الهذا بنيت المساجد؟ (قصة قصيرة)

الأدب النبطي والفصيح

ألهذا بنيت المساجد؟




بعد يوم حافل بالعبادة والصلاة، وبر الوالدين وقراءة القران، وصلة الرحم والعمل الصالح، تجلس عائشة في اتجاه القبلة، ترفع يديها بالدعاء إلى خالقها، أن يتقبل صوم يومها، ويعينها على طاعته بقية أيام رمضان، وأن يزودها بالصبر على عبادته ومرضاته في كل وقت وحين، ليصدع صوت الأذان عاليا معلنا دخول وقت المغرب، ووداع يوم من أيام رمضان المبارك. ليكتمل واحد من فرحتا الصائم، فرحة عند فطره. لتتناول الرطب وتأكله وهي تبتهل بالدعاء، وتردد مع المؤذن الأذان.
مرت لحظات جميلة ملئها السكينة والطمأنينة. لتنهض وتصلي المغرب، ثم تتناول طعام الإفطار البسيط القليل مع أسرتها التي دائما ما سعدت بوجودها بينهم. ويسير الزمن سريعا، ويحين وقت صلاة العشاء معلنا المؤذن بدخوله.
تتجه عائشة صوب المسجد ذي البناء الأبيض الجميل، الفاخر الشكل، وواسع المساحة.
دخلت لتصلي، ووضعت حذائها في الرف المخصص للأحذية بشكل منظم ومرتب، وإذا الإمام قد بدأ في صلاة العشاء، وصفوف النساء أكثر من ثلاث صفوف، وكل صف لا يتجاوز البضع نسوه. صف جهة الشمال، وصف جهة الجنوب، وآخر في الوسط، وهذا متقدم جدا وذاك متأخر جدا. وليت الأمر اقتصر على ذلك بل لقد انتشرت الفرجات الواسعات في تلك الصفوف المفرقة المبعثرة هنا وهناك. وبعض النساء متقدمة على صفها كثيرا, والأخرى متأخرة ومتراجعة أكثر، والصف الذي يشبه الخط المائل، والآخر الذي يشبه المنحنى، وأشكال هندسيه مختلفة.
تقدمت عائشة إلى أفضل الصفوف وأولها، وحاولت ترتيب ما استطاعت، فوجدت لنفسها مكان في احد تلك الفرجات، فقامت بداخلها وسدتها، وكبرت مع الإمام للصلاة.
أنهى الإمام صلاة العشاء، ولم تستطع عائشة أن تعي آية مما يقرأ الإمام؛ فقد صم أذاناها صراخ الأولاد وضوضائهم، وصخبهم الغير المتناهي، من طفل باك، إلى واحد يصرخ، إلى آخر يتسابق مع زميله وراء المصلين، وطفلان يتشاجران ويضربان بعضهما، وآخر يستعرض قوته أمام المصليات ويركض بينهن.
وما أن أنهى الإمام الصلاة حتى انصرف نصف المصليات من المسجد. وقامت عائشة بتنظيم الصفوف، وتسوية صفها، وإسداء ما استطاعت من النصح والتوجيه، بضرورة تنظيم الصف وسد الفرج.
ولكن قوبل عملها بان قالت لها إحدى النساء مستدلة: (( إن المرأة خلقت من ضلع اعوج، وانك إن قومتها ستكسر )).
ثم إنها اضطرت أن تغير مكانها إلى مكان آخر، وما أن وقفت في المكان، إلا وشعرت ببلل في قدميها، لم تدر ما يكون، لعله ماء أو سوى ذلك، وبينما هي منشغلة بتفهم ما علق بجوربها إذا بطفل يتجه كالسهم صوب حقيبتها ويبعثر ما بداخلها ويلقيهم أرضا.
صبرت عائشة نفسها، وتحملت ما شاء الله لها أن تتحمل، وغيرت مكانها إلى آخر. بدأ الإمام في صلاة التراويح، وهو يقرأ بكل خشوع وسكينة، حتى انتهى من الصلاة جميعها.
ولم يكدر صفو عائشة سوى امرأة صفت عن يمينها، عند سجودها تفرش ذراعها، وتصوبه في وجهها مرة، وتارة في بطنها، والأخرى التي عن يسارها تدفعها بيدها أثناء الوقوف بالصلاة، والثالثة قد انتشر وفاح من فمها رائحة البصل والثوم.
حان وقت الانصراف من المسجد. اتجهت عائشة إلى الباب، وإذا بسيل عارم من الحمر المستنفرة يبدو وكأن قسورة يطاردها، كل واحدة من هؤلاء النسوة يتسابقن للخروج أولا ويتدافعن. واحده ترفس أختها برجلها، وأخرى تدفعها بيديها. بحثت عائشة عن حذائها في المكان المخصص له، ولكن لا فائدة. نظرت جانبا فإذا بكومة ملقاة فرادا وجماعات، وهي تقلب نظرها هنا وهناك فإذا بفرده من حذائها يبدو جزء منه تحت هذه الكومة مادا يديه يستنجد بصاحبته لتخلصه من تحت جثث الأحذية. فتسحبه بشدة ولكن بقي الآخر، فصعدت النظر وصوبته هنا وهناك، فوجدته ملقى بعيدا جدا جدا، يقترب أن يصل إلى الشارع.
والمتأمل في منظر الأحذية هذه يخيل إليه للوهلة الأولى أن قنبلة ألقيت وسط هذا الكم فبعثرتها، وفرقت أشلاءها كل جزء في جهة.
عادت إلى البيت على أمل أن تعود في يوم آخر، للصلاة في مسجد آخر، وألقت نفسها على السرير لترتاح قليلا.
ثم إنها بعد ذلك دخلت المسجد، وجاءت لتضع حذائها في المكان المخصص، فإذا بجميع الأحذية مصفوفة بانتظام وترتيب.
اقتربت من الباب ودخلت المسجد، فوجدت صفوف النساء منتظمة ومتلاحمة، ولا تكاد ترى فيها فرجة واحدة، وهي كالخط المستقيم. والأطفال يصلون مع أمهاتهم بكل سكون وأدب، ولا تكاد تسمع في المسجد صوتا سوى صوت الإمام وهو يقرأ. والصفوف ملئ وكثر. ومن ينظر إلى المصليات يراهن وكأن على رؤوسهن الطير من الخشوع وحسن الإنصات لقراءة القران، وكل واحدة حريصة على أن لا تؤذي أختها التي تصلي بجوارها بأي شكل من الأشكال، فصفت عائشة في آخر مكان وجدته لنفسها في آخر صف حتى انتهى الإمام من الصلاة بأجمعها.
ثم هم الجميع للانصراف من المسجد، فقامت كل واحدة بهدوء ولم تدفع الواحدة الأخرى، وكانت كل منهن تخرج بتؤدة وأناة. ثم نهضت عائشة لارتداء حذائها فوجدته في مكانه لم يتزحزح شبرا واحدا، وجميعها في مكانها المخصص فأخذت عائشة الحذاء ولبسته.
وبينما هي تمشي في الطريق، إذا بصوت أختها تقول: ((عائشة عائشة، هيا لتتناولي أكلة السحور، قبل اذان الفجر)).
فنهضت عائشة فزعة من نومها وإذا بصوت المذياع الذي بجوارها يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المساجد إنما بنيت لما بنيت له: لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن.
16
2K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

هُديه
هُديه
قصه رائعه جزاك الله خير :27:
بنان البيان
بنان البيان
قصه رائعه جزاك الله خير :27:
قصه رائعه جزاك الله خير :27:
اشكر مرورك الكريم اختي هديه
القلم الذهبي
القلم الذهبي
أختي : بنان البيان

ما شاء الله ..

طرحكِ جميل ..

قصة مفيدة ..

أتمنى أن تكون وصلت الرسالة للأخوات و أن يكونوا أستفادوا منها كما أستفدت أنا ..

جزاك الله الجنة ..

القلم الذهبي
فديتك يروح
فديتك يروح
بنان البيان
نسال الله ان يثبك ويجعلهاا في ميزان حسناتك وان يعم في نفعهااا
كافت الاخوان القراء شي من التامل مع الله واحبابه من اصطفهم من
عباده الموءمنين الله يوفقنا جميعااا لمافيه طاعته وطاعت الوالدين
اكرر لكم شكري وتقديري لمجهودكم الكريم
فديتك يرووووح
بنان البيان
بنان البيان
شكرا لك اختي الكريمة القلم الذهبي لتعقيبك

بارك الله فيك وجزاك كل خير...