مدام وائل

مدام وائل @mdam_oayl

محررة برونزية

تذكير الإنسانية بأصلها الواحد

ملتقى الإيمان

تذكير الإنسانية بأصلها الواحد

قرأت هذا الكلام لسيد قطب فى تفسير آية رائعة من سورة النساء ..
وأليكم ما قرأت

قال تعالى:
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة , وخلق منها زوجها , وبث منهما رجالا كثيرا ونساء . واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا). .


إنه الخطاب "للناس" . . بصفتهم هذه , لردهم جميعا إلى ربهم الذي خلقهم . . والذي خلقهم(من نفس واحدة). . (وخلق منها زوجها . وبث منهما رجالا كثيرا ونساء). .

إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق كبيرة جدا , وعميقة جدا , وثقيلة جدا
ولو القى "الناس" أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بإحداث تغييرات ضخمة في حياتهم وبنقلهم من الجاهلية - أو من الجاهليات المختلفة - إلى الإيمان والرشد والهدى , وإلى الحضارة الحقيقية اللائقة "بالناس" و "بالنفس" واللائقة بالخلق الذي ربه وخالقه هو الله . .


إن هذه الحقائق تجلو للقلب والعين مجالا فسيحا لتأملات شتى:

1- إنها أبتداء تذكر "الناس" بمصدرهم الذي صدروا عنه ; وتردهم إلى خالقهم الذي أنشأهم في هذه الأرض . . هذه الحقيقة التي ينساها "الناس" فينسون كل شيء ! ولا يستقيم لهم بعدها أمر !
إن الناس جاءوا إلى هذا العالم بعد أن لم يكونوا فيه . . فمن الذي جاء بهم؟ أنهم لم يجيئوا إليه بإرادتهم .
فقد كانوا - قبل أن يجيئوا - عدما لا إرادة له . . لا إرادة له تقرر المجيء أو عدم المجيء .
فإرادة أخرى - إذن - غير إرادتهم , هي التي جاءت بهم إلى هنا .
إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي قررت أن تخلقهم . إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي رسمت لهم الطريق , وهي التي اختارت لهم خط الحياة . . إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي منحتهم وجودهم ومنحتهم خصائص وجودهم , ومنحتهم استعداداتهم ومواهبهم , ومنحتهم القدرة على التعامل مع هذا الكون الذي جيء بهم إليه من حيث لا يشعرون ! وعلى غير استعداد , إلا الاستعداد الذي منحتهم إياه تلك الإرادة التي تفعل ما تريد .
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة البديهية التي يغفلون عنها لثابوا إلى الرشد من أول الطريق . .
إن هذه الإرادة التي جاءت بهم إلى هذا العالم , وخطت لهم طريق الحياة فيه , ومنحتهم القدرة على التعامل معه , لهي وحدها التي تملك لهم كل شيء , وهي وحدها التي تعرف عنهم كل شيء , وهي وحدها التي تدبر أمرهم خير تدبير .
وإنها لهي وحدها صاحبة الحق في أن ترسم لهم منبع حياتهم , وأن تشرع لهم أنظمتهم وقوانينهم , وأن تضع لهم قيمهم وموازينهم . وهي وحدها التي يرجعون إليها وإلى منهجها وشريعتها وإلى قيمها وموازينها عند الاختلاف في شأن من هذه الشؤون , فيرجعون إلى النهج الواحد الذي إراده الله رب العالمين .


2- كما أنها توحي بأن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة , تتصل في رحم واحدة , وتلتقي في وشيجة واحدة , وتنبثق من أصل واحد , وتنتسب إلى نسب واحد:
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة , وخلق منها زوجها , وبث منهما رجالا كثيرا ونساء). .
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة , لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة , التي نشأت في حياتهم متأخرة , ففرقت بين أبناء "النفس" الواحدة , ومزقت وشائح الرحم الواحدة .
وكلها ملابسات طارئة ما كان يجوز أن تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية , وصلة النفس وحقها في المودة , وصلة الربوبية وحقها في التقوى .
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلا باستبعاد الصراع العنصري , الذي ذاقت منه البشرية ما ذاقت , وما تزال تتجرع منه حتى اللحظة الحاضرة ; في الجاهلية الحديثة , التي تفرق بين الألوان , وتفرق بين العناصر , وتقيم كيانها على أساس هذه التفرقة , وتذكر النسبة إلى الجنس والقوم , وتنسى النسبة إلى الإنسانية الواحدة والربوبية الواحدة .
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلا كذلك باستبعاد الاستبعاد الطبقي السائد في وثنية الهند والصراع الطبقي , الذي تسيل فيه الدماء أنهارا , في الدول الشيوعية , والذي ما تزال الجاهلية الحديثة تعتبره قاعدة فلسفتها المذهبية , ونقطة انطلاقها إلى تحطيم الطبقات كلها , لتسويد طبقة واحدة , ناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع , والربوبية الواحدة التي يرجع إليها الجميع !


3- والحقيقة الأخرى التي تتضمنها الإشارة إلى أنه من النفس الواحدة (خلق منها زوجها). . كانت كفيلة - لو أدركتها البشرية - أن توفر عليها تلك الأخطاء الأليمة , التي تردت فيها , وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة , وتراها منبع الرجس والنجاسة , وأصل الشر والبلاء . . وهي من النفس الأولى فطرة وطبعا , خلقها الله لتكون لها زوجا , وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء , فلا فارق في الأصل والفطرة , إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة . .
ولقد خبطت البشرية في هذا التيه طويلا . جردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها . فترة من الزمان . تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له . فلما أن أرادت معالجة هذا الخطأ الشنيع اشتطت في الضفة الأخرى , وأطلقت للمرأة العنان , ونسيت أنها إنسان خلقت لإنسان , ونفس خلقت لنفس , وشطر مكمل لشطر , وأنهما ليسا فردين متماثلين , إنما هما زوجان متكاملان .
والمنهج الرباني القويم يرد البشرية إلى هذه الحقيقة البسيطة بعد ذلك الضلال البعيد . .


4- كذلك توحي الآية بأن قاعدة الحياة البشرية هي الأسرة .
فقد شاء الله أن تبدأ هذه النبتة في الأرض بأسرة واحدة . فخلق ابتداء نفسا واحدة , وخلق منها زوجها . فكانت أسرة من زوجين . (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء). .
ولو شاء الله لخلق - في أول النشأة - رجالا كثيرا ونساء , وزوجهم , فكانوا أسرا شتى من أول الطريق . لا رحم بينها من مبدأ الأمر .ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق الواحد . وهي الوشيجة الأولى .
ولكنه - سبحانه - شاء لأمر يعلمه ولحكمة يقصدها , أن يضاعف الوشائج . فيبدأبها من وشيجة الربوبية - وهي أصل وأول الوشائج - ثم يثني بوشيجة الرحم , فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى - هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة - ومن هذه الأسرة الأولى يبث رجالا كثيرا ونساء , كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الربوبية , ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة . التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني . بعد قيامه على أساس العقيدة .
إن نظرة إلى هذا التنوع المنبثق من ذلك التجمع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال , المدبرة عن علم وحكمة , وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك المتحف الحي العجيب , يتمليان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد , والتي دائما تتجدد , والتي لا يقدر عليها إلا الله , ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير الله .
فالإرادة التي لا حد لما تريد , والتي تفعل ما تريد , هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي , من ذلك الأصل الواحد الفريد !

والتأمل في "الناس" على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زادا من الأنس والمتاع , فوق زاد الإيمان والتقوى . . وهو كسب فوق كسب , وارتفاع بعد ارتفاع !
3
371

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

مدام وائل
مدام وائل
جزاكم الله خيرا
بنوووتة المدينه
جزاك الله خير
مدام وائل
مدام وائل
جزاك الله خير