أسماء الله الحسنى: المُحسن- دكتور محمد راتب النابلسي

ملتقى الإيمان


الإحسان هو إيصال البر منك إلى غيرك في جمال وإتقان، وفعل الشيء على أكمل ما يمكن، فالإحسان يكون للغير بفعل الخير، ويكون بإتقان العمل نفسه، والإحسان هو جودة الفعل الزائد على حد العدل، فالعدل هو تساوي كفتي الميزان بأن يتساوى ما هو لك بما هو عليك. فمثال العدل لو أن إنسانا اشترى قميصا من محل دون أن يعطيه كيسا يضع فيه القميص فهذا عدل، فلو أعطاه كيسا فهذا إحسان، ومثال آخر في التفريق بين العدل والإحسان، لو أنني اشتريت شيئا بعشرة وهو في السوق بعشرين، فهذا إحسان من البائع للمشتري، وكذلك لو كان بعشرة في كل المحلات، لكن الذي اشتريته أكثر جودة وإتقان، وكذلك لو كانت السلعة واحدة وسعرها واحد، لكن صاحب هذا المحل يبتسم في وجه من يشتري فهذا إحسان، فالإحسان هو فعل خير زائد لا يستحقه الطرف الآخر تفضل به عليه الطرف الأول.

ولو نظرنا في علاقة الله بعباده لوجدناها علاقة قائمة على التفضل المحض منه سبحانه، والإحسان المتعدد الصور، بدءا من بروزنا من العدم الذي لا نستحقه، والعدل أن تبقى في العدم لأننا لم نقدم شيئا في العدم نستحق عليه هذا البروز إلى عالم الوجود، ولو توقف الإحسان عند هذا الكلام ما كان عليه سبحانه ملام، ولكنه تفضل فيسر أسباب البقاء، وزاد في العطاء، وكان يمكن أن يقول لك: تفضلت عليك وأوجدتك من العدم فاعمل على استمرار بقائك وابحث عمن يرعاك ويتولى هداك، ولكنه سبحانه هيأ لك والديك يخدمانك في صغرك ويعلمانك في صباك، ولو توقف الإحسان عند هذا الكلام ما كان عليه سبحانه ملام، ولكنه بعد أن صورك في أحسن تقويم هداك إلى الطريق القويم، وجعلك من المسلمين، بل ومن أتباع سيد المرسلين، ولو توقف الإحسان عند هذا الكرم ما كان عليه سبحانه ملام، ولكنه زاد في الإنعام فعلمنا القرآن، ومعاني البيان، ووهبنا عقلا نفهم به الكلام، ولم يجعلنا كالأنعام، ولو فعل ماكان عليه ملام، ثم زادنا في الإنعام ألوانا يقصر عنها الكلام، لو جمعنا لها الأقلام وكتّاب الإعلام لم تفي الأوراق من كثرة الكلام الدال على الإنعام، وأعظم نعمة بعد الوجود هي الخلود في رضا المعبود في جنة ليس لها مثل بشهادة الشهود، وهؤلاء الشهود هم عباد المعبود الذين هم موضع وموضوع الإحسان من الله المحسن، وقد أحسن الله إلى كل شيء، وأعظم شيء أحسن إليه بني الإنسان الذين قال فيهم "ولقد كرمنا بني آدم ..." وقال عنهم واصفا خلقهم " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين:4)
الإحسان في خَلق الإنسان:
جعل لك عينين، ولولا العينان لما أدركت البعد الثالث، أنت بعين واحدة ترى بعدين سطحيين، لكنك في العين الثانية ترى البعد الثالث، ترى العمق.
وجعل لك أذنين، وبأذن واحدة يصل الصوت إليك، لكن بالأذنين تعرف جهة الصوت.
وفي الشَّعر، جعل لكل شعرة وريدا، وشريانا، وعصبا، وعضلة، وغدة صبغية وغدة دهنية، وليس في الشعر أعصاب حس، من أجل أن تهذب شعرك من دون مستشفى، ولولا أن الشعر خالٍ من أعصاب الحس لاضطر الإنسان إن أراد أن يهذب شعره إلى تخدير شامل في المستشفى .
الله ( محسن )، من أجل أن تفرق بين 8 ملايين لون، ولو درجت اللون الواحد إلى 800 ألف درجة لكشفت العين السليمة الفرق بين الدرجتين: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ..." (السجدة:7)
كأس الماء لو رأيت ما فيه من بكتريات لما شربته، جعل للبشر عتبة لا ترى أكثر مما ينبغي أن تراه ، ولا تسمع أكثر مما ينبغي أن تسمعه . "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر:49(
لذلك كلمة محسن تعني أنه محسن في خَلقه، محسن في التصميم، محسن في الأجهزة، محسن في الحواس، محسن في قوام الإنسان.
والحسن ضد القبح، وحسن الشيء زينه، يعني.. تصور إنسان بلا جلد منظره لا يحتمل.. تماماً كبيت على الهيكل، أما كسوة البيت، والطلاء، والنوافذ، والأرض، والأثاث. .كل ذلك غير موجود: "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ..."(السجدة:7(
فشمل إحسانه سبحانه لنا من أصل وجودنا من العدم، إلى دوام هذا الوجود، إلى العناية بنا في فترة هذا الوجود بكل ما يلزمنا بما هو ضروري وتجميلي.

صوَرٌ من إحسان الله في مخلوقاته:
• كل الفواكه والخضروات تنضج تباعاً، ولو أن كل الفواكه يبدأ نضجها في وقت معين لكان الأمرُ صعبًا، لكن تبدأ بفاكهة، بعد شهر فاكهة ثانية، آخر شيء العنب في الخريف، قبله التين، قبله الإجاص، قبله الدراق، قبله الكرز، أيضاً الفواكه موزعة في الصيف توزيعا مريحا، على مدى الصيف، كل أسبوعين أو ثلاثة أو شهر ينضج نوع من الفاكهة، هذا من الإحسان، فادخر لنا أرزاقنا بطول أعمارنا ولم يلقها إلينا في وقت واحد، فتضيع علينا أرزاقنا بالفساد أو بالضياع لأننا لا نجد ما نخزنها فيه، فالإحسان أن تبدأ الشيء وتتممه على أحسن ما يمكن.
• البقرة تعطيك من الحليب ما يفوق ثمن الطعام، لو أنها تعطيك من الحليب أقلّ من ثمن الطعام فلا أحد يقتني بقرة.
• لو أن الدجاجة تعطي في الشهر بيضة واحدة لكانت مكلفة، وأصبحت غير اقتصادية، كل يوم لها بيضة، وطعام الدجاج لا يساوي الإنتاج الذي ينتجه من البيض، وهذا من الإحسان.
لو أن هذا الفكر بدأ يجول في خلق الله عز وجل لتعرف على الله، لذلك أرقى عبادة هي التفكر
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ". ( آل عمران: 190)

صفة الإحسان تتجلّى في جهاز المناعة المكتسب:
أنت معك جهاز مناعة عبارة عن جيش بكل معاني الكلمة، فيه خمس فرق: فرقة الاستطلاع، فرقة مهمتها استخبارية فقط، يدخل الجرثوم إلى الجسم فتتجه كريات بيضاء من فرقة الاستخبارات، وتأخذ شفرة الجرثوم ولا تقاتله، تأخذ هذه الشفرة إلى مركز صنع المصول (الأمصال)، إلى مركز معامل الدفاع في العقد الليمفاوية، وتعطي العقد تركيب الجرثوم، وصفاته الكيماوية، هذه المراكز معامل أسلحة تصنع المصل المضاد لهذا الجرثوم، المعامل أو العقد الليمفاوية تشكل معامل للسلاح، والفرقة الاستطلاعية تشكل جهاز المخابرات في الجسم، وهناك فرقة المقاتلين، وهي الفرقة الثالثة، هذه الفرقة تحمل المصل المضاد، وتتجه إلى الجرثوم فتقاتله، وينشب بينهما قتال، وقد ينتصر الجرثوم، وربما لا ينتصر.
عندنا فرقة رابعة، وهي فرقة الخدمات، هذه الفرقة تنظف أرض المعركة، وتدفن الجثث، وأحياناً يرى الإنسان كتلة بيضاء في جلده، هذه أثر معركة بين الجراثيم وكريات الدم الحمراء، هذا تصميم من؟ الله الذي أحسن كل شيء خلقه...هناك فرقة أخرى خامسة، وهي فرقة تكتشف الخلية السرطانية في وقت مبكر جداً وتلتهمها، وفي الإنسان ملايين الخلايا السرطانية، لكن لكل خلية سرطانية قامع يمنعها أن تكون فعالة، وهناك أشياء تفك هذا القامع، الشدة النفسية، والمواد البترولية، والمواد البلاستيكية، والإشعاع النووي هذه أسباب السرطان، فجهاز مناعة مكتسب جهاز مذهل.
لك أن تتخيل حالك وأنت وسط هذا الكم من الأعداء الفاتكة بجسمك وهيكلك بدون أن يكون معك ما يحميك منها، فالله سبحانه أحسن إليك بأن أوجدك وحسّن تقويمك، وأمدك بما تحتاج، ثم تمم الإحسان بأن منع عنك ما يؤذيك، ويهدد وجودك وبقاءك، فالإحسان هو عمل له ظاهر، وهو جسم الأنسان وصورته الحسنة، وله باطن وهو إتقان هذه الصفة، وسد الثغرات التي تمنع الاستفادة من هذه الصورة فسبحانه من قائل: "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ..." (السجدة:7)
الدماغ موضوع في صندوق عظمي، بين الدماغ والصندوق سائل، هذا السائل من أجل امتصاص الصدمات، لو أن طفلا وقع على رأسه هذا الاهتزاز الشديد السائل يوزعه على كامل مساحة الدماغ، يبقى الطفل سليماً.

أحاسنكم أخلاقاً:
الله سبحانه هو مصدر الأخلاق، وكل ما نراه من أخلاق في بني الإنسان منشأها الله تعالى، ولنعرض لصورة من الإحسان والأخلاق الربانية التي تربى عليها أبو الأنبياء عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال الله عز وجل: "فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء" (الذاريات: 26)... سيدنا إبراهيم راغ، أي تسلل خفية، لم يستأذن الضيف في إحضار الطعام، لأن الضيف يستحي، لو عرضت على أن تأتيه بالطعام لتعفف، يقول لك: لست جائعا...لذلك من كمال أدب الضيافة ألاّ تستأذن الضيف في إحضار الطعام ﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾. . جاء الطعام سريعاً، وهذا من كمال الدعوة، وجاء بطعام نفيس أي طيب..﴿ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ﴾ ...أحياناً يكون طبق الطعام بعيدا عن الضيف، يستحي أن يتمطى ليصل إليه، يجب أن تقرب له الطعام.

وقد تعلم الخليل هذا الفعل من مولاه الذي ينزل عليه بالخير من غير أن يشاوره أو يسأله، فقرب إلينا نعمه، فالله خلقنا من غير أن نطلب منه ذلك، ثم ربّانا وأنعم علينا بما يغذينا من غير أن ندعوه.
الإحسان صفة الواحد الديان، والإنسان ما تعلم الإحسان إلا من الرحمن، فتراه محسن في علاقاته، محسن في مواعيده، محسن في دعواته، محسن في أفراحه، محسن في أحزانه.

فالزوج محسن لزوجته:
لأن الله قبل أن يأمره بقوله " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" (النساء19) تعامل مع الزوجين بالإحسان فزوج كل منهما بالآخر على كبر دون أن يربي أحدهما الآخر في الصغر، وكل من الزوجين على مدار حياته قبل الزواج تعود على إحسان الله وإكرامه، فلم يكن غريبا أن يتعامل الزوجان مع بعضهما بالإحسان، ولذا ينبههما الله إلى ذلك فيقول: "...وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ..." (البقرة: 228)

محسن في تربية أولاده:
ففي حديث مسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضم أصابعه"، وفي رواية عند الحميدي "فأحسن صحبتهن، وصبر عليهن، واتقى الله فيهن دخل الجنة"
محسن في عمله، عمله مُتقن:
( إن الله يحب من العبد إذا عمل عملا أن يتقنه )
هناك إحسان في الكلام، إحسان في المعاقبة: اتق الوجه، أردت أن تؤدب ابنك فاتقِ الوجه، لأنه كرامة الإنسان، فالنبي نهى عن ضرب الوجه، هناك ضرب معتدل، ليس القصد إيقاع الألم الشديد، القصد لفت نظره.

كلمة ( محسن ) واسعة اتساعا يفوق حد الخيال، حتى الاحتفال فيه إحسان، حيث يكون الاحتفال أحيانا في أربع ساعات، وفيه إساءة إلى الله، والوقت ثمين جداً، أما احتفال منظم في ساعة ونصف فهذا إحسان.

قضية الإحسان تشمل الأفراح والأتراح، وتربية الأولاد، حتى في الثياب إحسان، ثياب نظيفة، ألوانها متناسقة، بسيطة، ما فيها تعقيدات، حتى في مكان عملك فيه نظام، ونظافة، وترتيب بالدكان، هذا أيضاً إحسان.

هناك إحسان يكون في إدارة الوقت، أحياناً إلغاء الروتين إحسان، تخفيف الأعباء على مواطن إحسان، هذا يشمل الأنظمة التي تنظمها الدولة، أحيانا تجمع حاجات المواطنين في بناء واحد، هذا إحسان.

كلمة إحسان واسعة بشكل غير معقول، يمكن أن تكون محسناً في كلامك، وفي تصرفك، وفي تربية أولادك، وفي معاملتك لزوجتك، وفي عملك، وفي أفراحك، وفي أتراحك، في كل شيء، ولذلك فالله يحب المحسنين، كما قال في القرآن، لأن الإحسان وصف جامع لكل الأخلاق. إن الله كتب الإحسان على كل شيء، والمؤمن محسن، والمؤمن يشتق هذه الصفة العالية من الله عز وجل : "وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا". ( الأعراف: 180 )...أي تقربوا من الله بكمال مشتق من كمالات الله، فالقرب قرب صفات، وكلما تقاربت صفاتك مع صفات مولاك كنت أقرب إليه، فهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول "أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا"، الله يحب صفته، فكلما ازددت من أخلاق الله وصفاته زاد حبه لك، ولذلك أحب الخلق إلى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أحسن الناس أخلاقا، حتى وصفه الله بأنه على خلق عظيم، وعظمة الأخلاق من عظمة الله تعالى لأن الله عظيم، فصفاته عظيمة، فصارت الأخلاق عظيمة.

والأخلاق لا سقف لنهايتها، فانظر إلى قوله تعالى" ... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: 134)..ومع أن كظم الغيظ خلق حسن، وهو كف نفسك عن حقك، ومع أن العفو عن الناس هو عدم ذكر الخطأ بمحوه لئلا يؤذي المخطئ، ومع أن هذه أخلاق عاليه جدّا، إلا أن الله دعانا إلى التزود من أخلاقه فقال أحسنوا لمن أساء إليكم تماما كما يفعل الله معنا عندما نخطأ فيسامح ويعفوا، بل ويبدل الإساءة إلى حسنات، هذه أخلاق تفوق التوقعات.

2
794

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

حكايه صبر
حكايه صبر
جزآك الله كَل خيرَ وجعلهآ الله في ميزآن حسنآتَك
طالبة العلم الف
جزاك الله كل خير