fraternity88

fraternity88 @fraternity88

عضوة فعالة

من كتاب التبيان في أقسام القرآن لابن القيم9

ملتقى الإيمان

فصل :ولما تكامل للنطفة أربعون يوما فاستحكم نضجها وعقدتها حرارة الرحم استعدت لحالة هي أكمل من الأولى وهي الدم الجامد الذي يشبه العلقة ويقبل الصورة ويحفظها بانعقادها وتماسك أجزائها فاذا تم لها أربعون استعدت لحاقا هي أكمل من الحالتين قبلها وهي صيرورتها لحما أصلب من العلقة وأقوى وأحفظ للمخ المودع فيها واللحم هو كسوتها والرباطات تمسك أجزاءها وتشد بعضها بعضا والكبد الذي يأخذ صفو الغذاء فيرسله إلى سائر الأعضاء وإلى الشعر والظفر والامعاء التي هي مجاري وصول الطعام والشراب إلى المعدة والعروق التي هي مجاري منفذة وإيصاله إلى سائر أجزاء البدن والمعدة التي هي
خزانة الطعام والشراب وحافظته لمستحقيه والقلب الذي هو منبع الحرارة ومعدن الحياة والمستولي على مملكة البدن والرئة التي تروح عن البدن وتفيده الهواء البارد الذي به حياته واللسان الذي هو بريد القلب وترجمانه ورسوله والسمع الذي هو صاحب أخباره والبصر الذي هو طليعته ورائده والكاشف له عما يريد كشفه والأعضاء التي هي خدمه وخوله والرجلان تسعى في مصالحه واليد تبطش في حوائجه والأسنان تفصل قوته وتقطعه والعروق توصله إلى أربابه والذكر آلة نسله وأنثياه خزانة مادة النسل والكبد للغذاء وقسمته وهي في الحيوان بمنزلة شرش الشجر والنبات تجدب الغذاء وترسله إلى جميع الأجزاء وآلات الغذاء خدم له والقلب للأرواح الذي به حياة الحيوان وآلات النفس خدم له والدماغ معدن الحس والتصور والحواس خدم له والأنثيان معدن التناسل والذكر خدم لهما وهذه الأعضاء هي رأس أعضاء البدن
فصل :وأما آلات الغذاء فثلاثة أقسام آلة تقبل الغذاء وتصلحه وتفرقه وترسله إلى جميع البدن وآله تقبل فضلاته وآلة تعين في إخراج ثفله وما لا منفعة في بقائه فالآلات القابلة هي الفم والمريء والبطن والكبد والعروق الموصلة إلى الكبد والعروق الموصلة منها إلى البدن
فصل :وأما الآلات القابلة للفضلات فالمرارة تقبل ما لطف منها والطحال يقبل كثيفها والكلى والمثانة يقبلان المتوسط والكبد موضوعة في الجانب الأيمن وتأخذ يسيرا للجانب الأيسر وهذا لحكمة بديعة وهي أن القلب في الجانب الأيسر أقرب وهو معدن الحار الغريزي فتجنب عند الكبد قليلا لئلا يتأذى بحرارتها وجعل في أوعية الغذاء قوى خادمة له فالفم مع كونه يقطع الغذاء ويطحنه يحيله ويغيره والمريء مع كونه منفذا إلى المعدة يغيره تغييرا ثانيا والمعدة مع كونها خزانة حافظة له تنضجه وتطبخه وتغيره تغييرا
ثالثا وتهضمه وتنفي منه مالا يصلح وتخرجه وتدفعه إلى مخرج الثفل فإن الطعام إذا استقر في المعدة اشتملت عليه وانضمت غاية الانضمام ثم أنضجته بحرارتها ثم تتولاه الكبد وتشتمل عليه وتقلبه دما خالصا ثم تقسمه على جميع الأعضاء قسمة عدل لا جور فيها ولا حيف
ولما كانت المعدة حوض البدن الذي يرده أجزاء البدن من كل ناحية اقتضت الحكمة الإلهية جعلها في وسطه وخالص الغذاء يتأدى إلى الكبد من شعب كثيرة ويجتمع في موضع واحد واسع يسمى باب الكبد وجميع العروق التي تتصل بالمعدة والأمعاء والطحال تجتمع وترتقي إلى باب الكبد والمعدة تجذب الموافق ويبقى المخالف المنافي الذي عجزت قوتها عنه ثم أن الكبد تصفيه وتنقيه بعد اجتذابه مرة أخرى وتنفي عنه غير الموافق
فصل :إذا تنقى الدم من هذه الفضلات كلها وعملت فيه هذه الخدم بقواها التي أودعها الله فيها هذا العمل وأصلحته هذا الإصلاح عمل ملك الأعضاء والجوارح وهو القلب فيه عملا آخر فقصده بحرارة آخرى وهي أقوى من حرارة الكبد
فصل :وجعل سبحانه في المعدة أربع قوى قوة جاذبة للملائم وقوة منضجة له وقوة ممسكة له وقوة دافعة للفضلة المستغنى عنها منه ورئيس هذه القوى هي القوة المنضجة وسائرها خدم لها وخصت المعدة عن سائر الأعضاء بأن أودع فيها قوة تحس بالعوز والنقصان وخاصتها تنبيه الحيوان لتناول الغذاء عند الحاجة وأما سائر الأعضاء فإنها تتغذى بالنبات باجتذاب الملائم إليها ولما احتاجت المعدة إلى قوة وحس بالعوز ولم يكن ذلك إلا من معدن الحواس وهو الدماغ أتاها روح لعصب عظيم فأنبت أكثرها في فمها وما يليه وباقيه مستقيا حتى بلغ قعرها
فإن قيل فما الحكمة في أن باعد الله سبحانه بين المعدة والفم وجعل بينهما مجرى طويلا وهو المريء وهلا اتصلت المعدة بالفم واستغنت عن المريء قيل هذا من تمام حكمة الخالق وفيه منافع كثيرة منها أن يحصل للغذاء تغير
ما في طريق المجرى فيلطف قبل وصوله إليها ومنها بعده عن آلة التنفس لئلا تعوقه وتعوق الصوت والكلام وأن لا تنقلب المعدة إلى خارج عند شدة الجوع كما يعرض ذلك للحيوان الشره إذا كان قصير العنق
فصل :والكبد منطبقة على المعدة محتوية عليها بزوائدها لتسخنها والطحال يسخنها من الباب الأيسر والصلب يسخنها من خلف والترائب من قدامها والترائب مؤلفة من طبقتين رقيقتين تنطبق إحداهما على الأخرى بشحم كثير وهو غشاء الأمعاء كلها ولباسها ثم غشي البطن كله بغشاء واحد يقي الأحشاء ويمنع من انفتاح المعدة والأمعاء بالرياح ويربط جملة آلات الغذاء ولم يجعل في الكبد تجويف كتجويف القلب لتحتوي على الدم احتواء ممكنا وتحيله حال بليغة وللكبد ثلاث شباك من العروق شبكة بينها وبين المعدة والأمعاء
وشبكة في مفرعها وشبكة في مجذبها فالشبكة الأولى تجذب الغذاء وتحيله بعد أن أحاله وفي الشبكة الثانية يصير دما وفي الشبكة الثالثة يزداد صفاء وترويقا وللكبد بالقلب والدماء اتصال بشظلة من العصب خفية كنسج العنكبوت
ولما كانت النفس المعدية بمنزلة حيوان عاد وحشي وكل جسم يموت فلا بد أن تتصل به هذه النفس وتغذوه بخلاف النفس المفكرة التي محلها الدماغ وبخلاف النفس الغضبية التي محلها القلب فالنفس المفكرة تستعين بالنفس الغضبية على تلك النفس الحيوانية العادية الوحشية فاقتضت حكمة الخالق سبحانه أن وصل بين محل هذه الأنفس الثلاثة ليذعن بعضها لبعض .


ولا تنكر تسمية هذه القوى نفوسا فليس الشأن في التسمية فأنت تجد فيك نفسا حيوانية تطلب الطعام والشراب ونفسا مفكرة سلطانها على التصور والعلم والشعور ونفسا غضبية سلطانها على الغضب والإرادة وتضرب كل واحدة منها فيما جعلت إليه وبعضها عون لبعض فمحل النفس الحيوانية الكبد ومحل المفكرة الدماغ ومحل الغضبية القلب

فصل :وتأمل الحكمة في أن جعلت صفاقات عروق الكبد أرق من صفاقات سائر عروق البدن لينفذ إلى الكبد جوهر الدم بسرعة وهي مع ذلك غير محتاجة إلى الوقاية لأن الكبد تحوزها بلحمها وإنما وضعت مجاري المرة الصفراء بعد العروق التي تصعد الغذاء من المعدة وقبل العروق التي تأخذ الدم منها لأن هذا الموضع هو بين موضع كمال الطبخ وبين موضع انتقاله إلى العرق الأجوف وحينئذ يمكن انفصال المرة عن الدم وجمعت العروق كلها إلى عرق واحد هو الباب ثم عادت فتقسمت في مقعر الكبد ثم عادت فجمعت في مجدها إلى عرق واحد هو الباب ثم عادت فتقسمت في مقعر الكبد ثم عادت فجمعت في مجدها إلى عرق واحد وهو الأجوف لتجيد بقسميها إنضاج ما تحتوي عليه ولئلا ينفذ بسرعة
فصل :وأحرز الصانع سبحانه موضع الكبد ووضعها بأن ربطها بالمعدة والأمعاء كلها بالعروق وبالغشاء الممدود على البطن الذي يشد جميعها ووصل بها رباطات من جميع النواحي وغشاؤها الرابط يتصل بالحجاب برباط قوي ورباط الكبد بالحجاب صلب وثيق لأن الكبد معلقة به وهو أصلب من غشاء الكبد لشدة الحاجة إلى صلابته لأنه يحرز الكبد والعرق الأجوف متى ناله آفة مات الحيوان كما تهلك أغصان الشجرة إذا أصاب ساقها آفة
فصل :وأما الطحال فبعضهم يقول إنه لا نفع فيه وإنما شغل المكان به لئلا يبقى فارغا فيميل أحد شقي البدن بثقل الكبد فجعل موازنا للكبد
قلت وهذا غلط من وجه وصواب من وجه أما الصواب فمن الحكم العجيبة جعل الطحال في الجانب الأيسر على موازنة الكبد لئلا يميل الشق الأيمن بها ولا يمكن أن تقوم المعدة بموازنة الكبد لأنها دائما تمتلئ وتخلو فتارة تكون أخف من الكبد وتارة أرجح منها فيصير البدن مترجحا أو يميل إلى شق الكبد وقتا وإلى شق المعدة وقتا آخر فجعل الخالق سبحانه الطحال يوازن الكبد وجعل المعدة بينهما في الوسط لئلا يثقل جانب ويخف جانب آخر عند امتلائها وخلوها فلما جعلت وسطا لم يختلف وضع البدن باختلافها .

وأما الغلط فقوله إنه لا منفعة فيه وإنما يشغل المكان لئلا يبقى فارغا فإنه وإن لم يعلم فيه منفعة لم يكن له أن ينفيها فإن عدم العلم بالمنفعة لا يكون علما بعدمها ولا شيء في البدن خال عن المنفعة ألبتة .
فصل :والكبد والطحال متقابلان والمعدة بينهما والعروق الضوارب تتصل بها المعدة والقلب بمنزلة التنور أو بمنزلة أتون الحمام يسخن ماءه وله إلى كل بيت منفذ ينفذ منه وهج النار إليه وكذلك الحار الغريزي الذي منبعه من القلب ينفذ في مسالك ومنافذ إلى جميع الأعضاء فيسخنها
فصل :وجعلت الأعضاء مسلكا مؤديا والمعدة هي الآلة لهضم الغذاء واستمرائه والأمعاء تؤدي ذلك إلى الكبد ولما كانت الامعاء آلة الأداء والاتصال كثرت لفائفها وطولها وكانت العروق التي تأتيها من الكبد لا تحصي كثرة لينفذ فيها الغذاء أولا فأولا وتفيضه يسيرا يسيرا فلولا تطويل لفائف الأمعاء لكان يخرج قبل اخذ خاصيته وكان يعرض إليهم بشهوة الأكل دائما وكان الإنسان يعدم التفرغ لمصالحه وسائر أعماله وكان دائما مكبا على الغذاء ولهذا صار الحيوان الذي ليس لأمعائه استدارات بل له معي واحد مستقيم مكبا على الغذاء دائما عديم الصبر عنه كالفيل وأما مالأمعائه استدارات فإنه إذا فارقه الغذاء أو بعضه في الاستدارة الأولى صادفه في الثانية فإن هو فاته في الثانية صادفه في الثالثة والرابعة والخامسة كذلك فيمكن صبره على الغذاء حكمة بالغة ولما كانت المعدة آلة هضم الغذاء والأمعاء آلة دفعه جعل للأمعاء طبقتان ليقوى دفعها بهما جميعا وليكون حرزا لها وحفظا ولذلك من تعرض له قرحة الامعاء بانجراد أحد الصفاقين يبقى الآخر سليما وجعلت الامعاء الغلاظ لقذف الثفل والرقاق لتأذية الغذاء والسبب في أن صار الإنسان لا يحتاج إلى تناول الغذاء دائما كثرة لفائف أمعائه والسبب المانع من قذف الفضول دائما سعة الأمعاء الغلاظ التي تقوم لها مقام وعاء آخر شبيه بالمعدة في السعة كما أن المثانة وعاء للبول كذلك
فصل :
المريء موضوع خلف الحلقوم ومما يلي فقار الظهر وينتهي في ذهابه إلى الحجاب وهو مشدود برباطات فإذا أبعد مال إلى الجانب الأيسر واتسع وذلك المتسع هو المعدة وأسفلها يعود مائلا إلى اليمين والمعدة مقر طبخه وفمها هو المسدف منها ويسمونه الفؤاد وهذا من غلطهم إلا أن يكون ذلك اصطلاحا خاصا منهم والفؤاد عند أهل اللغة هو القلب قال الجوهري الفؤاد القلب وقال الأصمعى وفي الجوف الفؤاد وهو القلب وقد فرق بعض أهل اللغة بين القلب والفؤاد فقال الليث القلب مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط وقالت طائفة مسدف القلب وقال النبي جاءكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة ففرق بينهما ووصف القلب بالرقة والأفئدة باللين وأما كون فم المعدة هو الفؤاد فهذا لا نعلم أحدا من أهل اللغة قاله وتأمل وصف النبي القلب بالرقة التي هي ضد القساوة والغلظة والفؤاد باللين الذي هو ضد اليبس والقسوة فإذا اجتمع لين الفؤاد إلى رقة القلب حصل من ذلك الرحمة والشفقة والاحسان ومعرفة الحق وقبوله فإن اللين موجب القبول والفهم والرقة تقتضي الرحمة والشفقة وهذا هو العلم والرحمة وبهما كمال الانسان وربنا وسع كل شيء رحمة وعلما فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول
المعدة مع المريء ذات طبقتين لطيفتين واللحم في الطبقة الداخلة أقل ولهذا يغلب عليها البياض وهي عصبية حساسة وهي في الطبقة الخارجة أكثر ولهذا يغلب عليها الحمرة وهي مربوطة مع الفقار برباطات وثيقة وتنتهي من جهة قعرها إلى منفذ هو باب المعدة وبوابها يغلق عند اشتماله على الغذاء مدة هضمه ويقال لباطن جرم المعدة خمل المعدة
والأمعاء المصارين وهو جمع مصران بضم الميم وهو جمع مصير وسمي مصيرا لمصير الغذاء إليه والسفلي يقال لها الاقتاب ومنه قوله فتندلق أقتاب بطنه والعليا أرق من السفلى لما تقدم من الحكمة
فأعلى الرقاق يسمى الاثني عشر لأن مساحته اثنا عشر إصبعا ويليه المسمى بالصائم لقلة لبث الغذاء فيه لا لأنه يوجد أبدا خاليا كما ظنه بعضهم فإن هذا باطل حسا وشرعا كما سنذكره والثالث المسمى بالرقيق واللفائف وهو أطول الأمعاء وأكثرها تلافيف ولبث الغذاء فيه أطول والعروق التي تأتيه من الكبد أقل وأما اللذان قبله فمنتصبان في طول البدن قصيران ويقل لبث الغذاء فيهما وهو في الصائم أقل لبثا وهذه الثلاثة تسمى الأمعاء العليا والأمعاء الرقاق وهي كلها في سعة البواب
وأما الدامع وهو الأول من الثلاثة السفلي فيسمى الأعور لأنه لا منفذ له بل هو كالكيس يخرج منه ما دخل من حيث دخل وحكمته سبحانه أنه يتم فيه ما يعسر هضمه من الأشياء الصلبة كما يتم ذلك في قوانص الطيور ووضعه في الجانب الأيمن
والخامس المسمى يقولون يبتدئ من الجانب الأيمن ويأخذ عرضا إلى الأيسر ويحتبس فيه الثفل وربما يستقضى ما فيه
والسادس هو الآخر وهو المعي المستقيم لأنه مستقيم الوضع في طول البدن وهو واسع جدا يجتمع فيه الثفل كما يجتمع البول في المثانة وعليه الفضلة المانعة لخروج الثفل بدون الإرادة وقد صح عن النبي أنه قال المؤمن يأكل في معنى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء فأطلق على المعدة أسم المعي تغليبا ولمشابهتها بالأمعاء لكون كل واحد من الأمعاء والمعدة محلا للغذاء وهذا لغة العرب كما يقولون القمران والعمران والركنان اليمانيان والشاميان والعراقيان ونظائر ذلك ولا سيما فإن تركيب الأمعاء كتركيب المعدة إذ هي مركبة من طبقتين لحمية خارجة وعصبية داخلة والطبقة الداخلة فيها لزوجات متصلة بها لتقيها من حر ألم البراز ورداءته كثيفة فلا تمسكه ولا يتعلق بها شيء منه ولما كان الكافر ليس في قلبه شيء من الإيمان والخير يغتذي به انصرفت قواه ونهمته كلها إلى الغذاء الحيواني البهيمي لما فقد الغذاء الروحي القلبي فتوفرت أمعاؤه وقواه على هذا الغذاء واستفرغت أمعاؤه هذا الغذاء وامتلأت به بحسب استعدادها وقبولها كما امتلأت به العروق والمعدة وأما المؤمن فإنه إنما يأكل العلفة ليتقوى بها على ما أمر به فهمته وقواه مصروفة إلى أمور وراء الأكل فغذا أكل ما يغذيه ويقيم صلبه استغنى قلبه ونفسه وروحه بالغذاء الإيماني عن الاستكثار من الغذاء الحيواني فاشتغل معاه الواحد وهو قولان بالغذاء فأمسكه حتى أخذت منه الاعضاء والقوى مقدار الحاجة فلم يحتج إلى أن يملأ أمعاءه كلها من الطعام وهذا أمر معلوم بالتجربة وإذا قويت مواد الإيمان ومعرفة الله واسمائه وصفاته ومحبته والشوق إلى لقائه في القلب استغنى بها العبد عن كثير من الغذاء ووجد لها قوة تزيد على قوة الغذاء الحيواني فإن كثف طباعك عن هذا وكنت عنه بمعزل فتأمل حال الفرح والسرور بتجدد نعمة عظيمة واستغناؤك مدة عن الطعام والشراب مع وفور قوتك وظهور الدموية على بشرتك وتغذية بالسرور والفرح ولا نسبة لذلك إلى فرح القلب ونعيمه وابتهاج الروح بقربه تعالى ومحبته ومعرفته كما قيل
( لها أحاديث من ذكراك تشغلها % عن الطعام وتلهيها عن الزاد )
وقد قال في الحديث المتفق على صحته إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني وصدق الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه فإن المقصود من الطعام والشراب التغذية الممسكة فإذا حصل له أعلى الغذاءين وأشرفهما وأنفعهما فكيف لا يغنيه عن الغذاء المشترك وإذا كنا نشاهد أن الغذاء الحيواني يغلب على الغذاء القلبي الروحي حتى يصير الحكم له ويضمحل هذا الغذاء بالكلية فكيف لا يضمحل غذاء البدن عند استيلاء غذاء القلب والروح ويصير الحكم له وقد كان يمكث الأيام لا يطعم شيئا وله قوة ثلاثين رجلا ويطوف مع ذلك على نسائه كلهن في ليلة واحدة وهن تسع نسوة وهذا المسيح بن مريم حي لم يمت وغذاؤه من جنس غذاء الملائكة وأنت تشاهد المريض يمكث الأيام العديدة لا يأكل ولا يشرب لاشتغال نفسه بمحاربة المرض ومدافعته واكتفاء الطبيعة ببقية الغذاء الذي في الأمعاء والمعدة مدة الحرب فإذا وضعت الحرب اوزارها رأيت شدة طلبه للغذاء فالخائف والمحب والفرح والحزين والمستولي عليه الفكر لا تطالبه نفسه بشيء من الغذاء كالخالي من ذلك
فصل :والكبد عضو لحمي تتخلله عروق رقاق وغلاظ وعلى الكبد غشاء عصبي حساس يحيط بها وينثني إلى غلافه والكبد هي الأصل في الغذاء وآلات الغذاء خدم لها معينات فإن الإنسان لما كان كالشجرة المستقلة جعل له ما يقوم مقام النهر الجاري في أصول الشجرة يسقيها وهو الأمعاء والمعدة بمنزلة العين وتجري منها العروق مجرى السواقي وعروق الكبد المتصلة بالامعاء بمنزلة عروق الشجرة المتصلة بأرض الساقية تمتص الماء منها وتؤديه إلى الشجرة وأغصانها وورقها وثمارها وهذه العروق تمص الماء من الطين والثرى.
فصل :والعرق الثاني ينقسم في مجذبها إلى عروق صغار وأصغر منها حتى تبلغ غاية الرقة ثم تعود وتجتمع أول فأول على قياس ما تفرق وأخذ من كثرة إلى وحدة ومن رقة إلى غلظ حتى يجتمع منها العرق الخارج من الكبد المسمى بالأجوف ومنها يتأدى الدم إلى البدن كله وحين يخرج ينقسم إلى قسمين فيأخذ أحدهما نافذا في الحجاب نحو القلب ويسمى الوتين قال أهل اللغة الوتين عرق يسقي القلب قال في الصحاح الوتين عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه وأصيب وتينه فهو موتون وقال الواحدي الوتين نياط القلب وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه وهذا قول جميع أهل اللغة وأنشدوا للشماخ.
فصل :والمرارة موضوعة على الكبد ولها مجريان أحدهما متصل بتقعير الكبد يجتذب المرة الصفراء والآخر متصل بالامعاء العليا يصب في المرة ليغسلها ويجليها ويتصل منه السر بأسفل المعدة ليمتزج بالغذاء فيكون فيه معونة على هضمه
فصل :والقوة التي وكلها الله سبحانه وتعالى بتدبير البدن من أعظم آياته الدالة عليه فانها تفعل في الطعام والشراب الواردين عليه أفعالا متنوعة من تقطيع وتفصيل وتمريخ وتحليل وتركب .
فصل :والدم هو الخليط الأصلي والغذاء الحقيقي للبدن والمخلف عليه بدل ما ينقص ويتحلل منه
وهي صنفان صنف لطيف وهو دم القلب وغليظ وهو دم الكبد ومثله مثل السلطان إذا كان وقورا حليما ساكنا عاشت به رعيته وإذا غضب واحتد قتل
فصل :وأما البلغم فخليط فج مستعد لين يستكمل نضجه عند عوز الغذاء إذ تولته الحرارة الغريزية فهضمته وصيرته دما فيكون في المعدة والأمعاء وفي الكبد عند قصور الهضم وفيه من المنفعة أنه يرطب البدن ويبل المفاصل لسلس حركاتها ويخالط الدم في تغذية الأعضاء البلغمية المزاج كالدماغ
فصل :وأما الصفراء فخليط لطيف حار وحاجة البدن إليها في أن تخالط الدم وترقه بلطفها وتنفذه في المسالك الضيقة ولتعينه في تغذية الأعضاء الحارة اليابسة وأما المرارة السوداء فخليط بارد يابس وفيه من المنافع أنه ينفذ مع الدم في العروق ليشده ويقويه ويكفيه ويمسكه ويمنعه من سهولة الحرمة عند الحاجة إلى ذلك ويعينه على تغذية الأعضاء المحتاجة أن يكون في غذائها شيء من السوداء كالعظام وما اتصل منه وما استغنى عنه يصفي إلى الطحال فيصفيه الطحال جدا ويتغذى به ثم يجلب ما يستغنى عنه الطحال إلى فم المعدة فيدغدغه بالحموضة التي فيه فتتحرك الشهوة ويحس بالجوع فتطلب الأعضاء القصوى معلومها وراتبها من الأعضاء التي تليها وتطلبه الأعضاء التي تليها من التي تجاورها وهكذا حتى ينتهي الطلب إلى المعدة
فصل :ولما اقتضت حكمة الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره حيث كان بدن الإنسان مشبها في أحواله بالمدينة أن يوجد فيه أعضاء رئيسية تقوم بمصالحها كما تقوم رؤساء المدينة بمصالحها وتكون لها بمنزلة الولاة والأمراء وأعضاء تكون خادمة لهذه الأعضاء الرئيسية
فصل :
والأعضاء الرئيسية إنما استحقت الرياسة لشرفها إذ كانت هي الأصول والمعادن والمبادئ للقوى الأولية في البدن المضطر إليها في بقاء الشخص والنوع وهي بحسب بقاء الشخص ثلاثة القلب والكبد والدماغ وبحسب بقاء النوع أربعة الثلاثة المذكورة والأنثيان
وأما القلب فهو الذي جعله الخلاق العليم قائما بأمر البدن كقيام الملك بالرعية وهو أول عضو يتحرك في البدن وآخر عضو يسكن منه وهو مبدأ جميع الخلق وما يلحلقه من صلاح أو فساد يتأذى منه إلى غيره من الأعضاء
وأما الكبد فهي العضو التي تقوم لحفظ الحياة إذ كانت هي التي تملأ الأعضاء بالغذاء ليبقى البدن محفوظا ما أمكن بقاؤه وأما الدماغ فهو العضو القائم بأمر الحس والأدراك وتكميل الحياة إذ فيه آلات الاحساس التي بها يعرف النافع من الضار الملائم من المنافر وبه صارت الحياة نافعة صالحة متجاوزة لزينة حياة النبات
وأما الانثيان فهما اللذان يقومان لحفظ بقاء النوع
فصل :وأما الأعضاء الخادمة كالرئة والشرايين الحاملة المؤدية من القلب الحرارة الغريزية والقوى والأرواح الحيوانية التي بها قوام البدن .

فهذان خادما القلب والمعدة والأوردة خادمان للكبد والأوردة تنفذ الدم الغاذي والقوي إلى جميع البدن والكبد خادمة الدماغ وكذلك الأعصاب التي بها يحصل الحس والحركة والأنثيان يخدمهما الأعضاء المؤدية للمني والمجاري المؤدية عنهما إلى مواضع التوالد

فصل :وأما الأعضاء المرءوسة بلا خدمة فهي أعضاء مختصة بقوى لها طبيعة بها يتم تدبيرها ويستقيم أمرها ولا يدفع ذلك أنه يقبض عليها من الأعضاء الرئيسية قوى تمدها بإذن الله تعالى كالأذن والعين والأنف فان كل واحد منها يقوم بأمر نفسه بما فيه من القوة الطبيعية التي أعطاها إياها الخالق سبحانه ولا يتم ذلك إلا بأن تأتيها قوة حساسة تنزل عليها من الدماغ بإذن الله تعالى
فصل : وأما الأعضاء التي ليست برئيسة ولا مرءوسة فهي التي اختصت بقوى غريزية فيها من أصل الخلقة في أول التكوين ليتم بها قوام أمرها وتدبيرها
فصل :
والذي أحصاه المشرحون من العظام في البدن مائتان وثمانية وأربعون عظما سوى الصغار السمسميات التي أحكم بها مفاصل الأصابع والتي في الحنجرة وقد أخبر النبي أن الانسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلا فإن كانت المفاصل هي العظام فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظاما صغارا لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم وإن كان المراد بالمفاصل المواضع التي تنفصل بها الأعضاء بعضها عن بعض كما قال الجوهري وغيره المفصل واحد مفاصل الأعضاء فتلك أعم من العظام فتأمله وإن السلاميات المذكورة في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقه فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة الحديث فالسلامي العظم وجمعه سلاميات فهنا ثلاثة أمور أعضاء وعظام ومفاصل وجعل الله سبحانه العظام أصلب شيء في البدن لتكون أسا وعمدة في البدن إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام حتى القلب كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وهي حاملة للأعضاء والحامل أقوى من المحمول ولتكون وقاية وجنة أيضا كالقحف فإنه وقاية الدماغ وعظام الصدر وقاية له وجعلت العظام كثيرة الفوائد ومنافع عديدة منها الحركة فإن الإنسان قد يحتاج إلى حركة بعض أجزائه دون بعض وقد يحتاج إلى حركة جزء من عضو
ومنها أنه لو كان على عظم واحد لكان إذا أراد أن يتحرك تحرك بجملته .

ومنها أنه كان يتعذر عليه الصنائع والحل والربط .

ومنها أنه إذا أصابه آفة عمت جميع البدن فجعلت العظام كثيرة ليكون متى نال بعضها آفة لم تسر إلى غيره وقام غيره من العظام مقامه في تحصيل تلك المنفعة .

ومنها تعذر المنافع التي حصلت بسبب تعدد العظام ولولا كثرتها وتعددها لفاتت تلك المنافع
ومنها أن من العظام مايحتاج البدن إلى كبيره ومنها ما يحتاج إلى صغيره ومنها ما يحتاج إلى مستطيله ومنها ما يحتاج إلى مجوفه ومنها ما يحتاج إلى محنيه ومنها ما يحتاج إلى مستقيمه ولا يحصل ذلك إلا بتعدد العظام
ومنها بديع الصنع وحسن التأليف والتركيب وغير ذلك من الفوائد .

ثم شد الخالق بعضها إلى بعض بالرباطات والأسر المحكم ثم كساها لحما حفظا لها ووقاية ثم كسى اللحم جلدا صونا له
فصل والرأس يقال بالعموم على ما يقله العنق بجملته ويقال بالخصوص على الفروة وهي جلدة الرأس حيث منبت الشعر والجمجمة العظم الذي يحوي الدماغ وهي مؤلفة من سبع قطع متقابلة تسمى القبائل وتسمى مواضع التآليف شئونا ووسط الجمجمة يسمى الهامة وحد الهامة من الجانبين قرن الرأس وحد الهامة من المقدم اليافوخ ومن المؤخر القمحدوة وهي ما يصيب الأرض من رأس المستلقي على ظهره ولها ثلاث حدود نقرة القفا والقذالان فنقرة القفا حدها من آخر الوسط والقذالان جانبا النقرة وقد تقدم تفصيل القبائل السبع .

وسنظهر الجمجمة عما يحيط بها السمحاق وسطها غشاوتان إحداهما تلي الجمجمة وهو أثخنهما وأصلبهما والآخر يكتنف الدماغ ويحيط به ويخالطه ويقال لكل منهما أم الدماغ ويسميان الأمان ومنه الآمة والمأمومة التي فيها ثلث الدية وهي الجراحة التي تبلغ أم الدماغ ويقال لها تجويف الدماغ .


وبطن وهي ثلاث بطون وبين بطني الدماغ اللذين في مؤخره ووسطه مجرى فيه قطعة من الدماغ مستطيلة شبيهة بالدودة ينسد ذلك المجرى وينفتح بها وتحت الدماغ سبلة مبسوطة مؤلفة من عروق ضوارب يتولد منها روح نفساني ينفذ إلى البطنين اللذين في مقدم الدماغ.


وفي الدماغ البركة والحوض والقمع والدودة والبطون والأغشية ومبادئ الأعصاب ويحتوي الدماغ على ثلاث خزائن نافذ بعضها إلى بعض وتسمى بطونا فالأولى في مقدمه تنقسم إلى قسمين والثانية في وسطه والثالثة في مؤخره

ولما كان الدماغ مبدأ حركات البدن إلى إرادته ولم يكن به حاجة إلى الحركة القوية فحوط عليه بسور من عظام بخلاف المعدة والكبد والرحم وسائر آلات الغذاء فإنها لما احتاجت إلى أن تتسع وتمتلئ بالغذاء فتحمل مرة بعد أخرى وأن تعصر الفضول فتخرجها والعظم يمنع من ذلك ويكتفي فيه الفصل وحده فأحيط عليه بسور من عظم
وأما الصدر فإنه لما احتاج إلى الوثاقة بالعظام وإلى الحركة بالفصل ألف الصدر منهما وكان البطن أوسع من الصدر لما يحل بها من آلات الغذاء والتنفس والطحال والمريء وغيرها

فصل فاستقبل الآن النظر في نفسك وانظر إلى المبدأ الأول وهو النطفة التي هي قطرة مهينة ضعيفة لو تركت ساعة لبطلت وفسدت كيف أخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب
وكيف جعل سبحانه النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء ثم جعلها مضغة ثم قسم أجزاء المضغة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم في داخل الرحم في الظلمات الثلاث ولو كشف لك الغطاء لرأيت التخطيط والتصوير يظهر في تلك النطفة شيئا بعد شيء من غير أن ترى المصور ولا آلته ولا قلمه فهل رأيت مصورا لا تحس آلته ولا تلاقيها .

ثم تأمل هذه القبة العظيمة التي قد ركبت على المنكبين وما أودع فيها من العجائب وما ركب فيها من الخزائن وما أودع في تلك الخزائن من المنافع وما اشتملت علي هذه القبة من العظام المختلفة الأشكال والصفات والمنافع ومن الرطوبات والأعصاب والطرق والمجاري والدماغ والمنافذ والقوى الباطنة من الذكر والفكر والتخيل وقوة الحفظ ففيه القوة المفكرة والذاكرة والمخيلة والحافظة وهذه القوى مودعة في خزانتها مسخرة لمصالحها يستعملها ويستخدمها كيف أراد .

فتأمل كيف دور سبحانه الرأس وشق سمعه وبصره وأنفه وفمه وكيف ركب كرته في بطن الأم من ثلاثة وعشرين عظما وخلق تلك العظام على كيفيات مختلفة.

وتأمل كيف انقلبت تلك النطفة اللينة الضعيفة إلى العظام الصلبة الشديدة .

ثم تأمل كيف قدر سبحانه كل واحد من تلك العظام بشكل مخصوص بحيث حصل من مجموعها ما لو كان على خلافه لبطلت المنفعة وفات الغرض ثم ركب بعضها مع بعض بحيث حصل من مجموعها كرة الرأس على هذه الخلقة المخصوصة
ولما كان الرأس أشرف الأعضاء الإنسانية وأجمعها للقوى والمنافع والآلات والخزائن اقتضت العناية الإلهية بأن صين بأنواع من الصيانات وذلك أن الدماغ يحيطه غشاء رقيق وفوق ذلك الغشاء غشاء آخر يقال له السمحاق ثم فوق ذلك الغشاء طبقة لحمية وفوق تلك الطبقة اللحمية الجلد ثم فوق الجلد الشعر فخلق سبحانه فوق دماغك سبع طبقات كما خلق فوق الأرض سبع سموات طباقا والمقصود من تخليقها الاحتياط في صون الدماغ من الآفات والدماغ من الرأس بمنزلة القلب من البدن
مسألة اختلف فيها الفقهاء هل العقل في القلب أو في الدماغ على قولين حكيا روايتين عن الإمام أحمد والتحقيق أن أصله ومادته من القلب وينتهي إلى الدماغ قال تعالى ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ) فجعل العقل في القلب كما جعل السمع بالأذن والبصر بالعين وقال تعالى ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ) قال غير واحد من السلف لمن كان له عقل
واحتج آخرون بأن الرجل يضرب في رأسه فيزول عقله ولولا أن العقل في الرأس لما زال فإن السمع والبصر لا يزولان بضرب اليد أو الرجل ولا غيرهما من الأعضاء لعدم تعلقهما بهما.
وقد جعل الله سبحانه بين السمع والبصر والفؤاد علاقة وارتباطا ونفوذا يقوم به بعضها مقام بعض ولهذا يقرن سبحانه بينهما كثيرا في كتابه كقوله ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) وقوله تعالى ( وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ) وقوله ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ) وهذا من عناية الخالق سبحانه بكمال هذه الصورة البشرية لتقوم كل حاسة منها مقام الحاسة الأخرى وتفيد فائدتها في الجملة لا في كل شيء

ثم أودع سبحانه قوة التفكر وأمره باستعمالها فيما يجدي عليه النفع في الدنيا والآخرة فركب القوة المفكرة من شيئين من الأشياء الحاضرة عند القوة الحافظة تركيبا خاصا فيتولد من بين هذين الشيئين شيء ثالث جديد لم يكن للعقل شعور به كانت مواده عنده لكن بسبب التركيب حصل له الأمر الثالث ومن ههنا حصل استخراج الصنائع والحرف والعلوم وبناء المدن والمساكن وأمور الزراعة والفلاحة وغير ذلك فلما استخرجت القوة المفكرة ذلك واستحسنته سلمته إلى القوة الإرادية العلمية فنقلته من ديوان الأذهان إلى ديوان الأعيان فكان أمرا ذهنيا ثم صار وجوديا خارجيا ولولا الفكرة لما اهتدى الإنسان إلى تحصيل المصالح ودفع المفاسد وذلك من أعظم النعم وتمام العناية الإلهيةز
فصل ثم أنزل إلى العين وتأمل عجائبها وشكلها وخلقها وإيداع النور الباصر فيها وتركيبها من عشر طبقات وثلاث رطوبات ولكل واحد من هذه
الطبقات والرطوبات شكل مخصوص ومقدار مخصوص لو لم يكن عليه لاختلت المصلحة المقصودة وجعل سبحانه موضع الابصار في قدر العدسة ثم أظهر في تلك العدسة قدر السماء والأرض والجبال والبحار والشمس والقمر فانظر كيف اتسعت تلك العدسة أن يرتسم فيها مالا نسبة لها إليه البتة وجعل تلك القوة الباصرة في جزء أسود فتأمل كيف قام الباصر بهذا الجزء الأسود .

وجعل سبحانه الحدقة مصونة بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها وجعل شعر الأجفان أسود ليكون سواده سببا لاجتماع النور الذي به الابصار ويكون مانعا من تفرقه ويكون أبلغ في الحسن والجمال
وخلق سبحانه لتحرك الحدقة أربعة وعشرين عضلة لو نقصت واحدة منهن لاختل أمر العين
ولما كانت العين شبيهة بالمرآة التي إنما ينتفع بها إذا كانت في غاية الصقالة والصفاء جعل سبحانه الأجفان متحركة إلى الانفتاح والاطباق أبدا باختيار الإنسان وغير اختياره لتبقى الحدقة نقية صافية عن جميع الكدورات.
فصل ثم اعدل إلى الأذنين وتأمل شقهما وخلقهما وإيداع الرطوبة فيهما ليكونا عونا على إدراك السمع وجعلهما مرة لتمتنع الهوام عن الدخول في الأذن وحوطهما سبحانه بصدفتين يجمعان الصوت ويؤديانه إلى الصماخ وجعل في الصدفتين تعريجات لتطول المسافة فتنكسر حدة الصوت ولا تلج الهوام دفعة بل تكثر حركاتها فينتبه لها فيخرجها وجعل العينين مقدمتين والأذنين مؤخرتين لأن العينين بمنزلة الطليعة والكاشف والرائد الذي يتقدم القوم ليكشف لهم وبمنزلة السراج الذي يضيء للسالك ما أمامه وأما الأذنان فيدركان المعاني الغائبة التي ترد على العبد من أمامه ومن خلقه وعن جانبيه فكان جعلهما في الجانبين أعدل الأمور فسبحان من بهرت حكمته العقول
فصل ثم أنزل إلى الأنف وتأمل شكله وخلقته وكيف رفعه سبحانه في وسط الوجنة بأحسن شكل وفتح فيه بابين وأودع فيهما حاسة الشم وجعله آلة لاستنشاق الهواء وإدراك الروائح على اختلافها فيستنشق بهما الهواء البارد والطيب فيستغنى بالمنخرين عن فتح الفم أبدا ولولاهما لاحتاج إلى فتح فيه دائما وجعل سبحانه تجويفه واسعا لينحصر فيه الهواء وينكسر برده قبل الوصول إلى الدماغ فإن الهواء المستنشق ينقسم قسمين شطرا منه وهو أكثره ينفذ إلى الرئة وشطرا ينفذ إلى الدماغ ولذلك يضر المزكوم استنشاق الهواء البارد وجعل في الأنف أيضا إعانة على تقطيع الحروف وجعل بين المنخرين حاجزا وذلك أبلغ في حصول المنفعة المقصودة حتى كأنهما أنفان بمنزلة العينين والأذنين واليدين والرجلين وقد يصيب أحد المنخرين آفة فيبقى الآخر سالما وجعل تجويفه نازلا إلى أسفل ليكون مصبا للفضلات النازلة
فصل وهو سبحانه جعل القلب أمير البدن ومعدنا للحرارة الغريزية فإذا استنشق الهواء البارد وصل إلى القلب واعتدلت حرارته فيبقى هناك مدة فلما سخن واحتراق واحتاج إلى إخراجه ودفعه منه لم يضيع أحكم الحاكمين ذلك النفس ويخرجه بغير فائدة بل جعل إخراجه سببا لحدوث الصوت ثم جعل سبحانه في الحنجرة واللسان والحنك باختلافهما الصوت فيحدث الحرف ثم ألهم الإنسان أن يركب ذلك الحرف إلى مثله ونظيره فيحدث الكلمة ثم ألهمه تركيب تلك الكلمة إلى مثلها فيحدث الكلام .

فتأمل هذه الحكمة الباهرة في إيصال النفس إلى القلب لحفظ حياته ثم عند الحاجة إلى إخراجه والاستغناء عنه جعله سببا لهذه المنفعة العظيمة فتبارك الله أحسن الخالقين .


وخلق سبحانه هذه المقاطع والحناجر مختلفة الأشكال فكما أنه لا تتشابه صورتان كذلك لا يتشابه صوتان من كل وجه بل كما يحصل الامتياز بين

فصل ثم أنزل إلى الصدر تر معدن العلم والحلم والوقار والسكينة والبر وأضدادها فتجد صدور العلية تعلو بالبر والخير والعلم والإحسان وصدور السفلة تغلي بالفجور والشرور والإساءة والحسد والمكر .

ثم أنفذ من ساحة الصدر إلى مشاهدة القلب تجد ملكا عظيما جالسا على سرير مملكته يأمر وينهى ويولي ويعزل وقد حف به الأمراء والوزراء والجند كلهم في خدمته إن استقام استقاموا وإن زاغ زاغوا وإن صح صحوا وإن فسد فسدوا فعليه المعول وهو محل نظر الرب تعالى ومحل معرفته ومحبته وخشيته والتوكل عليه والإنابة إليه والرضى به وعنه والعبودية عليه أولا وعلى رعيته وجنده تبعا فأشرف ما في الإنسان قلبه فهو العالم بالله الساعي إليه المحب له وهو محل الإيمان والعرفان وهو المخاطب المبعوث إليه الرسل المخصوص بأشرف العطايا من الإيمان والعقل وإنما الجوارح أتباع للقلب يستخدمها استخدام الملوك للعبيد والراعي للرعية والذي يسري إلى الجوارح من الطاعات والمعاصي إنما هي آثاره فإن أظلم أظلمت الجوارح وإن استنار استنارت

فصل وجماع الطرق والأبواب التي يصان منها القلب وجنوده أربعة فمن ضبطها وعدلها وأصلح مجاربها وصرفها في محالها اللائقة بها استفاد منها قلبه وجوارحه ولم يشمت به عدوه وهي الحرص والشهوة والغضب والحسد فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الشر والخير وكما هي طرق إلى العذاب السرمدي فهي طرق إلى النعيم الأبدي فآدم أبو البشر أخرج من الجنة بالحرص ثم أدخل إليها بالحرص ولكن فرق بين حرصه الأول وحرصه الثاني وأبو الجن أخرج منها بالحسد ثم لو يوفق لمنافسة وحسد يعيده إليها
وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته وإذا كان حرصه إنما هو على ما ينفعه وحسده منافسة في الخير وغضبه لله على أعدائه وشهوته مستعملة فيما أبيح له وعونا له على ما أمر به لم تضره هذه الأربعة بل انتفع بها أعظم الانتفاع
فصل وإذا تأملت حال القلب مع الملك والشيطان رأيت أعجب العجائب فهذا يلم به مرة وهذا يلم به مرة فإذا ألم به الملك حدث من لمته الانفساح والانشراح والنور والرحمة والاخلاص والانابة ومحبة الله وإيثاره على ما سواه وقصر الأمل والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور فلو دامت له تلك الحالة لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه ولكن تأتيه لمة الشيطان فتحدث له من الضيق والظلمة والهم والغم والخوف والسخط على المقدور والشك في الحق والحرص على الدنيا وعاجلها والغفلة عن الله ما هو من أعظم عذاب القلب .

ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله فمنهم من تكون لمة الملك أغلب من لمة الشيطان وأقوى فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب فيبادر إلى طرد تلك الملة ولا يدعها تستحكم فيصعب تداركها فهو دائما في حرب بين اللمتين يدال له مرة ويدال عليه مرة أخرى والعاقبة للتقوى

ومنهم من تكون لمة الشيطان أغلب عليه وأقوى فلا تزال تغلب لمة الملك حتى تستحكم ويصير الحكم لها فيموت القلب ولا يحس ما ناله الشيطان به مع أنه في غاية العذاب والضيق والحصر ولكن سكر الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك الألم فإذا كشف أمكنه تداركه بالدواء
فصل :والشيطان يلم بالقلب لما كان هناك من جواذب تجذبه وهي نوعان صفات وإرادات فإذا كانت الجواذب صفات قوي سلطانه هناك واستفحل أمره ووجد موطئا ومقرا فتأتي الأذكار والدعوات والتعوذات كحديث النفس لا تدفع سلطان الشيطان لأن مركبه صفة لازمة فإذا قلع العبد تلك الصفات وعمل على التطهر منها والاغتسال بقي الشيطان بالقلب خطرات ووساوس ولمات من غير استقرار وذلك يضعفه ويقوي لمة الملك فتأتي الأذكار والدعوات والتعوذات فتدفعه بأسهل شيء .

وإذا أردت لذلك مثالا مطابقا فمثله مثل كلب جائع شديد الجوع وبينك وبينه لحم أو خبز وهو يتأملك ويراك لا تقاومه وهو أقرب منك فأنت تزجره وتصيح عليه وهو يأبى إلا التحوم عليك والغارة على ما بين يديك فالأذكار بمنزلة الصياح عليه والزجر له ولكن معلومه ومراده عندك وقد قربته عليك فإذا لم يكن بين يديك شيء يصلح له وقد تأملك فرآك أقوى منه فإنك تزجره وتصيح عليه فيذهب وكذلك القلب الخالي عن قوة الشيطان ينزجر بمجرد الذكر
وأما القلب الذي فيه تلك الصفات التي هي مركبه وموطنه فيقع الذكر في حواشيه وجوانبه ولا يقوى على إخراج العدو منه

وههنا نكتة ينبغي التفطن لها وهي أن القلوب الممتلئة بالأخلاط الرديئة فالعبادات والأذكار والتعوذات أدوية لتلك الأخلاط كما يثير الدواء أخلاط البدن فإن لم يكن قبل الدواء وبعده حمية لم يزد الدواء على إثارته وإن أزال منه شيئا ما فمدار الأمر على على شيئين الحمية واستعمال الأدوية
فصل وأول ما يطرق القلب الخطرة فإن دفعها استراح مما بعدها وإن لم يدفعها قويت فصارت وسوسة فكان دفعها أصعب فإن بادر ودفعها وإلا قويت وصارت شهوة فإن عالجها وإلا صارت إرادة فإن عالجها وإلا صارت عزيمة ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها واقترن بها الفعل ولا بد وما يقدر عليه مرة بدون مقدماته وحينئذ ينتقل العلاج إلى أقوى الأدوية وهو الاستفراغ التام بالتوبة النصوح ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله إن ساعد القدر وأعان التوفيق وإن الدفع أولى به وإن تألمت النفس بمفارقة المحبوب فليوازن بين فوات هذا المحبوب الاخس المنقطع النكد المشوب بالآلام والهموم وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم












5
609

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

حكايه صبر
حكايه صبر
جزااااااك الله خير
مرة عبدالرحمن
بورك فيك أختي الغالية موضوع رائع
لا حرمك الله الأجر
][§©¤][ام عاصم][¤©§][
جزااااااك الله خير
كشرى من بلدى مصر
جزاك الله خير
fraternity88
fraternity88
جزاني الله وإياكن