والحشائش الخضراء من جرجير وبصل أخضر واستمر طبق الفول المحترم يختنق تارة من يد المتسابقين لغزوه فلا رقيب على جرمهم فالكل مشترك للنيل من هذا المسكين .
وهو صامت لا يتكلم وماذا سيقول ؟ ينتظر قولته في نهاية المعركة .
فالهجوم عليه بعد أن يستهلك كالهجوم على قلعة خارت قواها .
وانتهوا حيث ابتدأ هو ..
- لعنة الله عليك يا فول نأكلك وتؤلم بطوننا
- آه أصبحنا لا نفقه شيئا أوه أتمنى النوم ...!!
- إنه يطبق علينا كسمكة قرش يمتص نشاطنا . وصحن الفول الفارغ ينظر بشماتة الضعيف , مقتول وشامت .
ولن ينتقم صحن الفول لنفسه قولاً فالفعل من شيم المتفولين نوماً وعسر هضم وضيق في التنفس ورائحة تذب عن المكاتب اعتداء المراجعين فالكل من الرائحة يقول
اللهم سلم .........اللهم سلم .
وتكتب كل يوم في بطون المعتدين وثيقة اعتداء على صحن الفول يؤكل ويلعن .
يتسابقون إليه ويضربونه باليمين والشمال ولما ينتهون منه وقد أخمد أنفاسهم بثقله يذمونه .
فكم من صحن فول رمي بالبطون قسراً وضرب بلا رحمة وأقصي بلا رحمة وتدافعت الحروف حطيئياتٍ عراضاً في حقه .........
وهو المنتصر رغم الاعتداء .
انتهت
---------
وصمت الجميع عند الانتهاء
لم يستطع احد التعليق كانت مفاجأة فرغم أن بعضاً من الحاضرين والحاضرات كانوا من كادحي الوطن المتفولين إلا أن مخملية الأجواء فرضت الصمت , إلا الأستاذة خولة التي لم تتوقف عن الضحك ورجا المبتسم وزياد المندهش والكل معجب ولكن الإفصاح كان موؤوداً ......


(21)
وابتدأ الحاضرون يتبارون بإشعال الأمسية بالشعر والنقاشات حتى حمي الوطيس ونجحت الأمسية في إذكاء الحماس عند شباب الأدباء واستعراض الكبار ولكن يحيى كان في غير هذا الوارد .
رغم حبه للمناقشات والشعر وطرح الأدب إلا أن نفسه الآن مقسمة إلى قسمين:
فهو يكره أن تنشد الأشعار والنفوس تتناوش للظهور.
يكره الاجتماعات لاستعراض العضلات اللفظية وكان يتمنى أن تكون النقاشات هادفة لا لرفع الذائقة الأدبية فحسب بل لوضع حلول لإشكاليات كثيرة يعاني منها الأديب
وتمنى أن يكون قادرا ً على رفع صوته ليخبرهم بما في نفسه .
وقسم يؤنب نفسه وما أتى به هنا .
فكيف ينادي بكل هذا وقد أتى لمصلحة ؟.. لا ينكر أنه أتى لمصلحة .
أحس يحيى بالاختناق فإن شوك الرغبة في حل مشكلاته تدمي جموحه وتحشره في خانة قصية في نفسه أن يبقى النقي الذي لا يتنازل أبداً عن كرامته وعزة نفسه .
وأخذ يدغدغ ضميره بأنه لم يطلب من زياد شيئاً هو من عرض عليه وأخفى وجهه بين كفيه وكأنه لا يريد لدواخله أن ترى ملامحه . فكلما تذكر عرض زياد أحس بالاضطراب لا يدري كيف يحل لغز هذا الكرم الحاتمي غير المتوقع وشيئ ما يقلقه فليس الأمر مفتاحاً ذهبياً لغرفة العرش الأدبي إنه أخطر من ذلك وهو يحس به
يحس بخطر مقبل فنظرات زياد لا تريحه ....أبداً .
وهل لنا بسؤال للأديب اقتربت خولة تسائله بابتسامة :
- تفضلي وشعور بالارتياح لتواجدها أضفى على روحه قليلا ً من السكينة .
- هل تكتب دوما بهذا الأسلوب أم لديك أنواع أخرى ؟
- لا أدري لم ينادوني بهذا فأنا قليل ما أكتب ساخراً ربما أكتب بمرارة عن واقعنا أما السخرية فهي ليست السمة الغالبة إنها آلية ألجأ لها لما أريد أن أشعر بالانتصار فقط .
- وليس لتوقظ غيرك بأسلوب تهكمي !
- قد يأتي ذلك نتيجة أما الهدف فكثيراً ما يكون لي شخصياً .
- هذا صدق فغيرك قد يستعرض قلمه هنا ويقول من أجل الهدف العام .
- لو كان هذا خلقي لما وجدتني بهذا الحالة
- حقاً ..
- لك زاوية في الجريدة المحلية أعتقد ؟
- نعم وهي رومانسيات
وابتسم بسخرية
- جميلة فأنا أقرؤها دوماً كيف تكون حالتك ساعة كتابتها ؟
- إني أضع فيها من روحانيات قلبي وأذكيها بتوهج من مدادي فتأتي حالمة بعيدة في شفقية الأعمار لا علاقة لها بطين البلاد.
- نحتاج أحيانا لمثل هذا تحليق .
- بل نحتاج لتحليق يعيدنا أرضاً لا يبعدنا إلى ألف سنة ضوئية .
- فلم تكتبها إذا ؟
- لأني ........أبتسم بعدها فذاك قلما يحث لي
- مع أني أراك كثير الابتسام
- أريد أن أبتسم لي وليس علي ........


(22)
واستأذن الصديقان
- ممتعة تلك الجلسة أليس كذلك يا صديقي لولا تدخل المنتصر فيها .
- بل مقلقة .
علم رجا بأنه سيواجه بشخصية يحيى المترددة المتشككة بالنوايا فانبرى يقنعه كيف أنها فرصة العمر فلا يضيعها وماذا سيخسر؟ لا شيء بل بالعكس سينتشر على يد المتنفذ صاحب العلاقات التي ستفتح له أبواب النجاح والشهرة والمال .
وصمت يحيى , كان صمته مقلقاً لرجا رغم أنه أيضاً يحس بالغرابة فقد كان مقدمهم ليشتركوا بمسابقة القصة ولم يكونوا يحلمون بهذا الفتح الكبير ودفعة واحدة .
- إيه يا صديقي لربما تكون على حق ولكنا لسنا في ترف الإشراق فلا بذخ من هذه الناحية علينا فقد عشنا طوال العمر نقبع غرباً لما تشرق الشمس , وكان تجوالنا في عمرنا محض قهر أن نسلك طرقاً محفورة محفوفة بالحرمان فكيف تريد منا أن نصدق فجأة أن المارد قد أتى يحمل بيده كنوز سليمان.
إن رائحة الصبر المزروع في ثنايا أيدينا المشققة هو رائحة الطين هيا اشتمه يا رجا
أترى لما يأتينا الصحو متلفعاً بغلالة من حلم أترانا نصحو؟ أتظن أن ما حدث صحواً ؟ أم لا زلنا نوقظ حنيناً يداعب النفس أن صدقي يا نفس ويحك ألا يحق لك حتى الحلم كذباً والصدق خديعة .
صدقي ولا تضعي فرحك في شقوق الاحتمالات فقد غزاك الخوف كجيوش لجند صغيرة من هوام لا ترينها تأكل ترقبك للفرحة تأكل حتى رفضك للتصديق .
- بل عليك أن تحلم وتصدق الحلم فما سمعته من الرجل لم يكن إلا استعداداً....
- وقاطعه يحيى
أخشى أخي أن أحلم وأصدم
- ولم ؟
- لأني ببساطة لست من صائدي الفرص , فالفرصة فريسة أخشى أن يعلق بأظفاري شيء من دمها ولا يكون نظيفاً فلا أستطيع منه خلاصاً .
- لا تستبق الحدث فتقع في فوضى القرار.
- بل قل لا تحلم فتصدم وتوقع الأسوأ فترتاح
- ماذا يخيفك ؟
- هناك أخي في زاوية بعيدة من نفسي أحس بشيء مقلق ليس أني لم أعتد الفرح لا لا يا صديقي إن الفرحة تحاول أن تسكت الخوف عندي , ولكنه لا زال يلح علي كناقوس منتظم الطرقات طق طق طق كلما حاول الفرح أن يظهر أسمع الطرق ...طق طق طق
- ببساطة هو عدم تصديق بوجود شخص مثل زياد أبو الوفا , وصدقني يا أخي إنه تاجر ويعرف كيف يتحرك.
- آه نعم صدقت تاجر وهذا ما يخيفني .
- لالا تخف فأنت صاحب القرار وإن لم يعجبك عرضه لا تقبل يا أخي ما بالك تضخم الأمور ؟.
- هي ضخمة يا عزيزي فلا تظن أنها ليست كذلك
- ولفهما ظلام الصمت في طريق العودة لمنازلهما .......... في آخر الليل .





(23)
وبهدوء مميت حاول يحيى أن يندس في فراشه ولا يوقظ زوجته فأفلح وابتسم لنجاحه المبهر.
كاد الخوف أن يقتلع قلبه لما رآها تتحرك فقلما يصمد أمام انهيار حجارتها الكلامية فهي تتقن فن التنكيد وفن التلوم وفن جعل الفرحة ترحاً .
أحيانا يشفق يحيى عليها فهي لم تر يوما ًمريحا ًمعه فزوجة الأديب الملتزم تدفع الثمن إلم تكن على ذات النسق .وفوزية زوجته العزيزة لا تحمل إلا المتوسط من التعليم , وهذا ليس عيباً لمن تملك حباً للقراءة والأدب أو لديها فكر مستنير , وفوزية .......بينها وبين الكتب عداء شديد وتعتبر الكتب زوجة يحيي الثانية التي تأكل نصيب أولادها من الحياة الكريمة .
كانت حياتهما لا بأس بها لما كانت تعمل ولكن خالها المدير الذي حشرها في وظيفة بالمياومة طار بقضية رشوة فطارت معه وقبعت في بيتها تلوم اليوم الذي تزوجت فيه من أديب فقير لا تكاد وظيفته تطعمها الخبز الناشف.
وتمنى هو أنه لم يتزوج وكلما رأى حلوة المذاق ابنته الحبيبة تهون عليه أيامه مع فوزية فريما الجميلة هي بلسم حياته كلما ضمها في صدره يحس بأمه فهي تشبهها تماماً , حنونة جميلة رقيقة
ابتسم لتذكرها وخرج ليتفقدها فوجدها في سريرها تحتضن أخاها الصغير عمر .
مرر يده على شعرهما وأسدل الغطاء عليهما وغادر إلى الصالة يفكر في العتم بكل ما حصل .
وقفزت خولة إلى ذهنه فتململ وكأنه اقترف ذنبا ً وهز رأسه متعوذاً .
أمسك بقلمه يريد الكتابة والضوء مغلق , وتنبه على آذان الفجر فترك القلم وقام إلى الصلاة ليعود لنوم لا يريد أن يصحو منه حتى لا يواجه رعوداً تنتظره من كل اتجاه .
وكانت أول تباشير المعركة
بهجوم من الصغيرين عليه لإيقاظه و بإيعاز من المارشال فوزية قائد أركان حرب النكد في البيت
يبدو أن المناوشات الصغيرة هذه لا تهمه فهي محببة لنفسه ولكن التكتيك الاستراتيجي لإيقاظه ليس محبباً دائماً فهو أحياناً يكون تكسيراً للعظام بعبارات محبطة :
- قم يا زوجي العزيز فالطعام جاهز البيض والزبدة والحليب والخبز الحار قم
- آه سأكتب فيك مقالة يا فوزية أبين فيها كم أنت رائعة !
- حقاً لا يهم ما دمت تبيعها وتحضر خبزاً لعيالك .
نظر يحيى لريما الواجمة واحتضنها وأخذ يلاعبها هي وعمر ليرجف الجميع من صوت فوزية التي تحثه على الإسراع للذهاب للوظيفة .
وعند الباب
التفت يحيى ليرى الطفلين واقفين يلوحان له بأيديهما مودعين
فيبتسم لهما ويتمنى لو يقتطع من لحمه فيبيعه ليعيشا كل طفولتهما .
وتذكر أم خليل فجأة ودجاجاتها , وتضاربت الصور ولم يدر لم صعد إلى السطح وطرق باب أم خليل :
- صباح الخير يا أم خليل .
- أهلاً يا أبا عمر أهلاً وعيناها تدوران متعجبة لزيارته
-هل أطلب منك طلباً يا خالة
وبعد محاولات شتى ومناورات سلم يحيى ساعته القديمة لها رهناً لآخر الشهر وعاد لفوزية بدجاجة سمينة احتفل الصغار بها وتركهم بين الفرح والدهشة يتحسس معصمه فمنذ متى والزمن يهمه..
إنه بقيمة لما يكون فرحا ً كذاك الذي رآه في وجوه الصغار .

يتبع
صباح الضامن
صباح الضامن
(20) فلنسمع إذا لفارس القلم الساخر مقالته قال زياد مبتسما ًوأشار ليحيى أن يبدأ فقرأ يحيى بأسلوبه المميز في الإلقاء الآسر لكل لحظة تحاول أن تقصي اهتمام المستمعين : وقرأ.. (( وثيقة اعتداء)) تحلق الجميع حوله كان لا بد من دراسة لوضعه الحالي كل ما يمكن أن يفعل بحقه يجب أن يستحضروه وتمنوا فعلاً في تلك الحالة أن يكونوا عشاق كلمة حتى يستطيعوا وصفه بكل الصفات الغزلية الأثيرة ولكنه كان ينظر إليهم وقد فغر فاهه لا يلقي بالاً لمصير قد يصيبه من إقبالهم عليه . كان المسكين محط أنظار هذه المجموعة التي تظاهرت حوله ترفعه تارة وتحيط تواجده تارة باخضرار جميل ذو رائحة نفاذة وهو لا يستطيع حراكاً كل ما كان من الممكن فعله أن يقلب جنبيه فيخرج ما في جوفه نتيجة الهجوم المستمر عليه . ولكنه عزيز محبوب وكل ما يخرج منه تتلقفه الأيدي بحب وتودعها قلبها سائلة المولى أن يديم تواجده وأثره الفاعل . وصاح أحدهم يا ألله لقد نسينا ! وتنبه الجميع ماذا يا قاصف ؟؟ نسينا أن نحفه بالإيقاع فلا يحلو تواجده إلا مع إيقاع الكؤوس الحمراء الخفيفة الحلوة نضرب باليمين فيه وبالشمال نرفع أيدينا بأكواب الشاي كم هو تناغم واقعي جميل . وضحكوا لما سمعوه فقد ابتدأ القصف المحلي بالأرغفة الملتهبة والحشائش الخضراء من جرجير وبصل أخضر واستمر طبق الفول المحترم يختنق تارة من يد المتسابقين لغزوه فلا رقيب على جرمهم فالكل مشترك للنيل من هذا المسكين . وهو صامت لا يتكلم وماذا سيقول ؟ ينتظر قولته في نهاية المعركة . فالهجوم عليه بعد أن يستهلك كالهجوم على قلعة خارت قواها . وانتهوا حيث ابتدأ هو .. - لعنة الله عليك يا فول نأكلك وتؤلم بطوننا - آه أصبحنا لا نفقه شيئا أوه أتمنى النوم ...!! - إنه يطبق علينا كسمكة قرش يمتص نشاطنا . وصحن الفول الفارغ ينظر بشماتة الضعيف , مقتول وشامت . ولن ينتقم صحن الفول لنفسه قولاً فالفعل من شيم المتفولين نوماً وعسر هضم وضيق في التنفس ورائحة تذب عن المكاتب اعتداء المراجعين فالكل من الرائحة يقول اللهم سلم .........اللهم سلم . وتكتب كل يوم في بطون المعتدين وثيقة اعتداء على صحن الفول يؤكل ويلعن . يتسابقون إليه ويضربونه باليمين والشمال ولما ينتهون منه وقد أخمد أنفاسهم بثقله يذمونه . فكم من صحن فول رمي بالبطون قسراً وضرب بلا رحمة وأقصي بلا رحمة وتدافعت الحروف حطيئياتٍ عراضاً في حقه ......... وهو المنتصر رغم الاعتداء . انتهت --------- وصمت الجميع عند الانتهاء لم يستطع احد التعليق كانت مفاجأة فرغم أن بعضاً من الحاضرين والحاضرات كانوا من كادحي الوطن المتفولين إلا أن مخملية الأجواء فرضت الصمت , إلا الأستاذة خولة التي لم تتوقف عن الضحك ورجا المبتسم وزياد المندهش والكل معجب ولكن الإفصاح كان موؤوداً ...... (21) وابتدأ الحاضرون يتبارون بإشعال الأمسية بالشعر والنقاشات حتى حمي الوطيس ونجحت الأمسية في إذكاء الحماس عند شباب الأدباء واستعراض الكبار ولكن يحيى كان في غير هذا الوارد . رغم حبه للمناقشات والشعر وطرح الأدب إلا أن نفسه الآن مقسمة إلى قسمين: فهو يكره أن تنشد الأشعار والنفوس تتناوش للظهور. يكره الاجتماعات لاستعراض العضلات اللفظية وكان يتمنى أن تكون النقاشات هادفة لا لرفع الذائقة الأدبية فحسب بل لوضع حلول لإشكاليات كثيرة يعاني منها الأديب وتمنى أن يكون قادرا ً على رفع صوته ليخبرهم بما في نفسه . وقسم يؤنب نفسه وما أتى به هنا . فكيف ينادي بكل هذا وقد أتى لمصلحة ؟.. لا ينكر أنه أتى لمصلحة . أحس يحيى بالاختناق فإن شوك الرغبة في حل مشكلاته تدمي جموحه وتحشره في خانة قصية في نفسه أن يبقى النقي الذي لا يتنازل أبداً عن كرامته وعزة نفسه . وأخذ يدغدغ ضميره بأنه لم يطلب من زياد شيئاً هو من عرض عليه وأخفى وجهه بين كفيه وكأنه لا يريد لدواخله أن ترى ملامحه . فكلما تذكر عرض زياد أحس بالاضطراب لا يدري كيف يحل لغز هذا الكرم الحاتمي غير المتوقع وشيئ ما يقلقه فليس الأمر مفتاحاً ذهبياً لغرفة العرش الأدبي إنه أخطر من ذلك وهو يحس به يحس بخطر مقبل فنظرات زياد لا تريحه ....أبداً . وهل لنا بسؤال للأديب اقتربت خولة تسائله بابتسامة : - تفضلي وشعور بالارتياح لتواجدها أضفى على روحه قليلا ً من السكينة . - هل تكتب دوما بهذا الأسلوب أم لديك أنواع أخرى ؟ - لا أدري لم ينادوني بهذا فأنا قليل ما أكتب ساخراً ربما أكتب بمرارة عن واقعنا أما السخرية فهي ليست السمة الغالبة إنها آلية ألجأ لها لما أريد أن أشعر بالانتصار فقط . - وليس لتوقظ غيرك بأسلوب تهكمي ! - قد يأتي ذلك نتيجة أما الهدف فكثيراً ما يكون لي شخصياً . - هذا صدق فغيرك قد يستعرض قلمه هنا ويقول من أجل الهدف العام . - لو كان هذا خلقي لما وجدتني بهذا الحالة - حقاً .. - لك زاوية في الجريدة المحلية أعتقد ؟ - نعم وهي رومانسيات وابتسم بسخرية - جميلة فأنا أقرؤها دوماً كيف تكون حالتك ساعة كتابتها ؟ - إني أضع فيها من روحانيات قلبي وأذكيها بتوهج من مدادي فتأتي حالمة بعيدة في شفقية الأعمار لا علاقة لها بطين البلاد. - نحتاج أحيانا لمثل هذا تحليق . - بل نحتاج لتحليق يعيدنا أرضاً لا يبعدنا إلى ألف سنة ضوئية . - فلم تكتبها إذا ؟ - لأني ........أبتسم بعدها فذاك قلما يحث لي - مع أني أراك كثير الابتسام - أريد أن أبتسم لي وليس علي ........ (22) واستأذن الصديقان - ممتعة تلك الجلسة أليس كذلك يا صديقي لولا تدخل المنتصر فيها . - بل مقلقة . علم رجا بأنه سيواجه بشخصية يحيى المترددة المتشككة بالنوايا فانبرى يقنعه كيف أنها فرصة العمر فلا يضيعها وماذا سيخسر؟ لا شيء بل بالعكس سينتشر على يد المتنفذ صاحب العلاقات التي ستفتح له أبواب النجاح والشهرة والمال . وصمت يحيى , كان صمته مقلقاً لرجا رغم أنه أيضاً يحس بالغرابة فقد كان مقدمهم ليشتركوا بمسابقة القصة ولم يكونوا يحلمون بهذا الفتح الكبير ودفعة واحدة . - إيه يا صديقي لربما تكون على حق ولكنا لسنا في ترف الإشراق فلا بذخ من هذه الناحية علينا فقد عشنا طوال العمر نقبع غرباً لما تشرق الشمس , وكان تجوالنا في عمرنا محض قهر أن نسلك طرقاً محفورة محفوفة بالحرمان فكيف تريد منا أن نصدق فجأة أن المارد قد أتى يحمل بيده كنوز سليمان. إن رائحة الصبر المزروع في ثنايا أيدينا المشققة هو رائحة الطين هيا اشتمه يا رجا أترى لما يأتينا الصحو متلفعاً بغلالة من حلم أترانا نصحو؟ أتظن أن ما حدث صحواً ؟ أم لا زلنا نوقظ حنيناً يداعب النفس أن صدقي يا نفس ويحك ألا يحق لك حتى الحلم كذباً والصدق خديعة . صدقي ولا تضعي فرحك في شقوق الاحتمالات فقد غزاك الخوف كجيوش لجند صغيرة من هوام لا ترينها تأكل ترقبك للفرحة تأكل حتى رفضك للتصديق . - بل عليك أن تحلم وتصدق الحلم فما سمعته من الرجل لم يكن إلا استعداداً.... - وقاطعه يحيى أخشى أخي أن أحلم وأصدم - ولم ؟ - لأني ببساطة لست من صائدي الفرص , فالفرصة فريسة أخشى أن يعلق بأظفاري شيء من دمها ولا يكون نظيفاً فلا أستطيع منه خلاصاً . - لا تستبق الحدث فتقع في فوضى القرار. - بل قل لا تحلم فتصدم وتوقع الأسوأ فترتاح - ماذا يخيفك ؟ - هناك أخي في زاوية بعيدة من نفسي أحس بشيء مقلق ليس أني لم أعتد الفرح لا لا يا صديقي إن الفرحة تحاول أن تسكت الخوف عندي , ولكنه لا زال يلح علي كناقوس منتظم الطرقات طق طق طق كلما حاول الفرح أن يظهر أسمع الطرق ...طق طق طق - ببساطة هو عدم تصديق بوجود شخص مثل زياد أبو الوفا , وصدقني يا أخي إنه تاجر ويعرف كيف يتحرك. - آه نعم صدقت تاجر وهذا ما يخيفني . - لالا تخف فأنت صاحب القرار وإن لم يعجبك عرضه لا تقبل يا أخي ما بالك تضخم الأمور ؟. - هي ضخمة يا عزيزي فلا تظن أنها ليست كذلك - ولفهما ظلام الصمت في طريق العودة لمنازلهما .......... في آخر الليل . (23) وبهدوء مميت حاول يحيى أن يندس في فراشه ولا يوقظ زوجته فأفلح وابتسم لنجاحه المبهر. كاد الخوف أن يقتلع قلبه لما رآها تتحرك فقلما يصمد أمام انهيار حجارتها الكلامية فهي تتقن فن التنكيد وفن التلوم وفن جعل الفرحة ترحاً . أحيانا يشفق يحيى عليها فهي لم تر يوما ًمريحا ًمعه فزوجة الأديب الملتزم تدفع الثمن إلم تكن على ذات النسق .وفوزية زوجته العزيزة لا تحمل إلا المتوسط من التعليم , وهذا ليس عيباً لمن تملك حباً للقراءة والأدب أو لديها فكر مستنير , وفوزية .......بينها وبين الكتب عداء شديد وتعتبر الكتب زوجة يحيي الثانية التي تأكل نصيب أولادها من الحياة الكريمة . كانت حياتهما لا بأس بها لما كانت تعمل ولكن خالها المدير الذي حشرها في وظيفة بالمياومة طار بقضية رشوة فطارت معه وقبعت في بيتها تلوم اليوم الذي تزوجت فيه من أديب فقير لا تكاد وظيفته تطعمها الخبز الناشف. وتمنى هو أنه لم يتزوج وكلما رأى حلوة المذاق ابنته الحبيبة تهون عليه أيامه مع فوزية فريما الجميلة هي بلسم حياته كلما ضمها في صدره يحس بأمه فهي تشبهها تماماً , حنونة جميلة رقيقة ابتسم لتذكرها وخرج ليتفقدها فوجدها في سريرها تحتضن أخاها الصغير عمر . مرر يده على شعرهما وأسدل الغطاء عليهما وغادر إلى الصالة يفكر في العتم بكل ما حصل . وقفزت خولة إلى ذهنه فتململ وكأنه اقترف ذنبا ً وهز رأسه متعوذاً . أمسك بقلمه يريد الكتابة والضوء مغلق , وتنبه على آذان الفجر فترك القلم وقام إلى الصلاة ليعود لنوم لا يريد أن يصحو منه حتى لا يواجه رعوداً تنتظره من كل اتجاه . وكانت أول تباشير المعركة بهجوم من الصغيرين عليه لإيقاظه و بإيعاز من المارشال فوزية قائد أركان حرب النكد في البيت يبدو أن المناوشات الصغيرة هذه لا تهمه فهي محببة لنفسه ولكن التكتيك الاستراتيجي لإيقاظه ليس محبباً دائماً فهو أحياناً يكون تكسيراً للعظام بعبارات محبطة : - قم يا زوجي العزيز فالطعام جاهز البيض والزبدة والحليب والخبز الحار قم - آه سأكتب فيك مقالة يا فوزية أبين فيها كم أنت رائعة ! - حقاً لا يهم ما دمت تبيعها وتحضر خبزاً لعيالك . نظر يحيى لريما الواجمة واحتضنها وأخذ يلاعبها هي وعمر ليرجف الجميع من صوت فوزية التي تحثه على الإسراع للذهاب للوظيفة . وعند الباب التفت يحيى ليرى الطفلين واقفين يلوحان له بأيديهما مودعين فيبتسم لهما ويتمنى لو يقتطع من لحمه فيبيعه ليعيشا كل طفولتهما . وتذكر أم خليل فجأة ودجاجاتها , وتضاربت الصور ولم يدر لم صعد إلى السطح وطرق باب أم خليل : - صباح الخير يا أم خليل . - أهلاً يا أبا عمر أهلاً وعيناها تدوران متعجبة لزيارته -هل أطلب منك طلباً يا خالة وبعد محاولات شتى ومناورات سلم يحيى ساعته القديمة لها رهناً لآخر الشهر وعاد لفوزية بدجاجة سمينة احتفل الصغار بها وتركهم بين الفرح والدهشة يتحسس معصمه فمنذ متى والزمن يهمه.. إنه بقيمة لما يكون فرحا ً كذاك الذي رآه في وجوه الصغار . يتبع
(20) فلنسمع إذا لفارس القلم الساخر مقالته قال زياد مبتسما ًوأشار ليحيى أن يبدأ فقرأ يحيى...


(24)

الجو مائل للبرودة ولكنه أرحم من ذي قبل فالشمس ابتدأت بالظهور قوية اليوم على غير عادتها تفاءل لها يحيى وتمنى أن يكون اليوم إجازة وقال في نفسه :
- آه ما أجمل يوم الجمعة !
وقف يحيى عند دكان خليفة ينتظر الحافلة وعجب أن الدكان مغلق ماذا حل بصاحبه يا ترى ؟
ابتسم يحيى في نفسه هازئا يبدو أن جاري أفلس مما أعطاني بالأمس وكادت ضحكته القصيرة أن تظهر.
طال انتظاره للحافلة ولأن ساعته الآن تحولت إلى دجاجة سمينة فلم يعرف الوقت وتلفت يمنة ويسرة كل ما حوله ساكن
- ما ذا حل بالناس ؟.. إنه لايرى أحداً
وفي الزاوية البعيدة من الشارع رأى بائع الكعك يتجه لمكانه فانطلق إليه قائلا:
- صباح الخير يا جار كم الساعة ؟
- الثامنة
- ماذا ؟؟ يعني اني تأخرت على الدوام وضرب رأسه .
- أي دوام يا أبا عمر اليوم الجمعة ؟؟؟؟؟؟؟
آآآآآآآه رقص يحيى في الشارع فرحاً
ورقص ودار وقبل شاكراً بائع الكعك وانطلق كالريح إلى البيت ولم يتخيل أن حذاءه البالي سيطير به هكذا وما أن دخل البيت حتى وجد امرأته على البوابة ومعها أطفاله :
- إلى أين ؟
- سأزور أمي اليوم الجمعة قالتها بمكر مقصود
- وكنت تعرفين أنها الجمعة وأيقظتني ؟
احمر وجهه غضباً وتقدم نحوها بقلب الأسد وكاد أن يخنقها لولا أن ريما شدت بنطاله قائلة - - أبي تعال معنا إلى جدتي
- لن يذهب أحد .....عودي إلى البيت
وبوجه كالموتى حملت فوزية عمراً وانطلقت إلى الداخل وريما معه .
بيت بائس ذاك الذي يسكنه أمثال فوزية !
كم من مرة حاول تعبيد الطريق الواصل بين صحرائها وخضرة حياته فلا أمل
كل ما تمنى يحيى أن يحدث هو قليل من الحنان ذاك الذي افتقده يوم وفاة أمه ولم تعوضه فوزية فهي جبل النكد المليء حجارة .. لفظ قاس ونفسية يعشش فيها إرث حياة مادية اكتسبتها من واقعها المختل .
والدها سمسار أسهم مفلس دائماً وأخوها مهرب على الحدود وأمها نموذج فريد لمن يكره أي شيء عدا أولادها , وحبها لهم عقيم مجرد من حكمة .
كم يكره اليوم الذي جمعه بهذه العائلة ولكنه الآن يلتصق تماما بمرآتهم وصورهم المكررة في أعماقه تئن مشوهة .
ولولا صغاره لتركها ولكن القدر يريده أن يضيف في سجل حياته قوة احتمال أخرى .... لا فكاك منها .





(25)
كان يوما حافلاً من الشجار ولكن يحيى رحم أولاده ولم يرد أن يخنق فرحتهم بالدجاجة فاكتفى بالخروج من البيت للصلاة وعاد ومعه حلوى للصغار وزعت عليهم في المسجد .
الفرحة اكتملت عند الصغيرة حلوة المذاق وهدأت فوزية قليلا ً حتى أنها طلبت منه بأدب أن تذهب لوالدتها في العصر ووافق .
وجلس بجوار النافذة المطلة على شارع الإسكان الضيق يراقب زوجته والأولاد يخفيهم الزقاق الضيق .
آه يحتاج للهدوء ليفكر في عرض أبي الوفا, وانتظمت أنفاسه قليلا تقترب من حديث متناغم مع الجو حوله ,
ماذا يا يحيى ؟ ماذا يريد زياد ؟
وفي مسافة بين الذكاء والهروب منه وقفت النفس لا تريد أن تتصارح مع حديثها ونظر يحيى إلى قلمه الخشبي الأخضر وفتح ملفه الأخضر وأخذ يسكب قليلا من معاناة فكره لعل الكتابة ترتب أفكاره أو ..تدله على طريق المصارحة .
ورأى ورقه أتون نار يلتهم حروفه فيحيلها رمادية ..احتراق في داخله وعلى الورق نتيجته
وكتب
البيع :
====
يصطف البائعون في الشارع الكبير المختزل في عيونهم بتحركات المارة غير المبالين فيضيع بعض من أمل البيع لديهم . .
ويصطف كل ينادي على بضاعته إلا أم جواد
كانت تجلس على الأرض وثوبها الأسود البالي قطعة من قلب طاردها , من قلب من هجرها
احترق الخوف من كل شيء عندها واحترق الهم و الفرح , وكل حس, فقد فقدت عشاً صغيراً في غيمة الوطن كانت لها وبها ابنها جواد.
جواد الذي التحف رياح البحر القاسية وغادرها إلى إيطاليا ليعيش يبيع الحرب في نفسه بليرات قليلة ويسلم أسلحة العزة في مكان لا يعرفه فالتماثيل هناك سواء وهو يقف مثلهم حجر في داخله قلب حجري مات لما تلحف البحر وباع الحرب في نفسه .
وتبيع هي الدخان بالسيجارة لكل غادي ومتغني بصفير السعال الأزرق ! من أين تأتي يا أم جواد بالدخان ؟ وتنظر إلى سائلها نظرة موات
من حيث يبيعونها .. قالتها وتناولت قروشاً قليلة دفعتها لبائع الفطير بجوارها وأخذت منه فطيرة تبتلع لقيماتها وذاك دفعها لها بدوره لينفث دخاناً رمادياٍ كان لا يرتفع بأكثر من رأسه .
وعجباً يا دنيا.. تقف سيارة فارهة أمام أم جواد لا تلقي لها بالاً ويخرج السائق المتأنق يخاطبها طالباً دخاناً مهرباً من نوع نادر, وابتسامة بأسنان مصفرة
لا يوجد
وتثير السيارة غبار السخط على الجميع ليستمروا ببيع يسحبون الأنفاس يراقبون رجلاً ذي شعر أجعد يحمل مجموعة من الكتب يبسطها أمامهم ويصيح
تعالوا , كتب مجلدة الكتاب بقرشين ......معجم ال...بقرش موسوعة ال..........بقرشين
ويد أصغر من الحلم وأكبر من الحقيقة تطلب كتاب ( تحت الفراش لمزين الجعفر هل أجده ) ويخرجه البائع ذو الشعر الأجعد من جيبه وعيونه تدور هنا وهناك ويهمس
إنه بخمسين قرشاً
وتتلقفه اليد الأصغر من الحلم والأكبر من الحقيقة وتختفي في غبار الدنيا
تبيع أنفاسها ........ في كتاب مزين الجعفر كاتبة الحب الرخيص
ويبقى البيع مستمراً....


(26)
ناقص , مقالي ناقص ردد يحيى في نفسه ما بالي أبتعد عن أموري ولا اواجهها ؟؟ ما بالي لا أكتب عن معاناتي أنا
ثم عاد فقرأ مقالته وابتسم : ليس ناقصاً يا يحيى إنه إشارة بعيدة لكل بيع وأنت منهم وأنت منهم ..
ورجا هو من سيرتب لي فكري وسارع إليه يتمنى أن يجد لديه الحل
رجا صديق العمر , من يخفي ألم السنين في وجه ذي ملامح مرحة مقبلة على الحياة , واقعي بلا هوادة لا يجامل في مبادئه ولكنه لا يحارب كثيرا من أجلها يبقيها في خزائنه الفكرية حتى يأكلها الموت أو الملل .
وتهلل وجه رجا لقدوم صديقه فانطلقا في الحقول المجاورة كعادتهما لما يتباحثان في أمر .
- دبرني يا وزير ضحك يحيى قائلاً
- ليست كيمياء ولا ذرة يا صديقي هيا لنحضر إنتاجك من البيت وننطلق لزياد .
- هل يخالجك خوف على صديقك يا رجا ؟
- مم ؟
صمت يحيى أحس بأن نظرات رجا تتهرب من مواجهة حقيقة الخوف الواضحة في نبراته
وأجابه رجا :
- كلنا يا صديقي في مواجهة للخوف أو في جحره إياك أن تظن أنك المقصود في معركة الحياة ألا ترى أننا كلنا في دائرة واحدة .
- نعم كلنا ولكن هناك من يقف بعيداً لا يقتحم الجحر فينجو بخوفه وجبنه وهناك من يوضع أمامه قسراً فيضطر إلى ابتياع سيف يقارع فيه رمضاء حياته فيحترق .
- وأي سيف تريد أن تبتاع هنا يا خائف ؟
- سيف الحقيقة
- ألا ترى أن كل الحقائق ساعة نعوزها تختفي ؟
- لا لا أرى ذلك إنها لا تختفي بل إنا نغيبها ونقولبها ونلبسها طاقية الإخفاء بأيدينا .
- ولم نفعل ذلك ؟
- لأنا لا نريد أن نواجهها فإما أنها مؤلمة أو قاتلة .
- ولم لا تبتاع السيف وتنقذ نفسك ؟ ألا تملك ثمنه هنا ؟وأشار إلى رأسه ثم أردف قائلاًً:
يا عزيزي يحيى إننا رفقاء الحرف أنا أكتب مثلك وإن كنت أنحو منحى يعينني في حياتي فلا أضع قلمي بين مطرقتهم وسندانهم بل أجاور مد البحر لقوم صغار أشبع عالمهم اللعوب بدميات حروفي فأكون معهم أتأرجح على حبال الدنيا فعشت ...
- وقاطعه يحيى نعم عشتَ بلا مساس , والآن أنت بعيد عن مرمى الهدف أنت تكتب مقابل حياة بمواصفات مريحة وأنا أكتب مقابل حياة بمواصفات محاصرة . حتى لما حلق القلم بعيداً أملا ببيع الأحلام على قارعاتهم واستشرفت منه خيراً كان لا سوق لأدبي فلا نجوت يوم حلقت بعيداً ولا نجا عقلي . وظللت خائفاً من أجساد تقترب تناوش كفي فتثقبه فلا يستطيع للقلم حملاً .
- وكأنك يا صديقي لا ترى من حولك أكل من كتب يعاني معاناتك ؟
- كل من أراد أن يحمل سيف الحقيقة ويضع نصله في عين الشمس فيومض بكل الصور الصارخة ليقول للعالم هيا انظروا
هنا خطأ ...هنا قهر ... هنا أكل للحقوق .. هنا تغييب للإنسان ..هنا دعوة لفساد .. هنا بيع رخيص لكل القيم وهنا ....هم يأكلون حريتنا فيكبرون قيوداً في قلوبنا إن رضخنا وسقماً وعداءً ومحاربة وتضييقاً إن رفضنا ..
- ولكني أرى قوماً يصرخون ويحملون سيف الحقيقة وينتشرون فلم أنت لا ؟؟ لم يا صديقي هل أصبح الأديب يحيى خطراً لدرجة المنع
- بل يصرخون ويحملون سيف الحقيقة وهم يا صديقي إما مثلي مطحونون وإما لديهم ما يتكئون عليه أما أنا فجدري يا صديقي قرية مغيبة اختزلت ببيت أكثر تغييباً بها عالمي الراجف صدري له من حرمان .
- أحس بمعاناتك يحيى ولكن أنت الآن على مفترق طريق فإما أن تقتحمه وإما أن تعود وتتغنى على أطلال قريتك المغيبة .
ويتلفت يحيى حوله ذاهلاً .. النقاط الآن على جملة واحدة إما الاقتحام وخوض ما لا يعرفه وأن يعطي إنتاجه لزياد أبو الوفا ولا يدري ماذا سيفعل بها وأي ثمن سيكون .
وإما أن ينقلب إلى أهله يحمل أوراقه المخبأة محروقة حروفها في قلبه أتته بنار ولم تكن له قبساً .
ونظر إلى رجا كان ذاك قد أستند إلى شجرة زيتون كبيرة يكتب بغصن مقتلع منها بعض الخطوط على الأرض المحمرة .
- هل حقاً زياد سليم النوايا ؟؟ هل حقاً سينشر إنتاجي ولم يفعل ذلك ليس مجبراً ولا أعني له شيئاً !!! وهو أيضا تاجر يزن ماله لما يعطيه ليرى كم ثقله بيد آخذه ويحسب هذا الثقل يحسب عطاياه .
- معك حق بالتخوف ولا ألومك وجهدك وعرق السنين والمعاناة ورفضك المساومة على عقلك وإرضاخه للتنازل عن مبدأ الإصلاح الذي اخطتته وكتابة أدب رخيص للاستهلاك أدب لا يدوم ويدني الناس من طين منتن ولا يرقى بهم كل هذا يجعلك حقاً تخشى وكأنك ...
- وكأني يا صاح أبيع نفسي ألا ترى أني أخشى أن أضطر لبيعها ؟
- وكأنك خائف من أن تضعف , كل العروض كانت نشر وانتشار ولربما المادة كانت أقل مما يطمح به أي أديب أما الآن
- حقاً الآن أنا بين فكي الرحى أخشى وتوقف
- تخشى أن يغريك بالمال وقت العوز فتبيع ....... وقد يغريك لأكثر من البيع
ولكن أنت وميزانك .
- أحتاجك
- تريديني ضميرك
- أريدك مثل هذه الشجرة التي تستند إليها لا أريد ان تتكسر أغصاني يا رجا فالريح هذه المرة قد تكون أقوى من احتمالي .
وصمت رجا وهو يرى صديقه خائفاً , كان دائما يراه قوياً أمام كل المغريات , كم وكم ساوموه ليعود عن أفكاره , وكم اقتحموا حصن نفسه المنيع الناصع بقليل أو كثير من بصماتهم السوداء فرفض . وكم وكم لم يجد من يسوق له فكره رغم نظافة بعضهم وحملهم لنفس الأفكار ولكن المغامرة تقفل قلاعهم فيرتدوا إلى داخلها خائفين من المساندة . والآن هو أمام تحد أكبر فهو يعلم من هو زياد إنه إن أراد شيئا ً ناله ولا يدر الآن ماذا يريد ؟؟ وتمنى رجا لو لم يعرف صديقه عليه فالحروب الصغيرة خساراتها صغيرة أما هذه فسيوفهم أمامها ضئيلة والخسارات ستكون أكبر .
ونظر إلى يحيى بوجه صادق وقلب أصدق قائلاً
- يا صديقي سأكون معك لا أريد ان أيئسك وأدغدغ خوفك بالهروب لا ... لنقتحم معا فلا خسارة لما نكون يداً واحدة ولا تنس لما تدخل عليه
أنك الأديب يحيى العمر ولديك اليد الطولى فكرك في عقلك لا أحد يطاله أما ماله ففي جيبه والكل قادر على انتزاعه أفهمت !!
- فهمت يا صديقي فهيا إلى ...فك المعادلة .



يتبع
صباح الضامن
صباح الضامن
(24) الجو مائل للبرودة ولكنه أرحم من ذي قبل فالشمس ابتدأت بالظهور قوية اليوم على غير عادتها تفاءل لها يحيى وتمنى أن يكون اليوم إجازة وقال في نفسه : - آه ما أجمل يوم الجمعة ! وقف يحيى عند دكان خليفة ينتظر الحافلة وعجب أن الدكان مغلق ماذا حل بصاحبه يا ترى ؟ ابتسم يحيى في نفسه هازئا يبدو أن جاري أفلس مما أعطاني بالأمس وكادت ضحكته القصيرة أن تظهر. طال انتظاره للحافلة ولأن ساعته الآن تحولت إلى دجاجة سمينة فلم يعرف الوقت وتلفت يمنة ويسرة كل ما حوله ساكن - ما ذا حل بالناس ؟.. إنه لايرى أحداً وفي الزاوية البعيدة من الشارع رأى بائع الكعك يتجه لمكانه فانطلق إليه قائلا: - صباح الخير يا جار كم الساعة ؟ - الثامنة - ماذا ؟؟ يعني اني تأخرت على الدوام وضرب رأسه . - أي دوام يا أبا عمر اليوم الجمعة ؟؟؟؟؟؟؟ آآآآآآآه رقص يحيى في الشارع فرحاً ورقص ودار وقبل شاكراً بائع الكعك وانطلق كالريح إلى البيت ولم يتخيل أن حذاءه البالي سيطير به هكذا وما أن دخل البيت حتى وجد امرأته على البوابة ومعها أطفاله : - إلى أين ؟ - سأزور أمي اليوم الجمعة قالتها بمكر مقصود - وكنت تعرفين أنها الجمعة وأيقظتني ؟ احمر وجهه غضباً وتقدم نحوها بقلب الأسد وكاد أن يخنقها لولا أن ريما شدت بنطاله قائلة - - أبي تعال معنا إلى جدتي - لن يذهب أحد .....عودي إلى البيت وبوجه كالموتى حملت فوزية عمراً وانطلقت إلى الداخل وريما معه . بيت بائس ذاك الذي يسكنه أمثال فوزية ! كم من مرة حاول تعبيد الطريق الواصل بين صحرائها وخضرة حياته فلا أمل كل ما تمنى يحيى أن يحدث هو قليل من الحنان ذاك الذي افتقده يوم وفاة أمه ولم تعوضه فوزية فهي جبل النكد المليء حجارة .. لفظ قاس ونفسية يعشش فيها إرث حياة مادية اكتسبتها من واقعها المختل . والدها سمسار أسهم مفلس دائماً وأخوها مهرب على الحدود وأمها نموذج فريد لمن يكره أي شيء عدا أولادها , وحبها لهم عقيم مجرد من حكمة . كم يكره اليوم الذي جمعه بهذه العائلة ولكنه الآن يلتصق تماما بمرآتهم وصورهم المكررة في أعماقه تئن مشوهة . ولولا صغاره لتركها ولكن القدر يريده أن يضيف في سجل حياته قوة احتمال أخرى .... لا فكاك منها . (25) كان يوما حافلاً من الشجار ولكن يحيى رحم أولاده ولم يرد أن يخنق فرحتهم بالدجاجة فاكتفى بالخروج من البيت للصلاة وعاد ومعه حلوى للصغار وزعت عليهم في المسجد . الفرحة اكتملت عند الصغيرة حلوة المذاق وهدأت فوزية قليلا ً حتى أنها طلبت منه بأدب أن تذهب لوالدتها في العصر ووافق . وجلس بجوار النافذة المطلة على شارع الإسكان الضيق يراقب زوجته والأولاد يخفيهم الزقاق الضيق . آه يحتاج للهدوء ليفكر في عرض أبي الوفا, وانتظمت أنفاسه قليلا تقترب من حديث متناغم مع الجو حوله , ماذا يا يحيى ؟ ماذا يريد زياد ؟ وفي مسافة بين الذكاء والهروب منه وقفت النفس لا تريد أن تتصارح مع حديثها ونظر يحيى إلى قلمه الخشبي الأخضر وفتح ملفه الأخضر وأخذ يسكب قليلا من معاناة فكره لعل الكتابة ترتب أفكاره أو ..تدله على طريق المصارحة . ورأى ورقه أتون نار يلتهم حروفه فيحيلها رمادية ..احتراق في داخله وعلى الورق نتيجته وكتب البيع : ==== يصطف البائعون في الشارع الكبير المختزل في عيونهم بتحركات المارة غير المبالين فيضيع بعض من أمل البيع لديهم . . ويصطف كل ينادي على بضاعته إلا أم جواد كانت تجلس على الأرض وثوبها الأسود البالي قطعة من قلب طاردها , من قلب من هجرها احترق الخوف من كل شيء عندها واحترق الهم و الفرح , وكل حس, فقد فقدت عشاً صغيراً في غيمة الوطن كانت لها وبها ابنها جواد. جواد الذي التحف رياح البحر القاسية وغادرها إلى إيطاليا ليعيش يبيع الحرب في نفسه بليرات قليلة ويسلم أسلحة العزة في مكان لا يعرفه فالتماثيل هناك سواء وهو يقف مثلهم حجر في داخله قلب حجري مات لما تلحف البحر وباع الحرب في نفسه . وتبيع هي الدخان بالسيجارة لكل غادي ومتغني بصفير السعال الأزرق ! من أين تأتي يا أم جواد بالدخان ؟ وتنظر إلى سائلها نظرة موات من حيث يبيعونها .. قالتها وتناولت قروشاً قليلة دفعتها لبائع الفطير بجوارها وأخذت منه فطيرة تبتلع لقيماتها وذاك دفعها لها بدوره لينفث دخاناً رمادياٍ كان لا يرتفع بأكثر من رأسه . وعجباً يا دنيا.. تقف سيارة فارهة أمام أم جواد لا تلقي لها بالاً ويخرج السائق المتأنق يخاطبها طالباً دخاناً مهرباً من نوع نادر, وابتسامة بأسنان مصفرة لا يوجد وتثير السيارة غبار السخط على الجميع ليستمروا ببيع يسحبون الأنفاس يراقبون رجلاً ذي شعر أجعد يحمل مجموعة من الكتب يبسطها أمامهم ويصيح تعالوا , كتب مجلدة الكتاب بقرشين ......معجم ال...بقرش موسوعة ال..........بقرشين ويد أصغر من الحلم وأكبر من الحقيقة تطلب كتاب ( تحت الفراش لمزين الجعفر هل أجده ) ويخرجه البائع ذو الشعر الأجعد من جيبه وعيونه تدور هنا وهناك ويهمس إنه بخمسين قرشاً وتتلقفه اليد الأصغر من الحلم والأكبر من الحقيقة وتختفي في غبار الدنيا تبيع أنفاسها ........ في كتاب مزين الجعفر كاتبة الحب الرخيص ويبقى البيع مستمراً.... (26) ناقص , مقالي ناقص ردد يحيى في نفسه ما بالي أبتعد عن أموري ولا اواجهها ؟؟ ما بالي لا أكتب عن معاناتي أنا ثم عاد فقرأ مقالته وابتسم : ليس ناقصاً يا يحيى إنه إشارة بعيدة لكل بيع وأنت منهم وأنت منهم .. ورجا هو من سيرتب لي فكري وسارع إليه يتمنى أن يجد لديه الحل رجا صديق العمر , من يخفي ألم السنين في وجه ذي ملامح مرحة مقبلة على الحياة , واقعي بلا هوادة لا يجامل في مبادئه ولكنه لا يحارب كثيرا من أجلها يبقيها في خزائنه الفكرية حتى يأكلها الموت أو الملل . وتهلل وجه رجا لقدوم صديقه فانطلقا في الحقول المجاورة كعادتهما لما يتباحثان في أمر . - دبرني يا وزير ضحك يحيى قائلاً - ليست كيمياء ولا ذرة يا صديقي هيا لنحضر إنتاجك من البيت وننطلق لزياد . - هل يخالجك خوف على صديقك يا رجا ؟ - مم ؟ صمت يحيى أحس بأن نظرات رجا تتهرب من مواجهة حقيقة الخوف الواضحة في نبراته وأجابه رجا : - كلنا يا صديقي في مواجهة للخوف أو في جحره إياك أن تظن أنك المقصود في معركة الحياة ألا ترى أننا كلنا في دائرة واحدة . - نعم كلنا ولكن هناك من يقف بعيداً لا يقتحم الجحر فينجو بخوفه وجبنه وهناك من يوضع أمامه قسراً فيضطر إلى ابتياع سيف يقارع فيه رمضاء حياته فيحترق . - وأي سيف تريد أن تبتاع هنا يا خائف ؟ - سيف الحقيقة - ألا ترى أن كل الحقائق ساعة نعوزها تختفي ؟ - لا لا أرى ذلك إنها لا تختفي بل إنا نغيبها ونقولبها ونلبسها طاقية الإخفاء بأيدينا . - ولم نفعل ذلك ؟ - لأنا لا نريد أن نواجهها فإما أنها مؤلمة أو قاتلة . - ولم لا تبتاع السيف وتنقذ نفسك ؟ ألا تملك ثمنه هنا ؟وأشار إلى رأسه ثم أردف قائلاًً: يا عزيزي يحيى إننا رفقاء الحرف أنا أكتب مثلك وإن كنت أنحو منحى يعينني في حياتي فلا أضع قلمي بين مطرقتهم وسندانهم بل أجاور مد البحر لقوم صغار أشبع عالمهم اللعوب بدميات حروفي فأكون معهم أتأرجح على حبال الدنيا فعشت ... - وقاطعه يحيى نعم عشتَ بلا مساس , والآن أنت بعيد عن مرمى الهدف أنت تكتب مقابل حياة بمواصفات مريحة وأنا أكتب مقابل حياة بمواصفات محاصرة . حتى لما حلق القلم بعيداً أملا ببيع الأحلام على قارعاتهم واستشرفت منه خيراً كان لا سوق لأدبي فلا نجوت يوم حلقت بعيداً ولا نجا عقلي . وظللت خائفاً من أجساد تقترب تناوش كفي فتثقبه فلا يستطيع للقلم حملاً . - وكأنك يا صديقي لا ترى من حولك أكل من كتب يعاني معاناتك ؟ - كل من أراد أن يحمل سيف الحقيقة ويضع نصله في عين الشمس فيومض بكل الصور الصارخة ليقول للعالم هيا انظروا هنا خطأ ...هنا قهر ... هنا أكل للحقوق .. هنا تغييب للإنسان ..هنا دعوة لفساد .. هنا بيع رخيص لكل القيم وهنا ....هم يأكلون حريتنا فيكبرون قيوداً في قلوبنا إن رضخنا وسقماً وعداءً ومحاربة وتضييقاً إن رفضنا .. - ولكني أرى قوماً يصرخون ويحملون سيف الحقيقة وينتشرون فلم أنت لا ؟؟ لم يا صديقي هل أصبح الأديب يحيى خطراً لدرجة المنع - بل يصرخون ويحملون سيف الحقيقة وهم يا صديقي إما مثلي مطحونون وإما لديهم ما يتكئون عليه أما أنا فجدري يا صديقي قرية مغيبة اختزلت ببيت أكثر تغييباً بها عالمي الراجف صدري له من حرمان . - أحس بمعاناتك يحيى ولكن أنت الآن على مفترق طريق فإما أن تقتحمه وإما أن تعود وتتغنى على أطلال قريتك المغيبة . ويتلفت يحيى حوله ذاهلاً .. النقاط الآن على جملة واحدة إما الاقتحام وخوض ما لا يعرفه وأن يعطي إنتاجه لزياد أبو الوفا ولا يدري ماذا سيفعل بها وأي ثمن سيكون . وإما أن ينقلب إلى أهله يحمل أوراقه المخبأة محروقة حروفها في قلبه أتته بنار ولم تكن له قبساً . ونظر إلى رجا كان ذاك قد أستند إلى شجرة زيتون كبيرة يكتب بغصن مقتلع منها بعض الخطوط على الأرض المحمرة . - هل حقاً زياد سليم النوايا ؟؟ هل حقاً سينشر إنتاجي ولم يفعل ذلك ليس مجبراً ولا أعني له شيئاً !!! وهو أيضا تاجر يزن ماله لما يعطيه ليرى كم ثقله بيد آخذه ويحسب هذا الثقل يحسب عطاياه . - معك حق بالتخوف ولا ألومك وجهدك وعرق السنين والمعاناة ورفضك المساومة على عقلك وإرضاخه للتنازل عن مبدأ الإصلاح الذي اخطتته وكتابة أدب رخيص للاستهلاك أدب لا يدوم ويدني الناس من طين منتن ولا يرقى بهم كل هذا يجعلك حقاً تخشى وكأنك ... - وكأني يا صاح أبيع نفسي ألا ترى أني أخشى أن أضطر لبيعها ؟ - وكأنك خائف من أن تضعف , كل العروض كانت نشر وانتشار ولربما المادة كانت أقل مما يطمح به أي أديب أما الآن - حقاً الآن أنا بين فكي الرحى أخشى وتوقف - تخشى أن يغريك بالمال وقت العوز فتبيع ....... وقد يغريك لأكثر من البيع ولكن أنت وميزانك . - أحتاجك - تريديني ضميرك - أريدك مثل هذه الشجرة التي تستند إليها لا أريد ان تتكسر أغصاني يا رجا فالريح هذه المرة قد تكون أقوى من احتمالي . وصمت رجا وهو يرى صديقه خائفاً , كان دائما يراه قوياً أمام كل المغريات , كم وكم ساوموه ليعود عن أفكاره , وكم اقتحموا حصن نفسه المنيع الناصع بقليل أو كثير من بصماتهم السوداء فرفض . وكم وكم لم يجد من يسوق له فكره رغم نظافة بعضهم وحملهم لنفس الأفكار ولكن المغامرة تقفل قلاعهم فيرتدوا إلى داخلها خائفين من المساندة . والآن هو أمام تحد أكبر فهو يعلم من هو زياد إنه إن أراد شيئا ً ناله ولا يدر الآن ماذا يريد ؟؟ وتمنى رجا لو لم يعرف صديقه عليه فالحروب الصغيرة خساراتها صغيرة أما هذه فسيوفهم أمامها ضئيلة والخسارات ستكون أكبر . ونظر إلى يحيى بوجه صادق وقلب أصدق قائلاً - يا صديقي سأكون معك لا أريد ان أيئسك وأدغدغ خوفك بالهروب لا ... لنقتحم معا فلا خسارة لما نكون يداً واحدة ولا تنس لما تدخل عليه أنك الأديب يحيى العمر ولديك اليد الطولى فكرك في عقلك لا أحد يطاله أما ماله ففي جيبه والكل قادر على انتزاعه أفهمت !! - فهمت يا صديقي فهيا إلى ...فك المعادلة . يتبع
(24) الجو مائل للبرودة ولكنه أرحم من ذي قبل فالشمس ابتدأت بالظهور قوية اليوم على غير عادتها...
(27)
وعند بوابة قصر زياد وقف الصديقان كان الباب مشرعاً ويطل منه البهو الكبير يتحدى ضيق صدورهما وضيق بيوتهما وضيق شوارعهما و يوحي إليهما بأمر خفي .
سمعوا هنا همساً يختلف عن ذاك الضجيج المتهالك في القلوب . فهنا همس عال بنغمة وتيرتها لا تتقطع ولا تخبو ولا تخنق , إنها وتيرة غنية .
وهاهي يا يحيى جولتك الآن أنت تملك سطورها فهل ستحسن السير في ميمنتها وميسرتها أم أن اقتحامك سيكون الآن انتحاراً لكل ما ناديت به .
هيا يحيى خذ عقلك فأنت أمام عقل المال فمن سينتصر ؟
وانطلق صوت زياد مرحباً رآه يحيى اليوم مختلفاً رآه أطول قليلاً وأكثر اعتداداً بنفسه وحتى نبرة الترحيب كانت جامدة ليس فيها تلك الحرارة وأحس بقشعريرة تسري في كيانه وكأن هبة الهواء الباردة حولهم تنذر بجو مكفهر .
وانطلق الصديقان إلى مكتب زياد
وشعر يحيى بأنه في معرض لكل التقنيات الحديثة وليس مكتباً ولكنه لم يدقق بالتفاصيل كثيراً حتى لا يهتز فيكفيه ما به .
وابتدأ زياد بالحديث كسر به جو التوتر القائم :
- كيف الحال يا أدباءنا ؟
آه قال يحيى بنفسه كأن (( النا )) هذه تقدمة لاحتواء شيء فبادره قائلاً ممازحاً
- أفضل بقليل من أمس فالمنتصر ليس هنا .
ضحك الجميع وقال زياد :
- حادثني على الهاتف صديقك المنتصر يعاتبني أن سمحت لك بالتهجم عليه
- هل كان ينتظر أن تطردني ؟ قالها يحيى بكبرياء جعلت زياد يأخذ قلماً أمامه ويرتد مستنداً على مقعده الجلدي الوثير .ولم يجب مما جعل يحيى يقول لنفسه يبدو أني أصبت منه أمراً لا يحبه فتدخل رجا قائلا ً
- السيد زياد يعرف قيمة الرجال ولن يفعلها .
ابتسم زياد لهذه الرشوة ولم تعجب يحيى فصمت ولم يعقب .
ولكن زياد أردف قائلا:
- بل كان ينتظر أن أسانده فهو صديق قديم لي وبيننا تعاملات كثيرة .
هزت العبارة الأخيرة يحيى وتضايق منها وكأنها مؤشر هذا هو زياد الذي سيشتري إنتاجك يا يحيى أنظر من يصاحب .
وتابع زياد قائلا :
- أنا لا يهمني ماضي الرجل ولا كيف كان ما يهمني أنه ناجح الآن ولديه سجل تجاري نظيف ويكفيني هذا .
آه نظيف حدث يحيى نفسه يبدو أنه غسل أمواله كما كان يغسل الترمس .
- عموما هو ليس محور اهتمامنا الليلة فلنتحدث بأمر الكتب , الحقيقة أني أريد كل إنتاجك بالأمس لما ذهبتم طلبت كل أعداد الصحف التي تنشر بها مقالاتك وأعجبتني جداً ولكني علمت من بعض الإخوة أن ما يخبأ في أدراجك ليس ذاك النوع من الرومانسيات بل هي قصص منعوا نشرها لأنك فيها تهاجم الخطأ وتضع قلمك في عينه فلما خافوا من أن تسيل دماؤهم خنقوا كلماتك أليس هذا ما حدث ؟
دهش رجا من أسلوب زياد فهو يعلم أن الرجل ليس بقاريء وإن كان يحب اجتماع الأدباء فهو يريد استكمال نقص لديه فلا شهادات له ولا أحد يعرف كيف جمع ثروته وأصابع الاتهام كثيرة ولكنه وأدها بمشاريعه الثقافية والانتاجية
فمن أين له هذا التحليل الدقيق ؟ يبدو أن المستشارين كثر ؟ فنظر إلى يحيى الذي كان ينقر بإصبعه على طرف المكتب متفكراً بما قال وليس حاله بأقل من صاحبه فالدهشة اعترته من هذا التلخيص الدقيق والمباشر لكل شيء .
وحثه زياد على التفاعل بقوله
- أليس كذلك يا صديق ؟؟
- بلى كذلك يا سيد زياد
- إذا فلنكن صرحاء
- كيف ؟ وبم
- أنت لديك العقل والفكر والأدب والموهبة
- نعم
- وأنا لدي العقل والمال وموهبة توظيفه وتشغيله
- بلا شك
- إذا فنحن نكمل بعضنا
- لأي حلقة يا سيد زياد نكمل أي حلقة ؟
تنبه زياد لقولة يحيى ولكنه لم يجبه واسترسل قائلاً :
- قلت لك بالأمس أن تحضر كل إنتاجك ووعدتك بنشره أليس كذلك ؟
- بلى
- وأنا عند كلمتي .. ولكن
واهتز قلب يحيى وتململ رجا في مكانه
- ولكن ماذا ؟؟
- فقط أريد ان أسألك سؤالا يا يحيى ؟ لم رفضت تغيير أفكارك وتمسكت بها أليس لأنك مخلص لمبادئك ؟ أليس لأنك تريد أن تنشر أفكارك التي تصلح وتبني وتعرف الناس على مواطن الخطأ ؟
- بلى يا سيد زياد بلى ..
- أنا ساقوم بنشر أفكارك كلها ولن أنقص حرفاً واحداً مما كتبته بل سأنشرها في كل بقاع العالم ولو اقتضى الأمر ان أترجمها إلى لغات كثيرة فسأفعل وسترى كلامك بين أيدي الكثير وسيتحقق حلمك وتصلح وتبني .
- ولكنك يا سيد زياد لم تقرأه بعد فقد يكون أصعب من أن ينشر
- تعني أن به مساس لشخصيات بأسمائها
- لا أبداً فأنا لم أتعرض أبدا لأشخاص فذاك لا يهمني إنما أردت أن أحث الناس على رؤية الخطأ وإشعال همتهم للعمل الجاد لرفع هذا الخطأ وعدم الرضوخ من أجل لقمة العيش ويتركوا المقولة اللهم نفسي اللهم نفسي .
- عظيم جداً وأنا سأنشر هذا التوجه وأحب أن أكون فاعلاً فيه
تعجب يحيى وتذكر كلمة ولكن ... التي قطعها زياد وأحس أنه ابتلع طوفانا ً سيقذفه الآن وخشي يحيى أن يكون نجاته أن يضع كتبه أسفل رجليه حتى لا يغرق .
واستطرد زياد :
- سأنشره يحيى سأنشره أيها الأديب بآلاف النسخ وقد يحصد جوائز ولكن ...
- ولكن ......
- مادام الهدف العام وجهتك ولا يهمك أي شيء
- طبعاً الهدف العام هو وجهتي
- إذاً لن نختلف .
- على ماذا ؟؟؟؟ وأوجس يحيى هنا خيفة .
- أن أضع بدلاً من اسمك ............إسمي .
(28)

كلما ... كلما سدت سدود واستبيح النقاء وصار فريسة بحث في قواميس اللغة وجد توصيف لكل شيء إلا هذا .....
أين أنت يا رباطة الجأش الآن ؟
تعالي يا نفس يا محاربة واستحدثي سلاحاً فقد أن الفؤاد بما سمع .
ويح خطوات العوز التي قادت سفنك الطائشة في بحر لجي يغشاه ظلم فوق ظلم .
فتح المزاد والبائع قادر
فتح المزاد من يشتري العقل بأعلى الأثمان
فتح المزاد يا يحيى ولن تعرف كيف تصل بلوحاتك لأعلى ثمن .
أنت الآن على جسر خشبي قديم في عرض البحر أمامك هواء القراصنة يحمل ذهب الجزيرة المفقودة وخلفك أحلامك منشورة بأساطير حولك :
كان هنا فتى همام يدعى يحيى من أجل الصالح العام عبأ أحلامه في زجاجة وألقى بها في يم كبير فاستلقفتها عفاريت البحر وطاروا بها حيث قرصان وملك لأعالي البحارفقام بنشرها في كل شراع له فأصبحت الرياح لها منجبة وقبلها دود الأرض وفراش الحقول وكل دابة هابة بترحاب .
وما كانوا له رفقاء وما توسدوا أذرعة حروفه ولا ناموا في أحضانها فهي أخطر منهم .
أما الآن فقد زال الخطر فجأة وأصبحت مذهبة مجنحة مزهوة صائبة لأنها بتوقيع غير توقيعه .
هكذا سيكون ..........
ووقف يحيى ولم ينبس ببنت شفة فقد رأى كتبه تتطاير أمامه تحمل اسم زياد أبو الوفا ورأى بائع الكتب ذي الشعر الأجعد يبيعها قائلاًً :
كتب العلامة زياد
كتب الأديب زياد أبو الوفا
ب...ب... بكم يا ترى ؟ هل ستكون ككتب مزين الجعفر أم ككتب الموسوعة بقرشين لالا أظن ستحصد الجوائز فهي مذهبة وضحك يحيى ضحك في قلبه بهستيرية و لم يبد على وجهه إلا مرار الضحكات .
وقف .. ووقف معه رجا الحائر كل شيء توقعه إلا هذا .
ووقف زياد قائلاً
- فكر في الموضوع جيداً قبل أن تقرر يا أديب يحيى فكر فيه فالثمن سيكون آلافاً مؤلفة ولن تنتهي طالما أنت تكتب وأنا أنشر
وباسمي ...
- فكر يا يحيى بمن اقتحم هدوءك فكر بمن سيسرق.......يسرق ماذا ؟؟ والتفت إلى رجا وقدماه تسرعان ورجا لا يستطيع اللحاق به
- قف يا يحيى قف لنتكلم
وذاك يركض ويركض الدنيا تطوى تحت قدميه وأنفاسه تتلاحق
- سأهرب من السارق سأهرب .
وكأن جمرات النار تتدافع في رأسه تصيبه بحمى وهو يهذي ويركض سأهرب من السارق سأهرب .
ورجا يصيح إثره :
- قف يا صيقي أستحلفك بالله أن تقف
قف من أجل أن أحادثك عن حلوة المذاق قف ....
ويقف يحيى ....... وهو يرتجف .


يتبع