حرب المفاهيم : خطبة رائعة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس

ملتقى الإيمان

حرب المفاهيم : خطبة رائعة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس

--------------------------------------------------------------------------------

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد فهذة خطبة قيمة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس عرج فيها على مشكلات الأوضاع الراهنة في بلاد الإسلام فقد أجاد وأفاد بارك الله فيه في هذا الطرح حيث دار موضوع خطبته على مايلي : 1- فتنة العقول والفهوم. 2- خطورة الانحراف الفكري. 3- أهمية الفهم الصحيح. 4- مفاسد سوء الفهم. 5- انقلاب المعايير. 6- الانحراف الحاصل في العقيدة والعبادات والمعاملات. 7- دعوة لتصحيح منهج التلقي. 8- ضرورة الرجوع إلى فهم السلف الصالح. 9- أسباب اختلال المفاهيم. 10- سبل العلاج.
أسال الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح
الخطبة الأولى :
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجل، فإنها نعمتِ الوصية، وأهلُها خير البريّة، من حقَّقها حقّق المراتبَ العليّة والمطالب السنيّة، وسلِم من كلّ فتنة وبليّة، واستوى عنده في هذه الدّنيا تِبرُها وترابها وعذبها وعذابها، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ .

أيّها المسلمون، تمرّ الليالي والأيّام، وتكِرّ الشهور والأعوام، ولا تزال أمّة الإسلام تتجرَّع المآسيَ وتعيش الفِتن، وتعصف بها الابتلاءات وأمواجُ المحن، وإذا كانت فتَن هذا الزمان قد تتابعت ومِحن العصر قد تنوَّعت وتكاثرت كحبّات عِقدٍ منتثِر أو كسيلِ سماءٍ منهمر فإنّ أشدَّ هذه الفتن خطرًا وأعظمَها أثرًا وأكثرها ضررًا فتنة العقول والفهوم؛ بصرفها عن مراد الله عزّ وجلّ ومراد رسوله ومنهجِ السلف الصالح رحمهم الله.

معاشرَ المسلمين، المتأمِّل في مسيرة الأمّة الإسلامية عبر تأريخها الطويل يجد أن هناك أنواعًا مِن الانحرافات الخطيرة التي مُنيت بها هذه الأمّة، غيرَ أنّ انحرافَ المفاهيم هو الخلاصة المرَّة التي آل إليها الانحرافُ التأريخيّ برُمَّته، ولئن ظنَّ بعض الغيورين أنّ ما أصاب الأمّةَ من أرزاء هو إفرازُ الانحرافات السلوكيّة المتفشِّية بين ظهرانيها، فإنّ مِن المؤكَّد أنّ الانحراف الأخطرَ بلا مُوارَبة الذي رُزئت به أمّتُنا عبرَ التأريخ هو الانحرافُ في الأفكار والمفاهيم. فقد يجِد الدّاعية رجلين؛ أحدُهما منحرف السلوكِ مستقيم المفاهيم، والآخر منحرفٌ في السلوك والمفاهيم، فسيبذل جهدًا يسيرًا مع الأوّل لصحّة مفاهيمه، بينما سيبذل جهدًا أكبرَ مع الآخر لأنّه يحتاج أوّلاً إلى تصحيح مفاهيمه، ثمّ بعد ذلك تصحيح سلوكه. وتلك هي الحقيقة المرّةُ في حال كثيرٍ من أبناء أمّتنا اليوم، فلقد تجاوز الانحرافُ مرحلةَ السلوك، وبلغ ذِروتَه في المفاهيم الرئيسَة لهذا الدّين القويم، لذلك فليس من الغرابةِ أن تعيشَ أمّتنا شدّةَ الكربة وحالة الغُربة التي أخبر عنها المصطفى في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ)).

وأيُّ اغترابٍ فوق غربتِنا التي لها صارتِ الأعداءُ فينا تحكَّمُ

إخوةَ الإيمان، قضيّة الفَهم الصحيح قضيّةٌ من أهمِّ القضايا التي ينبغي العنايةُ بها، لا سيّما في أوقاتِ الفتن؛ إذ بها تتفاوت مراتبُ الخَلق في إصابةِ الحقّ، ولذلك اختصَّ الله نبيَّه سليمان عليه السلام بالفَهم مع ثنائه عليه وعلى داودَ بالعِلم والحُكم، قال تعالى: فَفَهَّمْنَـٰهَا سُلَيْمَـٰنَ وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ، وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لأبي موسى في كتابه إليه: (الفهمَ الفهمَ فيما أُدلِي إليك)، وقال عليّ رضي الله عنه: (أو فَهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه)، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر رضي الله عنه أعلمَنا برسول الله ، ودعا النبيّ عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أن يفقِّهه في الدين ويعلِّمه التأويل، وتلك مرتبةٌ فوق مرتبةِ العلم المجرَّد.

يقول الإمام العلاّمة ابن القيّم رحمه الله:"صِحّة الفَهم وحُسنُ القصد من أعظم نِعم الله التي أنعم بها على عبدِه، بل ما أعطِيَ عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلَّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامُه عليهما، وبهما يأمن العبدُ طريقَ المغضوب عليهم الذين فسَد قصدُهم وطريقَ الضّالين الذين فسدت فهومُهم، ويصير من المنعَم عليهم الذين حسُنت أفهامهم وقصودُهم، وهم أهلُ الصراط المستقيم الذين أمِرنا أن نسأل اللهَ أن يهديَنا صراطَهم في كلِّ صلاة. وصحَّةُ الفهم نورٌ يقذِفه الله في قلبِ العبد، يميّز به بين الصحيحِ والفاسد والحقِّ والباطل والهدى والضّلال والغيِّ والرشاد"، ثمّ قال رحمه الله: "ولا يتمكَّن المفتِي ولا الحاكمُ من الفتوى والحكمِ بالحقّ إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهمُ الواقع والفِقه فيه، والثاني: فهمُ الواجب في الواقع، وهو فهمُ حكم الله الذي حكَم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقعِ، ثمّ يطبِّق أحدَهما على الآخر"، إلى أن قال رحمه الله: "ومَن تأمَّل الشريعةَ وقضايا الصحابةِ وجدها طافحةً بهذا، ومَن سلك غيرَ هذا أضاع على الناس حقوقَهم، ونسبَه إلى الشريعةِ التي بعَث الله بها رسولَه " انتهى كلامُه رحمه الله.

إخوةَ العقيدة، المستقرئ لحوادثِ التأريخ يجِد أنّ إساءةَ المفاهيم وراءَ كلِّ مِحنة بُليت بها هذه الأمّة، بل البشريّة قاطبة، وهل أُبلِسَ إبلِيس وقُتل هابيل وافترَق أهلُ الكتابَين وافترقَت هذه الأمّة وأريقَت دماء المسلمين وتسلّط عليهم أعداؤهم إلاّ بسببها؟! وما الذي سفَك دمَ عثمان وعليٍّ والحسين وابنِ الزبير وابن جُبير وغيرِهم من سادات الأمّة إلا ذلك؟! وما الذي أريقَت عليه الدّماء في فتنةِ أبي مسلم؟! وما الذي جرَّد الإمام أحمدَ بين العِقابين وضربِ السّياط حتى عجَّت الخليقةُ إلى ربِّها وخلَّد خلقًا في السّجون وسلَّط سيوفَ التتار على ديار الإسلام ومهَّد لطوائفِ الإلحاد والزندقة والنفاق والخوارج والفرق الضّالة إلا سوءُ المفاهيم؟!

ولهم نصوصٌ قصَّروا في فهمِها فأُتوا من التقصير في العرفان

أمّة الإسلام، وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة، فها هي الصِّراعات العالمية والتحدياتُ الدولية تنطلق من سوء المفاهيم، وهل مَوجات الغزو الفكريِّ والعقديِّ والأخلاقيِّ والإعلاميِّ المعاصر إلا حربُ مفاهيم؟! وهل فَرض أنماطٍ ثقافيّة وفكريّة وإملاءُ اتجاهاتٍ إصلاحيّة معيّنة باسم العولمة والانفتاحِ والحريّة إلا معركةُ مفاهيم؟! وهل كيل التُّهم على الأمّة الإسلامية بدعوى الإرهاب وعدم مراعاة حقوق الإنسان ومصادرة الحريّات وإقصاء مناهج الحقّ والعدلِ والسلام والنيل من القيم والمثُل النبيلة والكيلُ في القضايا الإسلاميّة بمكيالين إلاّ صراعُ مفاهيم؟!

وإن تعجبوا ـ يا رعاكم الله ـ فعجبٌ تحويل المفاهيم الخاطئة بفِعل الإعلام الموجَّه المضادّ إلى حقائقَ مسلَّمةٍ عند كثيرٍ من المتلَّقين، فمفهومُ الإرهاب مثلاً لا يكون محارَبًا إلا إذا كان خطأً من بعض أهل الإسلام، لكن سَحق المقدَّرات والعبَث بالمقدَّسات بحربِ المجازر والمجنزرات من العدوِّ الصهيونيّ الغاشِم ضدَّ إخواننا في فلسطين لا يُعدّ ذلك إرهابًا بإفكِهم، بينما الدّفاع عن الحقوق المشروعة في الأرض والحفاظ على الدين والعِرض يعدّ إرهابًا بزعمِهم!! فليسَ بعد هذا تلاعبٌ بالمفاهيم. وإذا كان هذا غيرَ مستغرَب مع الخصم في عصرٍ بُحّت فيه بعضُ حناجر المنهزمِين فكريًّا من بين جِلدتنا أمام ما يسمَّى بـ"الآخر" فإنّ صدورَ آثار المفاهيم في الاختلاف بين أهل الإسلام وتحويلها إلى صراعات دموية لأمرٌ يبعث على الغرابَة.

ولقد تابع الغيورون ما جَرى ويجرِي على أرضِ العِراق من نزيفِ الدمِ المهراق ممّا يبعث على الإدانة والاستنكار، ويتيح الفرصةَ للعدوّ المتربِّص بخيراتِ العراق ومقدَّراته، ولذا فالدعوةُ موجّهة بإشفاقٍ لإخواننا في بلاد الرافدين لإلقاءِ السلاح فيما بينهم، وحقنِ دماء المسلمين، ووقفِ شلاّلات الدماء البريئة، والمحافظة على وحدة الشعب العراقيّ المسلم ومصالحه الشرعية، والاجتماع على مفاهيم الكتابِ والسنّة الغرّاء ونبذ ما يخالفها.

إخوةَ الإسلام، ولعلَّ أخطرَ حروبِ المفاهيم التي بُليَت بها الأمّة المفاهيمُ العقدية في تحقيق معنى الشهادتين وتوحيدِ العبادة والأسماء والصفاتِ والقضاء والقدر والولاء والبراء والشّرك والتوسُّل والتبرُّك والشفاعة والولاية والجماعة والتكفير والغلوّ والمحبّة والخصائص النبويّة والموقف من الصحابة وما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، كما أن مفاهيمَ العبادات والمعاملات والعقودِ والقضاء وتمييز الأحكام والنظرة إلى الإنسان والكون والحياة وعمارةِ الأرض، إضافةً إلى مفاهيم الدعوةِ والحسبة والجهاد، وقضايا الفكر والثقافة والحرية، وقضايا الشباب والمرأة والحجاب والحوار والإصلاح والنوازل والمستجدّات المعاصرة، كلُّ هذه مما يحتاج إلى تأصيلٍ شرعيّ للمفاهيم الصحيحة وفقهٍ واقعيّ يُعنى بما يُسمّيه أهل العلم كالشاطبي وغيره فقهَ المآلات وكذا فقه الأولويات وفقه المرحلة التي تمرّ بها الأمّة من حيث القوةُ والضعف كما نصّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في عنايةٍ بالنصوص وضبطٍ للاستدلال وصحّة في الاستنباط وحسن توظيفٍ لمقاصد الشريعة وقواعد الفقه فيها.

إنّها دعوةٌ صادقة لتصحيح المفاهيم الخاطئةِ عن ديننا وشريعتنا، تبدأ أوّلاً من أنفسنا نحن أهل الإسلام وإخواننا في تصحيح عقيدتنا وتصوّراتنا ومفاهيمنا، ثمّ مع غيرنا في تصحيحِ صورةِ الإسلام المشوَّهة مع شديد الأسف لدى كثيرٍ من شعوب العالم.

لا بدّ من تصحيح منهَج التلقّي في الفهم لهذا الدّين القويم الذي أصابه خللٌ ذريع عند فئام من النّاس، فما بال أقوامٍ اختلطت عندهم الأفهامُ وداخلها الخلطُ واللَّبس والإيهام، وعُزلت عن نور الوحي ومشكاة سنّة سيّد الأنام، وكرَعت في أوحال الضلالات والأوهام، وخيَّم عليها فسطاطُ الأباطيل والإظلام، حتى توارت المفاهيم الصحيحةُ في أنفاق مظلمةٍ من المفاهيم الغريبَة، وغرقت كثيرٌ من أشرعَة المناهج السليمة في بحارِ ومستنقعات المناهج السقيمة، ممّا يتطلّب من رُبّان سفينة هذه الأمّة من أهل العلم والعقل والدعوةِ والإصلاح العملَ بجدٍّ في إصلاح المفاهيم وربط الأمّة بمفاهيم خير القرون عليهم من الله الرحمة والرضوان، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "وآراؤهم لنا ـ يعني الصحابة ـ أحمدُ وأولى لنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "حبُّهم ـ أي: الصحابة ـ سنّة، والدعاء لهم قُربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارِهم فضيلة"، ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "يجب على كلِّ ناظر في الدليل الشرعيّ مراعاةُ ما فهِم منه الأوّلون وما كانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصّواب، وأقومُ في العلم والعمل".

ولئن طالبَ كلٌّ بتصحيح مفاهيم غيرِه فإنّ الفيصلَ في ذلك فهمُ السلف الصالح رحمهم الله، والله عزّ وجلّ يقول: وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ، ويقول سبحانه: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً .

ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وتمسّكوا جميعًا بالكتاب والسنّة، واتَّحِدوا على فهمِ سلف الأمّة، تسعَدوا وتفلِحوا في دنياكم وأخراكم.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.






--------------------------------------------------------------------------------

صحيح مسلم: كتب الإيمان (145) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

بيت من القصيدة الميمية لابن القيم.

أخرجه الدار قطني في سننه (4/206-207)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 119، 150)، قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (6/71): "رسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء، وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه، ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري..."، وقال الحافظ في التلخيص (4/196): "ساقه ابن حزم من طريقين، وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيهما مما يقوي أصل الرسالة، لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة".

أخرجه البخاري في الجهاد (3047) بنحوه.

أخرجه البخاري في المناقب (3654، 3904)، ومسلم في فضائل الصحابة (2382).

أخرجه أحمد (1/266، 314، 328، 335)، والطبراني في الكبير (10/238، 263)، وصححه ابن حبان (7055)، والحاكم (6287)، وقال الهيثمي في المجمع (9/276): "لأحمد طريقان، رجالهما رجال الصحيح"، وصححه الألباني في شرح الطحاوية (180). وهو متفق عليه دون قوله: ((وعلمه التأويل))، أخرجه البخاري في الوضوء (143)، ومسلم في فضائل الصحابة (2477).

إعلام الموقعين (1/87-88).

هذا البيت من الكافية الشافية لابن القيم.

المدخل إلى السنن الكبرى (ص110)، ومناقب الشافعي (1/442) للبيهقي.

السنة (ص78).

الموافقات (3/77).


الخطبة الثانية:
الحمد لله، شرع الشرائعَ وأحكَم الأحكام، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له الملك القدوس السلام، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد الأنام، هو للأنبياء بدرُ التمام ومِسك الختام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررَة الكرام، الموصوفين بقوّة الإيمان وصحّة الأفهام، والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم القيام للملك العلام، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

أيّها الإخوة الأحبّة في الله، وحتى لا تختلطَ المفاهيم ينبغي تشخيصُ الداءِ ووصف الدواء.

إنّ من أهمِّ أسبابِ اختلال المفاهيم الجهلَ واتباع الهوى والتعصّب والتحزّب المقيتَ وإيثار الدنيا وطلب محمدَة الخلق وضعفَ الإيمان وتركَ التقوى واللهَث وراء حبّ الظهور والشهرة، كما أنّ منها تركَ المحكمات واتباع المتشابه وتصيّد الشواذّ من المسائل وتقفُّر العلم. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ قال: ((إذا رأيتُم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم))، وروى الدارمي والدارقطني وغيرهما عن عمر رضي الله عنه قال: (إنّه سيأتي ناسٌ يجادلونكم بشبهاتِ القرآن، فخذوهم بالسنن، فإنّ أصحاب السنَن أعلمُ بكتاب الله).

وهاك ـ يا رعاك الله ـ سلسلتَهم الذهبيةَ من صحابةِ رسول الله وتابعيهم بإحسان والأئمة الأربعة والأوزاعيّ والليث والسفيانين وأئمةِ الحديث وشيخ الإسلام ابن تيمية وإمامِ الدعوة الإصلاحية رحمهم الله جميعًا.

كما أنّ من أسباب اختلال المفاهيم عدمَ الرجوع إلى أهل العلم المعتَبرين، يقول عزّ وجلّ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، وحداثةُ السنِّ مظِنّة سوء الفهم في الغالب، وحدِّث ولا حرج عن التأويلات الفاسدة.

واليومَ في عصر الإعلام والفضائيّات وثورةِ الثقافات والمعلومات تولّت فضائيّات تدّعي الحريةَ والاستقلال التشكيكَ في المفاهيم الصحيحة لهذه الأمّة والطعنَ في رموزها والتلاسُن الكلاميّ والتراشق الإعلاميّ والتنقُّص لثوابت الأمّة ومسلَّماتها والتعرّض بالنّقد والثَّلب والمحاكمة لفضلائها وعُظمائها، ولكلّ قومٍ وارث، ممّا يثير البلبلةَ ويُشكِّك في المسلّمات وينشُر الفوضى الفكريّة ويهدِم البُنى الصحيحةَ لفكر الأمّة وموروثها الحضاريّ.

أمّا العلاج ـ يا رعاكم الله ـ فيكمُن في حُسن القصد وتحرِّي الحقّ وتقوى الربّ والوقوف حيث وقف الأسلاف، فإنهم عن علمٍ وقفوا، وببصرٍ نافذٍ كفّوا، وإلا ففِتن المفاهيم بحرٌ سحيق لا ساحلَ له، فكم من فاتن فيها بعلم، ومفتون عنها بتقليد، وقد جمع هذا الزمانُ وأهلُه كثيرًا من صوَر المفاهيم الخاطئة، وما اجتمعت في عصرٍ كاجتماعها وتوارُدها في هذا العصر، حتى قلَّ الفقه فيها، وعظُمت المجاهدةُ لها، وما ذلكم إلا لأنّ أصحابَ المفاهيم الخاطئة يرَون الصوابَ حكرًا على أنفسهم، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء . وكم وصَفوا أهلَ المفاهيم الصحيحة بالأوصافِ الشنيعة، فرمَوهم بالمجسِّمة والحشوية والوهّابية بأَخَرَة، وكم عيبَت الأقوال الصحيحةُ بالفهوم السقيمة. وما على المرءِ إلا نحتُ القوافي من مقاطعها، وما عليه إذا لم يفهمِ البشَر؟!

حتى خُيِّل لبعض المنهزِمين أن لا امتطاءَ لصهوَة التقدم والحضارة إلاّ بالتمرُّد على الدين والنيلِ من قيَمه ومفاهيمه والمساسِ بثوابتِه والمطالبة بإخضاع مسلَّماته ومحكَماته للنَّظر والحوار، فظنّ بعضهم الإفسادَ إصلاحًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ، وقد قال قائلهم عن نبيّ الله موسى عليه السلام وكلميه: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ٱلأرْضِ ٱلْفَسَادَ .

فمهلاً مهلاً أيّها المفتونون، ورويدَكم رويدَكم أيّها المنهزِمون، وعلى رسلِكم أيّها الخائضون في أمور الشريعة، فأعطُوا القوسَ باريها، وحنانَيكم أيّها المخالِفون، فها قد برِح الخفا، وتبيَّن الحقّ وانجلى، وظهرَ المحقّ واعتلى، ووُضعت المفاهيم في صحيح مجاريها، وحاد السالكُ عن الشطَط في مراميها، ولم يبقَ لمعاندٍ مستمسَك، ولا لمجادلٍ مستعصَم، ولن يُخرجَ الأمّةَ من وهدتها وينقذها من جديدِ صراعاتها إلاّ عودتها الجادّةُ لتصحيح مفاهيمها في أنفسها أوّلاً، ثمّ عند غيرها ثانيًا، مستثمرةً وسائلَ العصر وثقافاته في تحقيق ذلك قبلَ أن يستفحلَ داؤها ويستحيلَ دواؤها، ولنا عِبرةٌ أيّ عِبرة تتبعُها لوعة وعَبرة في أساطين المفاهيم المغلوطَة عبر التأريخ الذين ندِموا على ما قدَّموا، واعترفوا بحيرتهم واضطِرابهم، فأرواحُهم في وحشةٍ من جسُومهم، وحاصلُ دنياهم أذًى ووبال، وآخَر قد طاف المعاهدَ كلَّها، وسيَّر طرفَه بين تلك المعالم، فلم يرَ إلاّ واضعًا كفَّ حائرٍ على ذَقَنٍ أو قارعًا سنَّ نادم.

فيا هؤلاء، ويا أولئك، ويحكم، البدارَ البدارَ قبل فواتِ الأوان، فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ .

ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربكم جلّ في علاه فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً .

اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وأشرفِ الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...





--------------------------------------------------------------------------------

صحيح البخاري: كتاب التفسير (4547)، صحيح مسلم: كتاب العلم (2665).

سنن الدارمي: المقدمة (119)، وأخرجه أيضا الآجري في الشريعة (1/48، 52)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (202).
6
623

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

زهرة النرجس 99
زهرة النرجس 99
جزاك الله خير وغفرالله لك ولوالديك
ورزقك الله الفردوس الاعلى
ياقوتة خضراء
ياقوتة خضراء
جزاك الله خير
ام دندوووووون
شكرلكم وبارك الله فيكم
رنيم.R
رنيم.R
جزاك الله كل خير
ام دندوووووون
شكرلكم