رماد .. عـادت بـه ســا رة ..! للدكتور محمد الحضيف (1)

الأدب النبطي والفصيح

رماد .. عـادت بـه ســا رة ..! للدكتور محمد الحضيف

دلفت إلى المكتب ، فهاجمتها رائحة السجائر ، التي امتزجت بكل شيء .. من الجدران ، إلى المقاعد البلاستيكية ، وحتى الورقة التي ناولها إيّـاها الجندي ،الذي يجلس بملل ،خلف مكتب معدني عتيـــــق . بكاء الأطفال الذين معها .. ومشـــــــاكساتهم ، لم يترك لها مجالاً لتملأ البيانات ، في الورقة التي طلب منها الجندي تعبئتها . انشغلت بتطييب خاطر أحدهم ، الذي كان قد تعثر في عتبة الباب . المكتب مصنوع من ألواح جاهزة ، من مواد مسبقة الصنع .. أقيم ارتجالاً ، في إحدى المساحات الفارغة ، القريبة من البوابة الرئيسية . مؤقت .. كما يقال .. واضح من طريقة بنائه العشوائية .. شأن كثير من قراراتنا ، وأمور حياتنا : مرتجلة ، مؤقتة .. وعشوائية . لم تكن العتبة .. سوى طوبتين اسمنتيتين ، وضعتا بدون نظام ، فانزلقت بينهما القدم الصغيرة ، فتقرح ظاهرها، وهو ما جعل الحذاء يـــــزيد حـــدة الألم ، عند أي حركة ، فيتألم الطفل .. ويلجأ للبكاء . حين أكملت تعبئة البيانات المطلوبة ، توجهت إلى الجندي نفسه، الذي علق بصره علـــــيها ، لحظة خرجت .. من وراء ستارة زرقاء بهت لونها، مثبتة في إحدى زوايــا المكـتب ، لتفصل مكان انتظار النساء عن بقية المكتب . كان الجندي يتأملها وهي مقبلة، ويغرز نظرتين حادتين في جسدها ، الذي التفت عليه العباءة ، فلا يظهر منها إلاّ أطراف أناملها .. التي ترى أن عيني الجندي تستقر عليها ، بعد أن تتفحصا جسمها ، فلا تجد شيئاً " أبيض " ، وسط ذاك السواد ، تقع عليه .. إلاّ هي . تناول الجندي الورقة منها ، بطريقة بدت ، كما لو أنه يحاول أن تلامس يده ، أطراف أناملها . وقفت تنتظر ، وهو يراجع الورقة بسرعة ، ليتأكد أن الخانات كلها مملوءة .. رفع عينية باتجاهها وبنفس النظرتين الحادتين ، المملؤتين رغبة .. اللتين لم تفارقاه .. خاطبها :
- اجلسي .. سنرفع الأوراق للضابط ..

استدارت عائدة ، وأخذت تحـاول بدأب ، نزع يد الطفل ، الذي يتبعها و يتشبث بعـــــباءتها ، فيبرز من جسمها ما تحاول أن تستره . كانت وهي تجاهد لتخليص عباءتها من يــد الطفل ، يسيطر عليها إحساس أن نظرات الجندي تتبعها ، لتقع حيث يشد الطفل العباءة .. فتزداد توتراً ، وتعجل خطواتها لتتوارى خلف الستارة .

مضت أربعون دقيقة .. بطيئة .. قاتلة ، تأملت خلالها جدران المكتب ، المغـــــــــطاة بمــادة ( فلّينية ) لينة ،ذات لون أبيض مطفي .. حفر علــــــــــــــيها بعــــــــض الــــــــــــزوار الســــابــقين ( ذكرياتهم ) .. منظر أعقاب السجائر الهائلة ، المتكدسة على هيئة أكوام ، تحت مكاتب الجنود.. كان لافتاً . هناك بقع أوساخ على الأرض .. في كل ناحية ، وأثار تعرق داكنة ، خلّفها تعاقب الأيدي على الجدران ، و أسطح تلك المكاتب . مستوى النظافة في المكان جعلها تحاذر أن تضع يدها في أي مكان . لم تلهها مشاكسات الأطفال ،وأصواتهم المرتفعة ، عن التقاط جانب من حوارات الجنود التافهة ، التي لا تخلو من كلمات خادشة للحياء .. خصوصاً لامرأة مثلها . هذا السلوك .. ليس مقصوراً عليهم .. معظم مجالس الرجال الخاصة ، تدور فــــيها أحــــــــــاديث ( جنسية ) .. حقيقة مجتمعية تعرفها .. أطرف تعليق سمعته حــــــــــــــــول هــذه ( الظاهرة ) .. كان من إحدى الصديقات : ( نحن شعب ليس لديه قضية .. مجتمعنا حلت جميع مشاكله ) ..!

تعلم من زوجها الراحل ، الذي كان موظفاً مدنياً في قطاع عسكري ، أن المستوى التعليمي لهؤلاء الجنود متدن جداً ، وأن بعضهم ينحدر من مستويات اجــــتماعية ، يغلب عليها العوز والجهل . . وضعف مستوى الذوق العام ، في الخطاب والمعــاملة . زوجها كثيراً ما اشتكى لها من فظاظة التعامل .. وسوء الخلق ، لدى الغالبية من هــــؤلاء الأفــــراد ، ونظرتهم الفوقية لعموم الناس .. بسبب إحســـاسهم المــــــــزيف بامــــــــــتـــــلاك " ســلطة "، تخولهم مساءلة غيرهم من الناس .. من غير العسكريين ، وتولد لديهم روح عداء ، تدفـعهم أحياناً ، إلى التعدي على الآخرين . تذكر أن زوجها يرد السلوك العدواني لبعض هؤلاء الجنود ، والإحساس المزيف بالسلطة عند أكثرهم ، إلى ( الحس الأمني ) العالي ، الذي تضخه المؤسسة الأمنية فيهم ، فيتضخم الهاجس الأمني لديهم . هذا الوضع يؤدي ، كما فهمت منه ، إلى أن يتخيل الواحد منهم ، أنه ( وزير الداخلية ) ، وأن بقية أفراد الناس ، ليسوا إلا عناصـــر مشــبوهة .. يجب إيقافهم ، ومساءلتهم ، وإظهار سطوة السلطة عليهم .. وأحياناً إذلالهم .. لتتحقق ( هيبة ) الدولة ..!

الوساخة والإهمال ، التي عليها المكتب ،والمواقف التي تتعرض لها ، من البوابة .. حيث ينزلها وأطفالها سائق ( الليموزين ) .. وإلى أن تصل إلى هنا ، إضافةً إلى نظرات بعض الجــنود إليها.. كل ذلك ، زادها اقتناعاً بالـــرأي القـــديم لزوجها ، وموقفه تجاه هؤلاء، وهو ما حسبته يوماً ، تبرماً منه .. من واقع لم يقدر على التكيف معه . ترسخ لديها هذا الاقتناع ، بعد تكرار ترددها على المكان .. ومرورها بنفس الإجراءات الروتينية المملة .. وتعرضها لنفس الأسئلة .. أحياناً من نفس الأشخاص ، والموقف المريب لأحد الضباط ، الذي طلب منها في إحدى المرّات ، أن تأتي لوحدها .. من دون الأطفال ، إذا رغبت أن تقابله . أو ذلك الذي أخذ رقم الهاتف ، وتكررت اتصالاته عليها . كاد أن يتحول هذا الشعور تجاههم .. عندها ، إلى ما يشبه الاعتقاد ، لولا بعض المواقف الإنسانية ، التي تبدر من بعض الجنود .. على ندرتها، أو ذلك التصرف الشهم ، لأحد الضباط ، الذي نزل من سيارته ، وطلب من سائقه الخاص أن يوصلها إلى بيــــــتها ، واســـتقل هــــو ســــــيارة أجرة .

كانت سارحة ، تتذكر آخر لقاء لها مع زوجها الراحل ، الذي قتلته رافعة سقـــــطت عليه ، في أحد المواقع الإنشائية ، أثناء قيامه بالإشراف على التنفيذ . في اللحظة التي انتزعت فيها آهة وجع من صدرها ، ورفعت يدها لتمسح دمعات تدحرجت على خديها .. أسى على فراق الغالي ، جاءها صوت الجندي عالياً :

- يا حرمة .. يا حرمة، الضابط يقول : أيش المطلوب .. ؟

سئلت هذا السؤال ، بعدد المرات الكثيرة التي جاءتها إلى هنا . صار يساورها الشك حول طبيعة الأسئلة ، والغرض من تكرارها . لماذا تسأل أسئلة أجابت عليها أكثر من مرّة .. ولماذا تشرح أمراً ، وضحته قولاً وكتابةً ، في كل مرّة أتت بها إلى هذا المكان ؟ .

تملأ ورقة مثقلة بالتفاصيل، وتنتظر أربعين دقيقة .. لتسأل بعدها : ماذا تريدين .. ؟ ! أربعون دقيقة اقتطعتها من إنسانيتها وكرامتها ، وهي تقذف مثل كرة ، مـــن زمــن لزمن .. " تعالي بكره .. تعالي الأسبوع الجاي " ، ومن عـــــــــــين ( جائعة ) لأخــــــــــــرى .. " الموضوع ما هو عندي .. عند الضابط .. عند الرقيب " . أربعون دقيقة .. نهبت من وسن تحتاجه أعين صغيرة ، أعياها السهاد .. يتماً ، وذلاً .. وليل طويل ، يملؤه شبح الأب الغائب ، وأنين امرأة جريحة : زوج طواه الردى ، وولد غيبته السجون ..! أحياناً تعزو ذلك الذي تتعرض له ، إلى سوء التنظيم .. أو ما كان يسميه زوجها الراحل ، الفــــوضى والتخلف .. بلعت غصة مملوءة بالمرارة ، وهي تخنق ابتسامة شاحبة ، حين تذكرت كلمات زوجها ، يوم عبرّ بإحباط ، عن واقع يشاهده يومياً ، في القطاع الذي يعمل فيه :

" لدينا في إدارتنا هذه .. وفي إدارات مشابهة ، لا يستحي التخلف .. بل يســـــــــــير " مرفوع الرأس " .. حيث التعامل والممارسة هنا ، رذيلة .. يهون عندها التخلف " .

كان صدى صوت الجندي .. يردد السؤال : ( أيش المطلوب .. أيش المطلوب ) ، يرن في أذنيها .. ويزرع غيظاً . لم تشأ أن ترد على سؤال الجندي ، وهي في مكانها حيث ستضطر لرفع صوتها ، خاصةً وأنها لاحظت ، في مرّات سابقة ، أن هناك تعمداً لتكرار السؤال ، والدخول في تفاصيل مفتعلة .. وأن تتكرر منها بالتالي .. الإجابة والردود ، فتدخل فيما يشبه الحوار . يستمتعون بسماع صوتها .. لقد سمعت أحدهم في إحـــدى المرّات ، يقول لصاحبه :

- أووف .. يا عليها صوت .. !

نهضت وتوجهت نحو الجندي ، حيث كان جالساً ، ينادي من وراء مكتبه . قالت بصوت خفيض :

- أنا طلبت زيارة ..

- زيارة أيش .. ؟

كان يحدق بها ، وهي ترمق عينيه الغائرتين ، من وراء غطاء وجهها ، وتتأمل شفتين يابستين ، ترك التدخين الشره ، أثاره عليهما .. فتراكمت فوقهما طبقة سوداء ، وبرزت فيهما تشققات دامية ، لا يفتأ بين وقت وآخر ، يمسحها بظاهر كفه . تنفرج شفتاه عن أسنان عاث السوس فيها ، وما نجا منها من التسوس ، تتلبد فوقه طبقة جيرية صفراء .. وبقايا طعام .

شعرت بالاشمئزاز ، حين تذكرت أنه في إحدى زياراتها الأولى ، أدخل أحدهــم وجهه ، من نافذة سيارة الأجرة ، التي جاؤوا بها ، عندما كانت تستفسر منه ، عن بعض الإجراءات . وقتها لم تتبيّنه جيداً ، رغم أنها في لحظة من اللحظات ، كانت تشاهد الرذاذ المتطاير من فمه ، يقع على ملابسها . لج في ذهنها خاطر : أي فم يشتهي أن يقترب من هذه الأفواه ؟ ! إذا لم يردع هؤلاء دين وحياء .. ألا يردعهم ، التبصر في أشكالهم المقززة ؟ !

استـــفزها أسلوبه في السؤال : ( زيــــــــارة أيش ..؟ ) . من يمــــــكن أن يكون خلـــف هـــــذه الأسوار ، يضطر امرأة لتسفح حياءها .. في أماكن كهذه ، ويدفـــــــــــعها لتـــــــتردد بيـــن ( كائنات ) تتـشهاها .. لا ترى فيها إلا ( وعــاء ) للرغبة ، يمكن .. مع بعض الابتزاز والمساومة حيازته ..؟

- زيارة ولدي .. كتبت هذا في الورقة .. التي طلبتم مني تعبئتها ..!

- ولدك مسجون ..؟

- نعم ..!

- أيش قضيته ..!

صمتت .. لم تجبه . تعرف أن الفضول سلوك اجتماعي رائج ، لــــــكن .. لا يـــكـــون فــــجاً ، بليداً بهذا الشكل . لم ينتظر إجابتها .. أشار إليها أن تعــود إلى مــكانها .

بعد ربع ساعة فوجئت به يقف قريباً من الستارة . كان في وضع يستطيع فيه أن يراها . ارتبكت حينما رأته ، وأسرعت بتغطية وجهها ، وحاولت أن تجمع العباءة حول جسمها . كان يبدو أنه هناك .. منذ بعض الوقت ، واقف في مكانه يراقبها . فهو .. ما أن لاحظ ارتباكها ، بعـــــد أن رأته ، حتى بادر قائلاً :

- الضابط يقول ما فيه زيارة اليوم ..

شعرت بالاحتقار ، وبالغيظ يأكل قلبها :

- كيف .. ؟ هذه ثالث مرّة أجيء ، وتقولون لي ما فيه زيارة ..!

- هذا كلام الضابط .. تقدرين تكلمينه .. إذا تريدين ..

- أكلمه .. لماذا ؟ هذا الذي تصنعونه بي حرام .. آتي أجرجر هؤلاء الأطفال ، من صباح رب العالمين .. من

( ليموزين ) إلى ( ليموزين ) .. وفي الأخير ..

قاطعها :

- والله ما أحد قال لك تجيئين ، بدون ما تتصلين .. وتعرفين مواعيد الزيارات .

خنقها البكاء .. فسكتت . دفعت الأطفال أمامها ، وتوجهت إلى المكتب ، الذي أشاروا لها أنه للضابط المناوب . حين دخلت ، أخذ يطيل النظر إليها ، ويصعد بصره فيها . كلهم سواء ، لا فرق بين جنديهم وضابطهم .. حدثت نفسها . أنا أمامهم .. لست أكثر من جسد يشتهى . لست أماً ملّوعة ،ابنها مكبل بقيوده ، خلف القضبان .

- أريد زيارة ابني ..

- ما قالوا لك ، ما فيه زيارة اليوم ؟ .. أنا أحب أساعدك ، لكن .. ما أقدر ..

- لكن المرّة الماضية .. والتي قبلها ،ومرّات أخرى كثيرة .. ردّيتوني ، وقلتم ما فيه زيارة ..

- صحيح .. المرّة الماضية ما كان ولدك موجوداً.. كان في المحكمة ..

- والتي قبلها ..؟

- أيضاً .. ما كان موجوداً .. كان في المحكمة ..

- في المحكمة مرتين .. وما خلص موضوعه .. ؟

- لا .. المرّة الأولى لم يأتوا خصومه .. وأجل الشيخ النظر في القضية .. والمرّة الثانية ما جلس الشيخ ..!

- ما جلس الشيخ .. ؟ !من هو الشيخ .. أين مكتبه ، أين يجلس ..؟

- الشيخ حمد المقفي .. مكتب رقم ( 19 ) ، في المحكمة المستعجلة ..!

المحكمة المستعجلة .. والولد يدخل شهره السابع في السجن ..؟! كيـــــــف لو لــــم تـــــكن ( مستعجلة ) ؟ !.. تساءلت بصوت غير مسموع ، وشعرت بوجع يتراكم .. ويجثم على صدرها ..!

- .........................................

- أبو الولد .. زوجك موجود ..؟

- متوفى ..

- اذهبي .. واتركي تلفونك ، وأنا أتصل فيك ..

غامت الدنيا في عينيها .. وشعرت باختناق . أطبقت كفها على يد أصغر الأطفال ، وسحبته متجهة نحو الباب ، دون أن تقول شيئاً ..

- ما تبغين تتركين تلفونك ..؟

لم ترد عليه .. كانت مختنقة .. محبطة ،حزينة . قبل أن تضع قدمها خارج المكتب ، لمحت لوحة معلقة على الحائط المقابل .. قد إزدانت بآية كريمة :

" الذين آمنوا ، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم . أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " .

لا تدري ما علاقة الآية بالسجن ..! ربما لشعور السجان أنه يحقق أمناً ، باحتجازه مراهقاً خلف القضبان لعدة أشهر ، لأن ( فضيلة ) القاضي يؤجل موضوعه .. شهراً بعد آخر ..!

" أجل الشيخ الجلسة .. لم يجلس الشيخ " . عبارات كانت تنغرس في وجدانها ، كالحسك في عين عزلاء .. ليس إلا الدمع ، ماء ينسكب .. ويستل النور والحياة .

لم تقف في تفكيرها طويلاً .. عند الهدف من كتابة هذه الآية ، وتعليقها في لوحة ، في مكتب سجان . تذكرت أنها كانت قد رأت شيئاً ( مشابهاً ) .. عبارة مكتوبة على مكتب أحد الجنود.. خَطّها هو ، أو ربما أحد زملائه .. تقول : ( العدل أساس الملك .. صدق الله العظيم ) .. !

حين اجتازت البوابة الرئيسية .. إلى الشارع ، كانت الشمس تقترب من وسط السماء . شديدة التوهج .. شديدة الحرارة . حزم من أشعتها تقع على زجاج السيارات العابرة بســرعة ، فتحدث وميضاً ، يشل قدرتها على الإبصار للحظات .. فيزيدها توتراً .

مرّ وقت ، ولم تأت أي سيارة أجرة ، من سيارات ( الليموزين ) .. التي عادةً ما تمتليء بها الشوارع . موقع السجن ناء .. حتى عن أطراف المدينة ، ومن النادر أن ترتاده سيارات الأجرة . صهرتها الشمس ، وانكمش الأطفال من الحر، فلاذ بعضهم بها . وهج الشمس أجبرهم أن يمدوا سواعدهم الصغيرة النحيلة ، بمحاذاة أعينهم ، وأن يغمضوا إلى أقصى حد يستطيعوه، ليتقوا الضوء الشديد . أصحاب السيارات المارة ، توقف بعضهم ، وعرضوا عليها المساعدة . لم تشأ أن تستجيب لأي عرض ، رغم وطأة حرارة الشمس . لا تستطيع أن تميز مَن مِن هؤلاء الرجال ، يريد أن يساعدها حقاً .

تتذكر بكثير من الأسى حديث أمها عن قريتهم ، وحال الرجال والنساء ، يعملون جنباً إلى جنب .. في الحقول والمراعي . كانت ليلة رعب حقيقية ، يوم عادت هي وإياها .. وزوجة جارهم ، من المسجد المجاور لمنزلهم ، بعد صلاة التراويح . في الشارع المعتم قليلاً ، حاصرهن أحد الأشخاص ، وحاول التعرض لهن . عندما أفاقت الأم من صـــدمة الـمـــــوقف .. فيما بعد ، ظلت تردد : " لا .. ما هذي بديرتنا .. ما هذي بديرتنا " .. !

ثم انطلقت تحكي قصصاً كالأحلام ، عن مجتمع كان .. تعطر بالبراءة ..!

الانتظار ممض ، تحت أشعة شمس ، تضج من حرّها الحجارة الصماء . لم تكن حرارة الشمس هو ما تشكو ، بقدر ما يفت كبدها الغبن والظلم ، الذي تحس ناره تتسعر في أحشائها .. وهي تتسول حقاً لها ، وتتعرض من أجله .. للابتزاز .

كان التساؤل يتضخم في ذهنها ، ويتمدد مثل ورم سرطاني :

" إذا كان قدر امرأة في مجتمعها ، أن تجد نفسها بلا ( رجل ) .. لماذا يلجئونها إلى أوضاع مهينة كهذه ؟ هل قدرها إذا فقدت الرجل ، أن تفقد الاحساس بالأمان .. وأن تفقد الكرامة ، والتعامل الكريم ، الــــــــــــذي يحـــــــــمل عنـــــها بعض آلام ( الفـــــقد ) .. وما يخلفه من شعور بالعجز .. ؟ ! " .

قررت أن تسير على قدميها . المسير .. حتى ولو طال ، يظل أرحم لامرأة .. من الانتظار تحت شمس حارة ، على قارعة طريق .. أمام سجن ..! سارت غير بعيد ، فبدأ الأطفال يتعثرون تعباً.. وعطشاً ، وهي .. قد امتلأت قنوطاً ..

" لا معنى للوقوف والانتظار " .. كانت تصرخ فيهم .

توقفت إلى جانب الطريق سيارة ، ونزلت منها امرأة .. وقصدتها :

- نوصلكم .. يا أختي ..؟

اطمأنت لوجود المرأة ، لكنها لم ترد بسرعة على عرضها. الشمس .. والأطفال العطـــــشى ، الـــذين هدّهم الإعياء ، لم يدع لها مجالاً للرفض .. فردّت بتردد :

- جزاك الله خيراً .. لكن بيتنا بعيد ..!

- لا يهم ..

- أخشى أن ...

- لا .. لا يوجد أي مشكلة ..

جلست في المقعد الخلفي ، وتراص الأطفال حولها .

كانت حريصة ألا يقوموا بأي عبث في السيارة . فهي مرّة .. تسحب يد هذا من زر قفل الباب ، وتارةً تمنع يدالآخر من أن تمتد لزر زجاج النافذة . بين سحب يــد هذا .. ومــنع ذاك ، كانــت كذلك ، تسعى للسيطرة على أصواتهم وحركاتهم :

( اجلس .. لا ترفعي صوتك .. عيب .. أزعل عليك ... ) .

سلسلة من الأوامر والتوجيهات ، تتخللها ( قرصة ) أو ( ضربة ) ..!

الصمت الذي التزم به سائق السيارة ، والمرأة التي معه ، جعل مسموعاً .. ما يصدر منها ، من توجيهات وأوامر لأولادها .. وكذلك احتجاجاتهم على العقوبات ، التي توقعها بهم ، بسبب حركتهم الزائدة . شعرت بالحرج بسبب ذلك، لكنها لم تكن قادرة ، أن تترك الأطفال وشأنهم ، يزعجون الرجل ، وربما يتلفون شيئاً في سيارته .

كأنما بلغ بها التعب أشده .. أو أحست بالاحباط ، فانخرطت في بكاء .. يسمع له نشيج . كانت قد نهضت هذا الصباح، وأيقظت الأطفال في ساعة مبكرة . أوصلت البنت الكبرى ، التي تدرس في المرحلة المتوسطة ،إلى مدرستها ، وأعطتها مفتاح المنزل .. تخشى أن تتأخر عن موعد خروجها من المدرسة ، فتضطر البنت للــــبقاء في الشارع . في كل مرّات قدومها إلى هذا المكان ، لم تحضرها إلا مرّة واحدة .

يومها .. انتهبتها الأعين الجائعة . لقد صادف في تلك المرّة أنها لم تلبس جوارب ، وحينما نزلت من السيارة ، انكشفت ساقها . لاحظت أن عشرات الأعين لجنود ومراجعين ، كانت متسمرة على باب السيارة ، تنتظر لحظة نزولها ، وانكشاف ساقهــــــــــــــا .. مثـــــل ( كاميرات ) ترصد حدثاً .. وتتأهب لوقوعه .

اتسعت الأحداق ،عند نزول البنت ، وارتفاع ثوبها .. لتستوعب المشهد . ثم حين استوت الفتاة على قدميها ، وأصلحت من وضعها ، وسارت لتلتحق بأمها وإخوانها .. استدارت العيون ، وتحركت الرؤوس .. لـ ( اصطياد ) مزيد من التفاصيل ..!

تلاحظ هذا السلوك كثيراً .. حيثما تذهب . فما أن تهم امرأة بالنزول من سيارة ، حتى تتجه نحوها الأنظار .. وتتسمر عيون بعض الرجال على باب السيارة . يجري هذا مــعها هي .. ومع الأخريات . لم يحدث في أي مشوار سارته بالسيارة ، أن نجت من نظرات فضولي يتلصص عليها ، أو على نساء غيرها .. في السيارات التي بجانبها .

في ثرثرة مع إحدى الزميلات .. كان التساؤل ملحاً :

" لماذا بعض الرجال في مجتمعنا مهووسون .. جائعون جنسياً ؟ لماذا الافتراض أن ( كل ) امرأة ، تمشي في الشارع ، أو تقف على جانب الطريق ، أو حتى تتحدث على الهاتف .. لحاجة لها، هي هدف جنسي .. بالضرورة .. " ؟ !

بكاؤها أثار انتباه الرجل والمرأة ، فتهامسا قليلاً . التفتت المرأة بعدها .. وقالت :

- فيه شيء .. يا أختي ..؟

أحست بالحرج ، وحاولت التوقف عن البكاء .. ولم ترد .

- نقدر نساعدك بشيء .. ؟

- ما تقصّرون .. !

- زوجي يقول أنه ثالث مرّة يشوفك هنا .. لحالك ، عند بوابة السجن .

- .............................

- سلامات .. عسى ما شر ..؟!

- ولدي مسجون .. وصار لي مدة ما شفته ..!

- شدة .. وتزول ، إن شاء الله . لكن .. صعب المرأة تأتي لوحدها ، لمثل هــــــذه الأماكن ..!

- زوجي متوفى .. وجماعتي مشغولون..!

كأنما ذكر زوجها .. وحالة الإحباط التي تعيشها ، وانتقاد المرأة المبطن .. لحضورها لهذا المكان ، فتق جرحها وأيقظ حزنها .. وأثار في ذهنها خاطر :

" أكانت ستأتي .. لو كان هناك ( ترتيباً ) يصون حياءها ، ويحفظ كرامتها .. ؟ ".. فعاودت البكاء ثانية .

عادت المرأة للتهامس مع الرجل مرّة أخرى ،ولمدة أطول، ثم التفتت إليها .. وقالت بلهجة لا تخلو من أسى :

- آسفة .. أنا لم أقصد .. لكني أشفقت عليك من التردد على هذا المكان ، وما يمكن أن تتعرض له امرأة مثلك ، وكذلك .. رحمت هؤلاء الأطفال ..

- أنا أعيش ذلاً ، وأخضع لابتزاز .. في كل مـــرّة أجيء فيـها .. من أجـــــل أن أرى ابني .. !

- الله يكون في عونك .. سنحاول مساعدتك قدر استطاعتـنا ..

خيـــم صـمت على الجميع . بعد أن ساروا مسافة ، قطع الرجل الصمت ، بحـــــــديث خافت ،كان يتبادله مع المرأة.. توجهت المرأة بعده ، بالحديث إليها :

- زوجي ضابط في إدارة السجون ، وهو يسال إن كان بالإمكان أن تزودينا ببعض المعلومات .. لنستطيع مساعدتك .

- معلومات .. مثل ماذا .. ؟

- اسم الولد .. وقضيته .. ورقم هاتفك ليتم الاتصال بك ..

- من يتصل بي .. ؟ !

- زوجي .. أو أحد من الإدارة ..

- لا .. أرجوك . لا أريد أن يتصل بي أحد .. لقد أعطيت رقمي لأحدهم .. فكان يتصل في ساعات متأخرة من الليل .. بدعوى أنه يريد أن يسهل لي زيارة ابني ..!

- زوجي رجل صالح وشريف .. ولا ..

- عفواً .. أنا لا أتهم زوجك . لكني لا أريد أن يتصل بي أحد .. وأفضل أن يكون الاتصال بيني وبينك ..!

- معك حق .. لا تلامين ..! هل يمكن أن نعرف اسم الولد .. وقضيته ؟

- الولد اسمه منصور الناجي .. قضيته مضاربة ..!

- أنا جواهر .. أم عمر . إذا اتصلت .. أقول أم منصور ..؟

- نعم .. سارة .. أم منصور . جزاكم الله خيرا .. وصلنا ، هذا البيت .. الثالث على اليمين .

بعد أن نزلت سارة وأطفالها ، استدارت السيارة متجهة نحو الطريق العام . عند الإشارة .. كان هناك أطفال يبيعون مناديل وماء .. بعضهم حفاة ..

- مسكينة .. تكسر الخاطر ..!

- من .. ؟ !

- المرأة ..!

- صحيح ..

كان ساهياً .. ينظر إلى الأطفال ، الذين لفحت الشمس قسماتهم الغضة ، وتيبس العرق على أطراف جباههم . في الجريدة .. اليوم ، قرأ لرئيس التحرير.. في عموده اليومي ، حملة ضد هؤلاء الأطفال ، الذين سماهم أطفال الشوارع ، وذكر أنهم يشوهون الوجــــه ( الحضاري ) للمجتمع ، ويقدمون صورة سلبية عن الوطن .


يتبع .....
9
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

عطاء
عطاء
نحن نتابع بارك الله فيك..قصة شائقة..
عسيله
عسيله
واووووووووووو
ابدا ماستحمل انتظر شكلي بروح لموقعه اذا لقيتها تسلمين لا شلت يمينك
المحتار
المحتار
قبل أسابيع زار مقر الصحيفة، ضمن وفد من الإدارة التي يعمل بها . استقبلهم رئيس التحرير ، وكان في وداعهم أيضاً . كان لطيفاً .. حسب تعبير الزملاء ، فحينما صحبهم إلى الخارج ليودعهم ، قصد سيارته المرسيدس (600 ) ، فتحها وأحضر مجموعة هدايا ، أطقم أقلام .. ووزعها عليهم . الزميل الذي بجانبه ، أسره المشهد الأخّاذ للسيارة الفارهة .. والطريقة الباذخة ، التي تنفتح فيها الأبواب .. وتغلق ، فمال عليه هامساً :

- السيارة روعة .. تصدّق إن سعرها نصف مليون ريال .. فقط .. ؟!

مشهد رئيس التحرير ، بحذائه الإيطالي ذي الألف ريال ، يختال في الممرات الرخامية لمبنى صحيفتة ،وسيارته ذات النصف مليون ريال ، يقف صارخاً أمام منظر الطــــفل حافياً .. جفت شفتاه ،يمد ساعده النحيل ، بزجاجة ماء ، قيمتها ريال .

بين المشهدين يتمدد مقال عن الوطنية ، يشتمل على حملة ضد أطفال ، لم يأتوا من الفضاء .. وإنما ( نبتوا ) على أرصفة شوارع الوطن ..!

بين المشهدين ســـيارة بنصف ملـــيون ريال، وقدم صغيرة حافية .. وأفواه جائعة ، يتــــربص بهـــا رئيس تحرير .. يرفل بــ ( وطـنية ) وطن .. لم يمش يوماً على أرصــــفته .. ولم تلفـحه شمسه .. !

يذكر أن الصحيفة ، أعدت العام الماضي ملحقاً جميلاً عن السياحة ( الوطنية ) ، وتعرضت إلى ما تؤدي إليه السياحة في الخارج ، من هدر للمال الوطني ، يعد بمليارات الريالات . حينما صدر الملحق ، كان رئيس التحرير ، حسب خبر نشرته الصحيفة ، " يستقبل في مقر إقامته الصيفي في جنيف ، وفداً أوروبياً ، للتعريف بالــثقافة الوطنية " .

- هذا المنافق ..!

قالها .. وهو يمد ورقة النقود للطفل ، ويتناول منه زجاجة الماء .. ثم يدفع الصحيفة جانباً .. بغيظ ، ليضع زجاجة الماء مكانها .

عرفت أنه يقصده . لأنه منذ عاد من زيارته تلك .. إلى الجريدة ، وهو لا يســميه إلاّ كذلك : كتب المنافق .. قال المنافق..! التقطت الصحيفة ، وفتحتها على الصفحة التي ينــشر فيها عموده اليومي . وجدت المقال الذي استثاره : " وطنٌ جميل بـــدون أطفـــال شوارع ..! " .

حينما ناقشته مرّة .. عن سبب نقمته عليه ، قال : " هذا وأمثاله ، هم أصل الـبلاء . لا ينشرون ، ولا يكتبون .. إلاً ما يرضي المسؤول الفاسد .. الذي يضــــــمن لهم البقاء . يلمعون ( اللصوص ) ، ليأكلوا من فتات موائدهم .. ما علاقة هؤلاء بالوطن ..؟! " .

حين فرغت من قراءة المقال .. أدارت رأسها تجاهه :

- صاحبك مرّة أخرى ..!

- هل يكتب هذا التافه .. عن حال هذه البائسة.. أو يحس بهؤلاء الجياع ،الذين يتناثرون على الأرصفة ؟!

عندما دخلت سارة البيت ، نظرت إلى ساعتها . الوقت قريب من الواحدة ظهــراً . صلّت وشرعت في إعداد الغداء . نادت على ابنتها، وطلبت منها أن تنتبه للقدر على النار ، ريثما تجري اتصالاً هاتفياً .

- ألو .. السلام عليكم .. الإدارة القانونية .. ؟

- عليكم السلام .. نعم ، أي خدمة ؟

- لو سمحت ، أنا زوجة عبد الله الناجي .. موظف سابق .. أحب أن أسأل عن معاملته .. ماذا تم فيها ؟

- قصدك .. قضية الدية والتعويض ، لورثة الأستاذ عبد الله .. الله يرحمه .. ؟

- نعم .. الله يحفظك ..

- والله يا أختي ما صار فيها جديد ..! رجعت المعاملة إلى الإدارة القانونية . محامي الشركة المنفذة ، نقض الحكم الذي صدر من المحكمة ، وطلب التمييز ، وتحويل القضية إلى قاض ثان ..

- لكن .. يا أخي هذه رابع مرّة ، تنقل القضية إلى قاضي آخر .. لماذا المحكمة لا تلزم الشركة .. ؟

- والله ما أدري . هذا من صلاحيات القاضي .. وما أقدر أفصل لـــــك ، أنــــت تعـــــرفين ( البير وغطاها .. ! ) .

- طيب .. أنتم ما لكم دور .. أنتم تعرفون القضية بكل تفاصيلها .. ؟

- الأستاذ خالد مدير الإدارة ، مهتم .. ويقدر ظروفكم ، ويحاول يساعد ، لكن يبدو أن الموضوع ( أكبر ) منه .. يعني ما يخفاك ..!

زوجها كان قد توفي في حادث، قبل ما يقرب من ثلاث سنوات ، في موقع تــــــحت الإنشاء ، يتبع للدائرة التي يعمل فيها . منذ ذلك التاريخ .. والشركة المنفذة للمشروع تماطل في دفع الدية ، بحجة أن الموظف ، حينما دخل موقع العمل ، لم يلتزم بشروط السلامة ، فهو لم يرتد الملابس الواقية ، المطلوبة في مثل هذه الأماكن . ثـــــم لمّا لم تفلـــــــح هــــذه الحجة ، اختلقت الشركة ذريعة أخرى لتمتنع عن الدفع ، وهي أن الموظف لم تكن طبيعة عـــمله مـــــيدانية ، وإنما جـــــــــاء ( تطفلاً ) .. لذا فهو يتحمل مسؤولية الـــذي حـــدث له.. !

الشركة يملكها أحد أصحاب النفوذ ، وهو ما قصده الموظف في حديــثه لها ،حينما ألمح إلى أن المحكمة لا تستطيع أن تلزم الشركة بالحكم ، الذي يقضي بدفع الدية .. فهذه هي ( البير وغطاها ) ..!

قضية التعويض التي تطالب بها ، وبقية حقوقهم المالية .. مرت بأطوار غريبة . أحـد القضاة ، الذين وقعوا تحت تأثير صاحب النفوذ ، حكم مرّة .. إلا أن الحكم لم يُميّز ، بأن الحادثة ليس فيها دية ، لأن ورثة المتوفى، على حد قوله ، يقبضون راتباً تقاعدياً ..! حتى الراتب التقاعدي كاد ألاّ يأتي ، بسبــب خطأ في إدخـــال البيانات الخاصة بــــزوجها ، ارتكبه الموظف الذي كتب مباشرته للعمل ، قبل سبع عشرة سنة .

استحقاقات نهاية الخدمة ، حــــــرموا مـــــنها ، لأن إدارة شـــــــــــؤون الموظــــــــفين والمــــالية ، ( تأكد ) لها ، أنه توفي بعد وقت الدوام الرســمي .. الساعة الثــــــــــــانية وأربعين دقيقة . كمـــــا أنــــه ،إضافةً إلى ذلك ، لم يكن مطلوباً منه أن يذهب إلى مــــــوقع العمل ، بل ذهب بدافع الفضول . حرمانهم من استحقاقات نهاية الخدمة ، فسر على أنـــــــه مــــــوقف ( وطني ) مــــن المدير ، لحفظ أموال الدولة..! هذه ( الذريعة ) أيضاً، هي التي أستـندت علــــيها شـــــركة ( صاحب النفوذ ) ، وأعدت على أساس منها تقريراً ، تماطل فيه ، في دفع الدية المقررة شرعاً .

- يا أخي .. أليس ظلماً أن يأكل ( هذا ) الرجل ،حقوق هؤلاء اليتامى ، وهو الذي ضاقت البنــوك بملايينه ، وينقطع مدى النظر عن الأراضي التي يملكها ..؟ كيف يبيح القاضي لنفسه أن يحرمنا حقاً قرره الشرع لنا .. أليس هذا ظلماً ..؟

- هذا ليس ظلماً .. بل ( ظلمات بعضها فوق بعض ) .. !

قررت أن تذهب للمحكمة المستعجلة ، لتقابل الشيخ حمد المقفي ، الذي أحيلت إليه قضية ابنها ، لينظر فيها . في الصباح الباكر ، أخذت معها أحد أبنائها. عندما وصلت المحكمة ، بعد جولات طويلة ، قام بها سائق سيارة الأجرة .. بحثاً عن موقع المحكمة ، كانت الساعة تشير إلى الثامنة وعشرين دقيقة . الجندي الذي يقف على باب المحكمة ، أخبرها أن أغلب (المشايخ ) لا يحضرون إلاّ عند الساعة التاسعة ، وبعضهم لا يأتي إلاّ في العاشرة .

- الحمد لله ..

همست في سرها . كانت تخشى أن تكون قد تأخرت ، فانشغل الشيخ ، وربما يطلب منها العودة في يوم آخر ، مع بدء الدوام الرسمي ..!

انتظرت إلى العاشرة .. في صالة عند مدخل المحكمة، ولم يأت الشيخ . أخبرها بعضهم أن ( الشيخ ) قد يتأخر أكثر.. وربما لن يحضر اليوم . حينما قاربت الساعة الحادية عشرة والنصف ، والشيخ لم يــــحضر .. وقد حان موعد خروج الأطفال من المدارس ، قررت أن تعود إلى البيت ، وتتحدث مع الشيخ عن طريق الهاتف .

بعد الصلاة ، في حدود الساعة الثانية عشرة وخمس وثلاثين دقيقة ، اتصلت على المحكمة ، وبعد تحويلها إلى مكتب الشيخ ، أفادها شخص ، يبدو أنه مدير مكتبه ، بأن الشيخ قد حضر ، وبت في ( عدد ) من القضايا ، ثم غادر بعد الصلاة .

لم تهتم بالوقت القصير الذي مكثه في مكتبه ، لكن لفت انتباهها أنه بت في عددٍ من القضايا في زمن يسير ، فسألته إن كان قد نظر في قضية ابنها . طلب منها أن تتصل عليه في وقت آخر ، بعد أن يراجع السجلات . اتصلت بعد نصف ساعة ، فأخبرها أن القاضي قد نظر في قضية ابنها ، وحكم عليه بسبعة أشهر سجن ، وعِــــوَض يدفع لخصمه ، مقداره عشرة آلاف ريال .

وقع الخبر عليها كالصاعقة . لاحظت أن القاضي ( قدر ) مدة الحكم بالسجن ، لتناسب الفترة التي أمضاها الولد مسجوناً ، بانتظار ( المحاكمة ) ،التي كان (الشيخ ) نفسه ، هو الذي يمطّطها .. فمرة (لم يجلس )، ومرة (لم يأت الخصوم ) .. !

لكن الغرامة .. أو ما سماه هو بــ ( العِوَض ) ، لماذا هذا المبلغ .. ؟ كيف حكم القاضي بدفع مبلغ كبير كهذا .. دون سماع رأيهم في القضية . ثم من أين تأتي هي بالمبلغ ؟ أسئلة كثيرة دوت في رأسها ، وملأت قلبها مقتاً.. فانفجرت تتظلم للرجل :

- هذا ظلم يا أخي .. والله إن الولد لم يعمل شيئاً ، يستحق عليه كل هذا .. بل هو معتدى عليه.. !

- هذا الذي ظهر للشيخ ، بعد أن نظر في القضية ..

- كيف نظر فيها .. ؟ هو لم يقابل الولد ، ولم يسمع أقواله ..!

- أنا ما عندي شيء .. ناقشي الشيخ .. اكتبي عريضة استئناف ، وقدميها للشيخ ..!

- متى ..!

- تعالي بعد غد .. سوف يكون الشيخ موجوداً .

- هل يمكن أن اتصل بالتلفون ..؟

- الشيخ لا يكلم النساء بالتلفون ..! ثم أنت بحاجة لعريضة مكتوبة .

أنزلت سماعة الهاتف ، واستسلمت لبكاء حاد .. عميق . لم يسيطر عليها الـشعور بـ (الفقد) ، مثلما يحصل الآن . زوجها مات فجأة ، ففجعها رحيله . الزوج لا يعوض .. والغياب هنا ، ليست حالة انكسار عاطفي ، وغيبة حسية فقط .. بل انهيارات تحدث في نظام اجتماعي متعدد العلاقات . في مجتمع يعلي من قيمة القوة ، بوصفها الحسي والمعنوي ، ويضع لها تراتيبية هرمية .. تتكيء على موروث قبلي ،لا يقيم اعتباراً لأي شكل ( تنظيمي ) ، ويستحوذ ( الذكر ) فيه ، على كل أشكال ( القوة ) ،المادية ، والاجتماعية .. والسياسية . في أوضــــاع كـهذه .. حين يغيب الـــزوج ،تعلق الآمال على الولد .

الفقد يتمثل الآن أمامها.. مثل حالة موت تدريجي : وفاة الأب .. حجز الولد لدى الشرطة .. ويبدو السجن الآن ، والغرامة المطلوب منها دفعها.. بداية غيبوبة طويلة ، وتجسيد موحش للفــــقد .. والدخول في رحــــــــــلة نحو المجهول . المحـــكمة تمثل بدايـــة الرحـــــــــــلة، ويـقف ( القاضي ) بواباً جامد الملامح ، موحش القسمات .. على عتبة ذلك المجهول . الاحساس بالفقد يزداد .. مع توارد ذكريات الزوج الراحل على ذهنها .. والشعور باقتراب المجــــهول ،الموحش .. يفغر فماً ، لابتلاع الابن الذي عقدت عليه الآمال .

ذهبت منذ الصباح الباكر إلى المحكمة . حين دخلت .. كانت تحمل شعوراً غير الذي أتت به في المـرّة الماضية . كرهت المكان ، وبدا لها مثل نفق رطب معتم ، يســــرق أنفاسها .. كلما أوغلت فيه . مصير ابنها مرهون بورقة تحرر داخل هذا البناء . لأول مرّة تشعر أن ( الحرية ).. قد تكون في نهاية ( نفق ) .. وأنها باتجاه واحد .. إلى الأمام ..!

انتظرت في غرفة على يمين المدخل .. نفس المكان الذي طلب منها أن تنتظر فيه المرّة الماضية ، لما جاءت لتقابل القاضي ، بعد حديثها مع الضابط ، الذي ذكر لها أن قضية ابنها في المحكمة المستعجلة . كانت قد نسيت حقيبة يدوية صغيرة .. المرّة السابقة ، ووجدتها في مكانها . لم تفرح بعثورها على الحقيبة .. ليس لأنه ليس فيها شيئاً ثميناً . لكن .. خطر على بالها ، أنه لم يدخل أحد هذه الغرفة بعدها .. فلا يوجد امرأة غيرها تراجع المحكمة . انقبض قلبها .. خاطر ( الفقد ) يتكرس: " كل النساء لهن رجال يراجعون عنهن "..!

لم تمكث إلاّ قليلاً ، حتى بدأت الغرفة تمتليء بالنساء . لست وحدك .. لست التعيسة الوحيدة . كان هذا حديث نفسها.. مع كل امرأة تدخل . التجمعات العارضة ، غالباً ما تكون وسيلة لبث الشكوى ، وتبادل الهموم . سمعت قصصاً .. دون مأساتها .. وأسوأ منها بكثير .

كانت قد أعلمت الجندي ، الواقف عند باب المحكمة ، اسم القاضي الذي لديه قضية ابنها ، ورَجَتْه أن يشعرها بحضوره إذا جاء . بين فترة وأخرى ترسل ابنها إلى الجندي ، ليسأله إن كان ( الشيخ ) قد حضر . قبل العاشرة بقليل ، جــاء الطفل ليخبرها ، أن العسكري يقول أن الشيخ قد وصل . صعدت إلى الدور الأول ، حيث مكــــتب القاضي . دخلت وعرّفت بنفسها لشخص في المكتب ، اتضح أنه الكاتب في مكتب القاضي ، الذي تحدثت معه على الهاتف قبل يومين . غاب قليلاً ، ثم سمح لها بالدخول علـــى القاضي . كان منصرفاً إلى مطالعة ملفات بين يديه ، عندما دخلت :

- السلام عليكم يا شيخ .. أريد أن أكلمك بخصوص الشاب منصور الناجي ..

- ماذا تكونين له ؟

- أنا والدته يا شيخ ..

- ما فيه رجل يتكلم .. بدلاً منك ..؟

- والده متوفى ..!

- الولد حكم عليه .. بلغك الحكم ..؟

- نعم .. لكن يا شيخ .. الولد مظلوم .. ما يستحق كل هذا ..!

- هذا الذي تبيّن لنا .. بعد دراسة قضيته ..

- لكن .. أنت يا شيخ لم تقابله .. ولم تسمع منه . الولد أوقف بوسط الشارع .. واعتدي عليه بالضرب ..

- اطلعنا على اعترافاته المصدقة شرعاً ، وعلى تقرير الشرطة ، وتم سؤاله عنها .. وهذا يكفي ..!

- لا يا شيخ ما يكفي .. فيه شهود إنه ما كان الباديء ..

- أنت تفهمينني عملي .. عندك اعتراض اكتبيه ، ولا تضيعي وقتي ..

يلتفت إلى كاتب السجلات عنده ، ويقول :

- دعها تكتب الذي تريده .. وأرفقه مع القضيه ، لترفع للتمييز ..

حاولت أن تقنعه بأن يستمع لها ، لكنه انصرف عنها ، وطلب منها أن تخرج لأنه سينظر في قضية أخرى .

خرجت تنوء بهم ثقيل .. وتبعها كاتب السجلات بورقة وقلم ، وطلب منها أن تكتب اعتراضها على الحكم . سألته بصوت واهن ، إن كان عليها أن تذهب إلى البيت ، وتكتب الاعتراض ، فأشار إلى مكان لانتظار النساء .. في آخر الممر ، ثم انصرف . عندما همت أن تدخل المكان الذي أشار إليه ، سمعت صوتاً يناديها :

- يا أخت .. يا أخت ..

التفتت إلى مصدر الصوت .. عرفته . إنه الشخص الثالث ، الذي كان موجوداً في مكتب القاضي ، حينما كانت تناقش ( الشيخ ) في موضوع ابنها .. وكان يجلس إلى جانب كاتب السجلات . وقفت تنتظر ، لترى ماذا يريد منها .. اقترب قليلاً وقال :

- السلام عليكم .. أنا كاتب عدل في المحكمة .. كنت موجوداً أثناء مجــادلتك للشيخ . اطلعت على قضية ابنك ، وأريد أن أنصحك بنصيحة .. لا تكتبي عريــــــضة استئناف ..

- لا أكتب ..! ابني مظلوم .. ثم من أين لي عشرة آلاف ريال ..؟

- أتفهم موقفك .. لقد اطلعت على القضية . خصومك أقوياء ، وقد استغلوا ثغرة في تقرير الشرطة .. واعتمدوا على تقرير المستشفى ..

- من يحمي الضعفاء أمثالي .. إذا كان خصومهم ( أقوياء ) إذن ..؟ ثم ما شأني أنا بتقرير المستشفى ..؟ انه مستشفى خاص .. لماذا يحملني القاضي فاتورة مستشفى خاص ..؟

- لا أريد أن أجادل في هذا كثيراً .. والوقت متأخر على ابنك . أنا بحكم اطّلاعي على تعقيدات المحاكم .. مشفق عليك ، وعلى الولد ..!

- لم أفهم ..

- ابنك .. بناء على حكم الشيخ في القضية ، سوف يخرج بعد أسبوع ..

- القاضي صمم الحكم ، لكي يغطي المدة التي أبقاه فيها في السجن .. بدون وجه حق ..

- ليس هذا ما أردت . الذي أريد أن ألفت نظرك إليه ، أن اعتراضك على الحكم ، يعني أن تحال القضية إلى قاضي التمييز .. ثم تعود للقاضي الذي حكم فيها، وهذا يعني شهرين على الأقل ، .. واحتمال نقض الحكم ، ضئيل حسب معرفتي .. هـــل فهمت ..؟

أطرقت قليلاً .. ثم وضعت الورقة والقلم على أول مقعد ، في غرفة انتظار النساء ، التي كانت تقف على بابها . شكرته .. وهي تتوجه إلى خارج مبنى المحكمة ، تدفع ابنها أمامها .

بعد العصر دق الهاتف . حينما ردّت جاءها الصوت من الجانب الآخر :

- السلام عليكم .. سارة ..؟

- نعم .. من الذي معي ..؟

- جواهر .. أم عمر . عسى الوقت مناسب ..؟

- يا هلا .. هذه الساعة المباركة ..

- زوجــــي رتب لكم زيارة لمنصور .. غداً الساعة العاشرة . سوف يمرّ سائقنا الــخاص ، في حدود الساعة التاسعة ، ليأخذكم إلى هناك ..

- الله يجزيكم خيراً .. ويجعله في ميزان حسناتكم .

لم تشأ أن تخبرها عن ( الحكم ) الذي صدر بحق ابنها ، أو النقاش الذي دار بينها وبين القاضي . كانت حريصة على أن ترى منصور .. وتبشره بقرب خروجه ، رغم أنها لم تتدبر .. حتى الآن ، المبلغ الذي حكم به القاضي ، مقابل الإفراج عنه .. ولا تدري كيف ستفعل ذلك ..!

استعدت ذلك المساء للزيارة . طبخت بعض الأكلات ، وحدثت إخوة منصور ، عن الزيارة المرتقبة ، وأعدت ملابس نظيفة ومرتبة ، ليقابلوا بها أخاهم .

حينما خلدت إلى فراشها ، بعد يومها المرهق .. تحدوها الآمال والأشواق لرؤية ابنها .. رأت في منامها ، كأنما منصور في سرداب مظلم .. طويل ، وسحابة قاتمة تطارده . كان يركض أمامها كالمجنون ،يمد يداً .. ويصرخ : أمي .. أمي . ظل يركض .. ويركض ، حتى ألجأته إلى باب ثقيل .. أخذ يهز الباب بعنف ليفتحه .. دون جدوى . أطبقت عليه السحابه ، وهو ما زال يمد يده .. ويصرخ : أمــي .. أمي ..!

كان صوته يتلاشى شيئاً .. فشيئا ، حين استيقظت من نومها فزعة .. مرعوبة ، أنفاسها تتلاحق .. وتشعر باختناق .

- ما هذا الكابوس ..؟ أعوذ بالله من الشيطان ..!

تتذكر أنها قبل النوم قد قرأت ( وِرْدَهَا ) ، وقبل ذلك .. كانت قد صلت الوتر ، وقرأت آية الكرسي والمعوذات . ظلت مستيقظة حتى الفجر .. قلقة متوجسة . بعد أن صلت .. نامت إلى حدود الثامنة . حين نهضت ، جهزت الأكل للأطفال ، وبعد تناولهم لإفطارهم ، ألبستهم الملابس التي وعدتهم أنهم سيذهبون بها لزيارة منصور .

جاءت الساعة التاسعة ثم العاشرة ، ولم يأت سائق أم عمر .. جواهر ، ولم تتصل هي أيضاً. بدأ يتسلل إليها القلق .. قررت أن تأخذ سيارة أجرة ، ولا تنتظر أحداً . حين وصلت الطريق المؤدية إلى السجن ، وجدتها مغلقة .. وكان هناك دورية من الشرطة، طلب أحد أفرادها من سائق السيارة الرجوع .. ولم تفلح محــــــــــاولاتها وتوسلاتها ، بإقـــناع العســكري ،السماح لها بالعــــبور .. ولم يستمع لرجاءاتها المتكررة ، بأن لديها موعداً مهماً لزيارة ابناً لها في السجن .. كان جامد الملامح تماماً .. !

عادت سارة تفكر بالطريق المغلق ، ووجه العسكري .. الجامد القسمات ، والرؤيا التي رأتها البارحة . كانت حزينة .. أنها لم تعـــد بنظرة ، تكحل بها عينيها ، من وجه مـنصور ..! أدار سائق الســيارة الــمذياع .. ربما ليبدد السكون . صوت المذيع جاء أجشاً مرتبكاً :

( موجز أخبار الساعة الثانية عشرة . شب حريق في السجن العام صباح هذا اليوم .. ) . لم يكن ثمة تفاصيل ، لكن المذيع بعد ذلك ، أورد تصريحاً لضابط كبير .. مفاده أنـه قد " تمت محاصرة السجن من جميع الجهات ، وأن الطرق المؤدية إليه تحت السيطرة " ..

أحست بوجع .. وحزن يشتعل ، وهبط قلبها إلى قاع جوفها .. تتذكر رؤيا البارحة :

منصور تحاصره السحابة القاتمة .. ثم تطبق عليه ..

صوت يتلاشى ، يدان ترتخيان .. وجرح يعوي في الأعماق ..!


!!!!!!!!!!!!!!!انتهت القصــــــــــــــــــــــة !!!!!!!!!!!!!!
سورا
سورا
قصة مؤثرة جدا..

شكرا المحتار
الكويت الحبيبه
قصه حزينه ومؤثرة
:06: :06: :06: :06:


مشكور المحتار:26: