fraternity88

fraternity88 @fraternity88

عضوة فعالة

من كتاب الفوائد لابن القيم رحمه الله إلى ص66

ملتقى الإيمان



الفوائد

بسم الله الرحمن الرحيم .

قال الشيخ محي الدين السنة قامع البدعة أبو عبد الله الشهير بابن قيم الجوزية رحمه الله ورضى عنه
قاعدة جليلة اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه
والق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه اليه فانه خاطب منه لك على لسان رسوله قال تعالي ان في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد وذلك ان تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد فقوله ان في ذلك لذكري اشار الى ما تقدم من أول السورة الى ههنا وهذا هو المؤثر وقوله لمن كان له قلب فهذا هو المحل القابل والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى إن هو الا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا أي حي القلب وقوله أو ألقى السمع أي وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه الى ما يقال له وهذا شرط التأثر بالكلام وقوله وهو شهيد أي شاهد القلب حاضر غير غائب قال ابن قتيبة استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه وهو اشارة الى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله فاذا حصل المؤثر وهو القرآن والمحل القابل وهو القلب الحي ووجد الشرط وهو الاصغاء وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه الي شيء آخر حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر
فصل وقد جمعت هذه السورة من أصول الايمان ما يكفي ويشفي ويغني عن
كلام أهل الكلام ومعقول أهل المعقول فانها تضمنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوة والايمان بالملائكة وانقسام الناس الى هالك شقي وفائز سعيد وأوصاف هؤلاء وهؤلاء وتضمنت اثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عما يضاد كمله من النقائص والعيوب وذكر فيها القيامتين الصغرى والكبرى والعالمين الأكبر وهو عالم الآخرة والأصغر وهو عالم الدنيا وذكر فيها خلق الانسان ووفاته واعادته وحاله عند وفاته ويوم معاده واحاطته سبحانه به من كل وجه حتى علمه بوساوس نفسه واقامة الحفظة عليه يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها وانه يوافيه يوم القيامة ومعه سائق يسوقه اليه وشاهد يشهد عليه فاذا أحضره السائق قال هذا ما لدى عتيد أي هذا الذي أمرت باحضاره قد احضرته فيقال عند احضاره القيا في جهنم كل كفار عنيد كما يحضر الجاني الي حضرة السلطان فيقال هذا فلان قد أحضرته فيقول اذهبوا به الى السجن وعاقبوه بما يستحقه

وتأمل كيف دلت السورة صريحا على أن الله سبحانه يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى فينعمه ويعذبه كما ينعم الروح التي آمنت بعينها ويعذب التي كفرت بعينها لا انه سبحانه يخلق روحا أخرى غير هذه كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل حيث زعم ان الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه عليه يقع النعيم والعذاب والروح عنده عرض من أعراض البدن فيخلق روحا غير هذه الروح وبدنا غير هذا البدن وهذا في الحقيقة انكار للمعاد وموافقة لقول من أنكره من المكذبينالذين تعجبوا من عودهم باعيانهم بعد أن مزقهم البلي وصاروا عظاما ورفاتا فتعجبوا ان يكونوا هم باعيانهم مبعوثين للجزاء ولهذا قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون وقالوا ذلك رجع بعيد ولو كان الجزاء انما هو لاجسام غير هذه ل يكن ذلك بعثا ولا رجعا بل يكون ابتداءً.
شبه المنكرين له كلها تعود الى ثلاثة أنواع أحدها اختلاط اجزائهم بأجزاء الارض علي وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص الثاني ان القدرة لا تتعلق بذلك الثالث ان ذلك أمر لا فائدة فيه أو انما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الانساني شيئا بعد شيء هكذا ابدا كلما مات جيل خلفه جيل آخر فأما ان يميت النوع الانساني كله ثم يحيه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك فجاءت براهين المعاد في القرآن مبينة على ثلاثة أصول أحدها تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم وقال وان الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ان ربك هو الخلاق العليم والثاني تقرير كمال قدرته كقوله أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم وقوله بلي قادرين على أن نسوي بنانه وقوله ذلك بأن الله هو الحق وانه يحي الموتى وانه على كل شيء قدير ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم الثالث كمال حكمته كقوله وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين وقوله وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا وقوله أيحسب الانسان أن يترك سدى وقوله أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق وقوله أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون.
ولهذا كان الصواب ان المعاد معلوم بالعقل مع الشرع وان كمال الرب تعالي وكمال اسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه وأنه منزه عما يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنقائص ثم أخبر سبحانه أن المنكرين لذلك لما كذبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم فهم في أمر مريج مختلط لا يحصلون منه على شيء ثم دعاهم الي النظر في العالم العلوي وبنائه وارتفاعه واستوائه وحسنه والتئامه ثم الى العالم السفلي وهو الارض وكيف بسطها وهيأها بالبسط لما يراد منها وثبتها بالجبال وأودع فيها المنافع وأنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه وصفاته وأن ذلك تبصرة اذا تأملها العبد المنيب وتبصر بها تذكر ما دلت عليه مما اخبرت به الرسل من التوحيد والمعاد فالناظر فيها يتبصر أولا ثم يتذكر ثانيا.
ثم قال كذلك الخروج أي مثل هذا الاخراج من الارض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب خروجكم من الارض بعد ما غيبتم فيها.
ثم انتقل سبحانه الي تقرير النبوة باحسن تقرير وأوجر لفظ وأبعده عن كل شبهه وشك فأخبر انه ارسل الى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون رسلا فكذبوهم فاهلكهم بأنواع الهلاك وصدق فيهم وعيده الذي أو عدتهم به رسله ان لم يؤمنوا وهذا تقرير لنبوتهم ولنبوة من أخبر بذلك عنهم.
ثم عاد سبحانه الي تقرير المعاد بقوله أفعيينا بالخلق الأول يقال لكل من عجز عن شيء عيى به قال ابن عباس يريد افعجزنا وكذلك قال مقاتل قلت هذا تفسير بلازم اللفظة وحقيقتها أعم من ذلك وليس المراد بالاعياء في هذه الآية التعب كما يظنه من لم يعرف تفسير القرآن بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله وما مسنا من لغوب ثم أخبر سبحانه انهم في لبس من خلق جديد أي أنهم التبس عليهم اعادة الخلق خلقا جديدا ثم نبههم على ما هو من أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيته وأدلة المعاد وهو خلق الانسان فانه من أعظم الأدلة علي التوحيد والمعاد وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدمية بأعضائها وقواها وصفاتها وما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات والعلوم والارادات والصناعات كل ذلك من نطفة ماء فلو أنصف العبد ربه لاكتفى بفكره في نفسه واستدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله واسمائه وصفاته ثم أخبر سبحانه عن احاطة علمه به حتى علم وساوس نفسه ثم أخبر عن قربه إليه بالعلم والاحاطه وان ذلك أدنى إليه من العرق الذي هو داخل بدنه فهو أقرب إليه بالقدرة عليه والعلم به من ذلك العرق وقال شيخنا المراد بقول نحن أى ملائكتنا كما قال فاذا قرأناه فاتبع قرآنه اى اذا قرأه عليك رسولنا جبريل قال ويدل عليه قوله اذ يتلقى المتلقيان فقيد القرب المذكور بتلقي الملكين ولو كان المراد به قرب الذات لم يتقيد بوقت تلقي الملكين فلا في صحبه الآية لحلولى ولا معطل ثم أخبر سبحانه أن على يمينه وشماله ملكين يكتبان أعماله وأقواله ونبه باحصاء الاقوال وكتابتها على كتابة الاعمال التي هي أقل وقوعا وأعظم أثرا من الاقوال وهي غايات الاقوال ونهايتها.
ثم أخبر عن القيامة الصغرى وهي سكرة الموت وانها تجيء بالحق وهو لقاؤه سبحانه والقدوم عليه وعرض الروح عليه والثواب والعقاب الذي تعجل لها قبل القيامة الكبرى ثم ذكر القيامة الكبرى بقول ونفخ فى الصور ذلك يوم الوعيد ثم أخبر عن أحوال الخلق فى هذا اليوم وان كل أحد يأتي الله سبحانه ذلك اليوم ومعه سائق يسوقه وشهيد يشهد عليه وهذا غير شهادة جوارحه وغير شهادة الأرض التي كان عليها له عليه وغير شهادة رسوله والمؤمنين فان الله سبحانه يستشهد على العبد الحفظة والأنبياء والأمكنة التى عملوا عليها الخير والشر والجلود التى عصوه بها ولا يحكم بينهم بمجرد علمه وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين
ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من اقرارهم وشهادة البينة لا بمجرد علمه. ثم أخبر سبحانه ان الانسان فى غفلة من هذا الشأن الذى هو حقيق بأن لا يغفل عنه وان لا يزال على ذكره وباله وقال فى غفلة من هذا ولم يقل عنه كما قال وانهم لفى شك منه مريب ولم يقل فى شك فيه.
ثم أخبر سبحانه أن قرينه وهو الذى قرن به فى الدنيا من الملائكة يكتب عمله وقوله يقول لما يحضره هذا الذى كنت وكلتنى به في الدنيا قد أحضرته وأتيتك به هذا قول مجاهد وقال ابن قتيبة المعنى هذا ما كتبته عليه وأحصيته من قوله وعمله حاضر عندى والتحقيق ان الآية نتضمن الأمرين اى هذا الشخص الذي وكلت به وهذا عمله الذي أحصيته عليه فحينئذ يقال ألقيا فى جهنم وهذا اما أن يكون خطابا للسائق والشهيد أو خطابا للملك الموكل بعذابه وان كان واحدا.
ثم ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات أحدها أنه كفار لنعم الله وحقوقه كفار بدينه وتوحيده واسمائه وصفاته كفار برسله وملائكته كفار بكتبه ولقائه الثانية انه معاند للحق بدفعه جحدا وعنادا الثالثة انه مناع للخير وهذا يعم منعه للخير الذى هو احسان الى نفسه من الطاعات والقرب الى الله والخير الذى هو احسان الى الناس فليس فيه خير لنفسه ولا لبنى جنسه كما هو الحال أكثر الخلق الرابعة أنه مع منعه للخير معتد على الناس ظلوم غشوم معتد عليهم بيده ولسانه الخامسة انه مريب أي صاحب ريب وشك ومع هذا فهو آت لكل ريبة يقال فلان مريب اذا كان صاحب ريبة السادسة انه مع ذلك مشرك بالله قد اتخذ مع الله الها آخر يعبده ويحبه ويغضب له ويرضي له ويحلف باسمه وينذر له ويوالي فيه ويعادى فيه فيختصم هو وقرينه من الشياطين ويحيل الامر عليه وانه هو الذى أطغاه وأضله فيقول قرينه لم يكن لى قوة أن أضله وأطغيه ولكن كان فى ضلال بعيد.
فيقول الرب تعالي لا تختصموا لدى وقد أخبر سبحانه عن اختصام الكفار والشياطين بين يديه فى سورة الصافات والأعراف واخبر عن اختصام الناس بين يديه فى سورة الزمر وأخبر عن اختصام أهل النار فيها فى سورة الشعراء وسورة ص ثم اخبر سبحانه انه لا يبدل القول لديه فقيل المراد بذلك قوله لاملأن جهنم من الجنة والناسأجمعين ووعده لاهل الايمان بالجنة وان هذا لا يبدل ولا يخلف قال ابن عباس يريد مالو عدي خلف لاهل طاعتى ولا أهل معصيتي قال مجاهد قد قضيت ما أنا قاض وهذا اصح القولين فى الآية وفيها قول آخر ان المعنى ما يغير القول عندى بالكذب والتلبيس كما يغير عند الملوك والحكام فيكون المراد بالقول قول المختصمين وهو اختيار الفراء وابن قتيبة قال الفراء المعني ما يكذب عندى لعلمى بالغيب وقال ابن قتيبة اى ما يحرف القول عندى ولا يزاد فيه ولا ينقص منه قال لانه قال القول عندى ولم يقل قولي وهذا كما يقال لا يكذب عندى فعلي القول الاول يكون قوله وما انا بظلام للعبيد من تمام قوله ما يبدل القول لدى أى ما قلته ووعدت به لا بد من فعله ومع هذا فهو عدل لا ظلم فيه ولا جور وعلى الثاني يكون قد وصف نفسه بأمرين أحدهما ان كمال علمه واطلاعه يمنع من تبديل القول بين يديه وترويج الباطل عليه وكمال عدله وغناه يمنع من ظلمه لعبيده ثم أخبر عن سعة جهنم وانها كلما القى فيها تقول هل من مزيد وأخطأ من قال ان ذلك للنفى اى ليس من مزيد والحديث الصحيح يرد هذا التأويل ثم أخبر عن تقريب الجنة من المتقين وان أهلها هم الذين اتصفوا بهذه الصفات الاربع أحداها ان يكون أوابا أي رجاعا الى الله من معصيته الى طاعته ومن الغفلة عنه الي ذكره الثانية ان يكون حفيظا قال ابن عباس لما ائتمنه الله عليه وافترضه وقال قتادة حافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته ولما كانت النفس لها قوتان قوة الطلب وقوة الامساك كان الأواب مستعملا لقوة الطلب فى رجوعه الى الله ومرضاته وطاعته والحفيظ مستعملا لقوة الحفظ فى الامساك عن معاصيه ونواهيه الثالثة
قوله من خشى الرحمن بالغيب يتضمن الاقرار بوجوده وربوبيته وقدرته وعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد ويتضمن الاقرار بكتبه ورسله وأمره ونهيه ويتضمن الاقرار بوعده ووعيده ولقائه فلا تصح خشية الرحمن بالغيب الا بعد هذا كله الرابعة قوله وجاء بقلب منيب قال ابن عباس راجع عن معاصى الله مقبل علي طاعة الله وحقيقة الانابة عكوف القلب علي طاعة الله ومحبته والاقبال عليه ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد.
ثم خوفهم بان يصيبهم من الهلاك ما أصاب من قبلهم وانهم كانوا أشد منهم بطشا ولم يدفع عنهم الهلاك شدة بطشهم ثم أخبر سبحانه ان فى هذا الذى ذكر ذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد ثم أخبر انه خلق السموات والارض وما بينهما فى ستة أيام ولم يمسه من تعب ولا اعياء تكذيب لاعدائه من اليهود حيث قالوا انه استراح فى اليوم السابع ثم أمر نبيه بالتأسى به سبحانه فى الصبر على ما يقول اعداؤه فيه كما انه سبحانه صبر على قول اليهود انه استراح ولا أحد أصبر علي أذى يسمعه منه ثم أمره بما يستعين به على الصبر وهو التسبيح بحمد ربه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وبالليل وأدبار السجود فقيل هو الوتر وقيل الركعتان بعد المغرب وعن ابن عباس رواية ثالثة انه التسبيح باللسان أدبار الصلاة المكتوبات ثم ختم السورة بذكر المعاد ونداء المنادى برجوع الأرواح الي أجسادها للحشر وأخبر ان هذا النداء من مكان قريب يسمعه كل أحد يوم يسمعون الصيحة بالحق بالبعث ولقاء الله يوم تشقق الارض عنهم كما تشقق عن النبات فيخرجون سراعا من غير مهلة ولا بطء ذلك حشر يسير عليه سبحانه ثم أخبر سبحانه انه عالم بما يقول اعداؤه وذلك يتضمن مجازاته لهم بقولهم وهو سبحانه يذكر علمه وقدرته لتحقيق الجزاء ثم أخبره انه ليس بمسلط عليهم ولا قهار ولم يبعث ليجبرهم على الاسلام ويكرههم عليه وأمره أن يذكر بكلامه من يخاف وعيده فهو الذي ينتفع بالتذكير وأما من لا يؤمن بلقائه ولا يخاف وعيده ولا يرجو ثوابه فلا ينتفع بالتذكير.
فائدة
قول النبى لعمر وما يدريك ان الله اطلع علي أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم أشكل علي كثير من الناس معناه فأن ظاهره إباحة كل الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاؤا منها وذلك ممتنع.
وهو للماضي وتقديره أي عمل كان لكم فقد غفرته قال ويدل على ذلك شيئان أحدهما أنه لو كان للمستقبل كان جوابه قوله فسأغفر لكم والثانى انه كان يكون اطلاقا فى الذنوب ولا وجه لذلك وحقيقة هذا الجواب اني قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم لكنه ضعيف من وجهين أحدهما ان لفظ اعملوا يأباه فانه للاستقبال دون الماضى وقوله قد غفرت لكم لا يوجب أن يكون اعملوا مثله فان قوله قد غفرت تحقيق لوقوع المغفرة فى المستقبل كقوله أتي أمر الله وجاء ربك ونظائره الثاني أن نفس الحديث يرده فان سببه قصة حاطب وتجسسه علي النبى وذلك ذنب واقع بعد غزوة بدر لا قبلها وهو سبب الحديث فهو مراد منه قطعا فالذي نظن فى ذلك والله أعلم ان هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الاسلام وانهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم لانه قد تحقق ذلك فيهم وأنهم مغفور لهم ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقا بالمغفرة فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار علي القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك الى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد وهذا محال ومن أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل اسباب المغفرة ونظير هذا قوله فى الحديث الآخر أذنب عبد ذنبا فقال أى رب أذنبت ذنبا فاغفره لى فغفر له ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال أى رب أصبت ذنبا فاغفر لى فغفر له ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال رب أصبت ذنبا فاغفره لى فقال الله علم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدى فليعمل ما شاء فليس فى هذا اطلاق واذن منه سبحانه له فى المحرمات والجرائم وانما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك اذا أذنب تاب .
واختصاص هذا العبد بهذا لانه قد علم انه لا يصر على ذنب وانه كلما أذنب تاب حكم يعم كل من كانت حاله حاله لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما قطع به لاهل بدر وكذلك كل من بشره رسول الله بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له لم يفهم منه هو ولا غيره من الصحابة اطلاق الذنوب والمعاصى له ومسامحته بترك الواجبات بل كان هؤلاء أشد اجتهادا وحذرا وخوفا بعد البشارة منهم قبلها كالعشرة المشهود لهم بالجنة وقد كان الصديق شديد الحذر والمخافة وكذلك عمر فلهم علموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها والاستمرار عليها الى الموت ومقيدة بانتقاء موانعها ولم يفهم أحد منهم من ذلك الاطلاق الاذن فيما شاؤا من الأعمال .
فائدة جليلة قوله تعالى
هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور أخبر سبحانه أنه جعل الارض ذلولا منقادة للوطء عليها وحفرها وشقها والبناء عليها ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها واخبر سبحانه انه جعلها مهادا وفراشا وبساطا وقرارا وكفاتا وأخبر أنه دحاها وطحاها واخرج منها ماءها ومرعاها وثبتها بالجبال ونهج فيها الفجاج والطرق وأجرى فيها الأنهار والعيون وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ومن بركتها ان الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها ومن بركاتها انك تودع فيها الحب فتخرجه لك أضعاف أضعاف ما كان ومن بركاتها انها تحمل الأذى علي ظهرها وتخرج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها فتواري منه كل قبيح وتخرج له كل مليح ومن بركتها أنها تستر قبائح العبد وفضلات بدنه وتواريها وتضمه وتؤويه وتخرج له طعامه وشرابه فهى أحمل شىء للأذى وأعوده بالنفع فلا كان من التراب خير منه وأبعد من الأذى وأقرب الى الخير والمقصود انه سبحانه جعل لنا الارض كالجمل الذلول الذي كيفما يقاد ينقاد وحسن التعبير بمناكبها عن طرقها وفجاجها لما تقدم من وصفها بكونها ذلولا فالماشي عليها يطأ علي مناكبها وهو أعلى شيء فيها ولهذا فسرت المناكب بالجبل كمناكب الانسان وهي أعاليه قالوا وذلك تنبيه علي أن المشي في سهولها أيسر وقالت طائفة بل المناكب الجوانب والنواحي ومنه مناكب الانسان لجوانبه والذي يظهر ان المراد بالمناكب الأعالي وهذا الوجه الذي يمشي عليه الحيوان هو العالي من الارض دون الوجه المقابل له فان سطح الكره أعلاها والمشي انما يقع في سطحها وحسن التعبير عنه بالمناكب لما تقدم من وصفها بأنها ذلول ثم أمرهم أن يأكلوا من رزقه الذي أودعه فيها فذللها لهم ووطأها وفتق فيها السبل والطرق التي يمشون فيها وأودعها رزقهم فذكر تهيئة المسكن للانتفاع والتقلب فيه بالذهاب والمجيء والأكل مما أودع فيها للساكن ثم نبه بقوله وإليه النشور على انا في هذا المسكن غير مستوطنين ولا مقيمين بل دخلناه عابري سبيل فلا يحسن ان نتخذه وطنا ومستقرا وإنما دخلناه لنتزود منه الى دار القرار فهو منزل عبور لا مستقر حبور ومعبر وممر لا وطن ومستقر فتضمنت الآية الدلالة على ربوبيته ووحدانيته وقدرته وحكمته ولطفه والتذكير بنعمه واحسانه والتحذير من الركون الى الدنيا واتخاذها وطنا ومستقرا بل نسرع فيها السير الى داره وجنته فالله في ما ضمن هذه الآية من معرفته وتوحيده والتذكير بنعمه والحث على السير اليه والاستعداد للقائه والقدوم عليه والاعلام بأنه سبحانه يطوي هذه الدار كأن لم تكن وانه يحي أهلها بعد ما أماتهم واليه النشور.
للانسان قوتان قوة علمية نظرية وقوة عملية ارادية وسعادتهالتامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية الارادية واستكمال القوة العلمية انما يكون بمعرفةفاطره وبارئه ومعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة الطريق التي توصل اليه ومعرفة آفاتها ومعرفة نفسه ومعرفة عيوبها فبهذه المعارف الخمسة يحصل كمال قوته العلمية وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم فيها استكمال القوة العلمية الارادية لا تحصل الا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد والقيام بها اخلاصا وصدقا ونصحا واحسانا ومتابعة وشهودا لمنته عليه وتقصيره هو في أداء حقه فهو مستحي من مواجهته بتلك الخدمة لعلمه انها دون ما يستحقه عليه ودون دون ذلك وانه لا سبيل له إلى استكمال هاتين القوتين الا بمعونته فهو مضطر الى ان يهديه الصراط المستقيم الذي هدى اليه أولياءه وخاصته وان يجنبه الخروج عن ذلك الصراط.

فكمال الانسان وسعادته لا تتم الا بمجموع هذه الأمور وقد تضمنتها سورة الفاتحة وأنتظمتها أكمل انتظام فان قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين يتضمن الاصل الاول وهو معرفة الرب تعالى ومعرفة اسمائه وصفاته وأفعاله والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الاسماء الحسنى وهي اسم الله والرب والرحمن فأسم الله متضمن لصفات الألوهية واسم الرب متضمن الربوبية واسم الرحمن متضمن لصفات الاحسان والجود والبر ومعاني أسمائه تدور لى هذا وقوله إياك نعبد وإياك نستعين يتضمن معرفة الطريق الموصلة اليه وانها ليست الا عبادته وحده بما يحبه ويرضاه واستعانته على عبادته وقوله إهدنا الصراط المستقيم يتضمن بيان ان العبد لا سبيل له الى سعادته الا باستقامته على الصراط المستقيم وانه لا سبيل له الي الاستقامة الا بهداية ربه له كما لا سبيل له الى عبادته بمعونته فلا سبيل له الي الاستقامة علي الصراط الا بهدايته وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين يتضمن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم وان الانحراف الى احد الطرفين انحراف الي الضلال الذي هو فساد العلم والاعتقاد والانحراف الى الطرف الآخر انحراف الي الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل.
فائدة الرب تعالى يدعو عباده في القرآن الي معرفته من طريقين احدهما
النظر في مفعولاته والثاني التفكر في آياته وتدبرها فتلك آياته المشهودة وهذه آياته المسموعة المعقولة فالنوع الأول كقوله ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الي آخرها وقوله إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب وهو كثير في القرآن والثاني كقوله أفلا يتدبرون القرآن وقوله أفلم يدبروا القول وقوله كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وهو كثير أيضا
فائدة في المسند وصحيح أبي الحاتم من حديث عبد الله بن مسعود قال
قال رسول الله ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال اللهم اني عبدك وابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ان تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي الا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال بلى ينبغي لمن سمعهن ان يتعلمهن فتضمن هذا الحديث العظيم أمورا من المعرفة والتوحيد والعبودية منها ان الداعي به صدر سؤاله بقوله اني عبدك ابن عبدك ابن أمتك وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمهاته الى ابويه آدم وحواء وفي ذلك تملق له واستخذا بين يديه واعتراف بانه مملوكه وآباؤه مماليكه وان العبد ليس له غير باب سيده وفضله واحسانه وان سيده ان اهمله وتخلى عنه هلك فتحت هذا الاعتراف اني لا غنى بي عنك طرفة عين وليس لى من أعوذ به وألوذ به غير سيدي الذي انا عبده وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبر مأمور منهى انما يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه.
وفي التحقيق بمعنى قوله اني عبدك التزام عبوديته من الذل والخضوع والانابة وامتثال امر سيده واجتناب نهيه ودوام الافتقار اليه واللجأ اليه والاستعانة به والتوكل عليه وعياذ العبد به ولياذه به وان لم لا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفا ورجاء وفيه أيضا أني عبد من جميع الوجوه صغيرا وكبيرا حيا وميتا ومطيعا وعاصيا معافى ومبتلي بالروح والقلب واللسان والجوارح وفي ايضا ان مالي ونفسي ملك لك فان العبد وما يملك لسيده وفيه ايضا انك أنت الذي مننت علي بكل مل انا فيه من نعمة فذلك كله من انعامك على عبدك وفيه ايضا اني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي الا بأمرك كما لا يتصرف العبد الا باذن سيده واني لا املك لنفسي ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فان صح له شهود ذلك فقد قال اني عبدك حقيقة ثم قال ناصيتي بيدك أي انت المتصرف في تصرفي كيف تشاء لست انا المتصرف في نفسي وكيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله اليه سبحانه ليس الى العبد منه شيء بل هو في قبضة سيده اضعف من مملوك ضعيف حقير. ومتى شهد العبد ان ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ولم يرجهم ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين المتصرف فيهم سواهم والمدبر لهم غيرهم فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره وضرورته الى ربه وصفا لازما له ولذا قال هود لقومه اني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم وقوله ماض في حكمك عدل في قضاؤك تضمن هذا الكلام أمرين أحدهما مضاء حكمه في عبده والثاني يتضمن حمده وعدله وهو سبحانه له الملك وله الحمد وهذا معنى قول نبيه هود ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها ثم قال ان ربي على صراط مستقيم أي مع كونه مالكا قاهرا متصرفا في عباده نواصيهم بيده فهو على صراط مستقيم وهو العدل الذي يتصرف به فيهم فهو على صراط مستقيم.
قوله ماض فى حكمك عدل فى قضاؤك رد على الطائفتين القدرية الذين ينكرون عموم أقضية الله فى عبده ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره ويردون القضاء الى الأمر والنهى وعلى الجبرية الذين يقولون كل مقدور عدل فلا يبقى لقوله عدل فى قضاؤك فائدة فان العدل عندهم كل ما يمكن فعله والظلم هو المحال لذاته.
فائدة أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتا وقدرا
وأوسعها عرش الرحمن جل جلاله ولذلك صلح لاستوائه عليه وكل ما كان أقرب الى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان وأشرفها وأنورها وأجلها لقربها من العرش اذ هو سقفها وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير وخلق الله القلوب وجعلها محلا لمعرفته ومحبته وارادته فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبته وارادته قال تعالى للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم وقال تعالى وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم وقال تعالى ليس كمثله شيء فهذا من المثل الأعلى وهو مستو علي قلب المؤمن فهو عرشه وان لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث لم يصلح لاستواء المثل الأعلي عليه معرفة ومحبة وارادة فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وارادتها والتعلق بها فضاق وأظلم وبعد من كماله وفلاحه حتي تعود القلوب علي قلبين قلب هو عرش الرحمن ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم .
فائدة قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده وهذا كما انه
في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والارادات فاذا كان القلب ممتلئا بالباطل اعتقادا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع كما ان اللسان اذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه الا اذا فزع لسانه من النطق بالباطل وكذلك الجوارح اذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة الا اذا فرغها من ضدها فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وارادته والشوق إليه والأنس به إلا يمكن شغله بمحبة الله واردته وحبه والشوق الى لقائه لا بتفريغه من تعلقه بغيره ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته الا اذا فرغها من ذكر غيره وخدمته فاذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبقى فيها موضع للشغل بالله ومعرفة اسمائه وصفاته وأحكامه وسر ذلك ان اصغاء القلب كاصغاء الأذن فاذا صغى الى غير حديث الله لم يبق فيه اصغاء ولا فهم لحديثه كما اذا مال الى غير محبة الله لم يبق فيه ميل الى محبته فاذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان ولهذا في الصحيح عن النبي انه قال لان يمتلىء جوف احدكم قيحا حتي يريه خير له من أن يمتلىء شعرا .
فائدة قوله تعالى ألهاكم التكاثر الى آخرها أخلصت هذه السورة للوعد
الوعيد والتهديد وكفى بها موعظة لمن عقلها فقوله تعالى ألهاكم أي شغلكم على وجه لا تعتذرون فيه فان الالهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه فان كان بقصد فهو محل التكليف وان كان بغير قصد كقوله في الخميصة انها ألهتني آنفا عن صلاتي كان صاحبه معذورا وهو نوع من النسيان وفي الحديث فلها عن الصبي أي ذهل عنه ويقال لها بالشيء أي اشتغل به ولها عنه اذا انصرف عنه واللهو للقلب واللعب للجوارح ولهذا يجمع بينهما ولهذا كان قوله ألهاكم التكاثر ابلغ في الذم من شغلكم فان العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاه به فاللهو هو ذهول واعراض والتكاثر تفاعل من الكثرة أي مكاثرة بعضكم لبعض واعرض عن ذكر المتكاثر به ارادة لاطلاقه وعمومه وان كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذا التكاثر فالتكاثر في كل شيء من مال او جاه او رياسة او نسوة او حديث او علم ولا سيما اذا لم يحتج اليه والتكاثر فى الكتب والتصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها والتكاثر ان يطلب الرجل ان يكون اكثر من غيره وهذا مذموم الا فيما يقرب الى الله فالتكاثر فيه منافسة فى الخيرات ومسابقة اليها وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير انه انتهى الي النبي وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال يقول ابن آدم مالى وهل لك من مالك الا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فافنيت او لبست فابليت.
تنبيه:
من لم ينتفع بعينه لم ينتفع باذنه للعبد ستر بينه وبين الله وستر بينه وبين الناس فمن هتك الستر الذى بينه وبين الله حقك الله الستد الذي بينه وبين الناس للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه فينبغى له ان يسترضى ربه قبل لقائه ويعمر بيته قبل انتقاله اليه اضاعة الوقت اشد من الموت لان اضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا واهلها الدنيا من أولها الى آخرها لا تساوى غم ساعة فكيف بغم العمر أعظم الربح في الدنيا ان تشغل نفسك كل وقت بما هو أولي بها وأنفع لها فى معادها كيف يكون عاقلا من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين بكاؤه على نفسه وثناؤه على ربه المخلوق اذا خفته استوحشت منه وهربت منه والرب تعالى اذا خفته أنست به وقربت اليه لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب ولو نفع العمل بلا اخلاص لما ذم المنافقين دافع الخطرة فان لم تفعل صارت فكرة فدافع الفكرة فان لم تفعل صارت شهوة فحاربها فان لم تفعل صارت عزيمة وهمة فان لم تدافعها صارت فعلا فان لم تتداركه بضده صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها التقوي ثلاث مراتب احداها حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات الثانية حميتها عن المكروهات الثالثة الحميه عن الفضول وما لا يعنى فالاولى تعطى العبد حياته والثانية تفيده صحته وقوته والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.
اذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستة مشاهد أحدها مشهد التوحيد وان الله هو الذى قدره وشاءه وخلقه وما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن الثاني مشهد العدل وانه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه الثالث مشهد الرحمة وان رحمته فى هذا المقدور غالبه لغضبه وانتقامه ورحمته حشوة الرابع مشهد الحكمة وان حكمته سبحانه اقتضت ذلك لم يقدره سدى ولا قضاه عبثا الخامس مشهد الحمد وان له سبحانه الحمد التام علي ذلك من جميع وجوهه السادس مشهد العبودية وانه عبد محض من كل وجه تجرى عليه أحكام سيده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه.
من نتائج المعصية والغفلة عن ذكر الله: قلة التوفيق وفساد الرأى وخفاء الحق وفساد القلب وخمول الذكر واضاعة الوقت ونفره الخلق والوحشة بين العبد وبين ربه ومنع اجابة الدعاء وقسوة القلب ومحق البركة فى الرزق والعمر وحرمان العلم ولباس الذل واهانة العدو وضيق الصدر والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت وطول الهم والغم وضنك المعيشة وكسف البال تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء والاحراق عن النار وأضداد هذه تتولد عن الطاعة .
فصل طوبى لمن أنصف ربه فاقر له بالجهل فى علمه والآفات فى عمله
والعيوب فى نفسه والتفريط فى حقه والظلم فى معاملته فان آخذه بذنوبه رأى عدله وان لم يؤاخذه بها رأي فضله وان عمل حسنة رآها من منته وصدقته عليه فان قبلها فمنه وصدقة ثانية وان ردها فلكون مثلها لا يصلح ان يواجه به وان عمل سيئة رآها من تخليه عنه وخذلانه له وامساك عصمته عنه وذلك من عدله فيه فيرى فى ذلك فقره الى ربه وظلمه فى نفسه فان غفرها له فبمحض احسانه وجوده وكرمه.
فائدة الغيرة غيرتان غيرة على الشيء وغيرة من الشيء فالغيرة على
المحبوب حرصك عليه والغيرة من المكروه ان يزاحمك عليه فالغيرة على المحبوب لا تتم الا بالغيرة من المزاحم وهذه تحمد حيث يكون المحبوب تقبح المشاركة في حبه كالمخلوق واما من تحسن المشاركة في حبه كالرسول والعالم بل الحبيب القريب سبحانه فلا يتصور غيرة المزاحمة عليه بل هو حسد والغيرة المحمودة في حقه أن يغار المحب على محبته له ان يصرفها الى غيره أو يغار عليها ان يطلع عليها الغير فيفسدها عليه أو يغار على أعماله ان يكون فيها شيء لغير محبوبة أو يغار عليها ان يشوبها ما يكره محبوبه من رياء أو إعجاب او محبة لاشراف غيره عليها أو غيبته عن شهود منته عليه فيها
وبالجملة فغيرته تقتضي ان تكون أحواله وأعماله وأفعاله كلها لله وكذلك يغار علي أوقاته أن يذهب منها وقت في غير رضى محبوبة فهذه الغيرة من جهة العبد وهي غيرة من المزاحم له المعوق القاطع له عن مرضاة محبوبة وأما غيرة محبوبه عليه فهي كراهية ان ينصرف قلبه عن محبته الى محبة غيره بحيث يشاركه في حبه ولهذا كانت غيرة الله ان يأتي العبد ماحرم عليه ولاجل غيرته سبحانه حرم الفاحشة ما ظهر منها وما بطن لأن الخلق عبيده واماؤه فهو يغار علي امائه كما يغار السيد على جواريه ولله المثل الأعلي ويغار علي عبيده ان تكون محبتهم لغيره بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور ونيل الفاحشة منها .

من عظم وقار الله في قلبه ان يعصيه وقره الله في قلوب الخلق ان يذلوه اذا علقت شروش المعرفة في ارض القلب نبتت فيه شجرة المحبة فاذا تمكنت وقويت أثمرت الطاعة فلا تزال الشجرة تؤتي أكلها كل حين باذن الله ربه. أرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرس فيها فان غرست شجرة الايمان والتقوى أورثت حلاوة الابد وان غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر من ارجع الى الله واطلبه من عينك وسمعك وقلبك ولسانك ولا تشرد عنه من هذه الأربعة فما رجع من رجع اليه بتوفيقه الا منها وما شرد من شرد عنه بخذلانه الا منها فالموفق يسمع ويبصر ويتكلم ويبطش بمولاه والمخذول يصدر ذلك عنه بنفسه وهواه.
فصل اياك والمعاصي فانها ازالت عز :إسجدوا وأخرجت اقطاع اسكن . ما جرى على آدم هو المراد من وجوده لو لم تذنبوا يا آدم لا تجزع من قولي لك اخرج منها فلك ولصالح ذريتك خلفتها يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك علي الملوك واليوم تدخل علي دخول العبيد علي الملوك يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك فقد استخرج منك داء العجب والبست خلعة العبودية وعسى أن تكرهوا يا آدم لم أخرج اقطاعك الي غيرك انما نحيتك عنه لا كمل عمارته لك وليبعث الي العمال نفقة تتجافى جنوبهم تالله ما نفعه عند معصيته عز
اسجدوا ولا شرف وعلم آدم ولا خصيصة لما خلقت بيدي ولا فخر ونفخت فيه من روحي وانما انتفع بذل ربنا ظلمنا أنفسنا لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر .
5
2K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

مرة عبدالرحمن
يَعْطيكـِ العَآفيَة وجزاك الله خير
دمتي بحفظ الرحمن..
ام عبدالرحمن ونوره
جزاك الله خيرا ..
fraternity88
fraternity88
فصل: نجائب النجاة مهيّأة للمراد, وأقدام المطرود موثوقة بالقيود.هبّت عواصف الأقدار في بيداء الأكوان, فتقلب الوجود ونجم الخير, فلما ركدت الريح إذا أبو طالب غريق في لجة الهلاك, وسلمان على ساحل السلامة.والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه, وصهيب قد قدم بقافلة الروم, والنجاشي في أرض الحبشة يقول: لبيك اللهم لبيك, وبلال ينادي: الصلاة خير من النوم وأبو جهل في رقدة المخالفة.لما قضى في القدم بسابقة سلمان عرج به دليل التوفيق عن طريق آبائه في التمجس (المجوسية), فأقبل يناظر أباه في دين الشرك, فلما علاه بالحجة لم يكن له جواب إلا القيد. وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم حرفوه, وبه أجاب فرعون موسى:{ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي } وبه أجاب الجهمية: الإمام أحمد لما عرضوه على السياط. وبه أجاب أهل البدع شيخ الإسلام حين استودعوه السجن –وها نحن على الأثر- فنزل به ضيف { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } جزء من الآية . فنال بإكرامه مرتبة "سلمان منا أهل البيت".

- فلما لقي الرسول عارض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافقه. يا محمد أنت تريد أبا طالب ونحن نريد سلمان, أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال عبد مناف, وإذا انتسب افتخر بالآباء, وإذا ذكرت الأموال عدّ الإبل. وسلمان إذا سئل عن اسمه قال: عبد الله, وعن نسبه قال: ابن الإسلام, وعن ماله قال: الفقر, وعن حانوته قال المسجد, وعن كسبه قال الصبر, وعن لباسه قال: التقوى والواضع, وعن وساده قال السهر, وعن فخره قال: "سلمان منا" وعن قصده قال:{ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وعن سيره قال إلى الجنة, وعن دليله في الطريق قال: إمام الخلق وهادي الأئمة.

*الذنوب جراحات, ورب جرح وقع في مقتل.*لو خرج عقلك من سلطان هواك, عادت الدولة له. .*إذا عرضت نظرة لا تحل فاعلم أنها مسعر حرب, فاستتر منها بحجاب: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ...} فقد سلمت من الأثر: { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال }.

مخنث العزم أين أنت, والطريق طريق تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمي في النار الخليل, وأضجع للذبح إسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين, ونشر بالمنشار زكريا, وذبح السيد الحصور يحيى, وقاسى الضر أيوب, وزاد على المقدار بكاء داود, وسار مع الوحش عيسى, وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم تزها أنت باللهو واللعب.

قيل لبعض العباد: إلى كم تتعب نفسك!! فقال راحتها أريد. يا مكرما بحلة

من فقد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف. ومن وجده بين الناس ووجده في الخلوة فهو معلول. ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود. ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله. ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها. ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم. زمن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه, وفي أي شيء استعمله كان مزيده في خلوته ومع الناس. فأشرف الأحوال أن لا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه, فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه.

- كان ذو البجادين يتيما في الصغر, فكفله عمه, فنازعته نفسه إلى اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم, فهم بالنهوض, فإذا بقية المرض مانعة فقعد ينتظر العم, فلما تكاملت صحته, نفذ الصبرفقال يا عم طال انتظاري لإسلامك وما أرى منك نشاطا. فقال والله لئن أسلمت لننزعن كل ما أعطيتك. فصاح لسان الشرق: نظرة من محمد صلى الله عليه وسلم أحب إلي من الدنيا وما فيها.
فلما تجرد للسير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جرده عمه من الثياب, فناولته الأم بجادا, فقطعه لسفر الوصل نصفين, اتّزر بأحدهما, وارتدى الآخر, فلما نادى صائح الجهاد قنع أن يكون في ساقه الأحباب, والمحب لا يرى طول الطريق. فلما قضى نحبه نزل الرسول صلى الله عليه وسلم يمهد له لحده وجعل يقول:" اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه" فصاح ابن مسعود يا ليتني كنت صاحب القبر.

*تزخرفت الشهوات لأعين الطباع, فغض عنها الذين يؤمنون بالغيب, ووقع تابعوها في بيداء الحسرات, ف: { أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهؤلاء يقال لهم:{ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} .

فصل:من أعجب الأشياء أ، تعرفه ثم لا تحبه, وأن تسمع داعيه, ثم تتأخر عن الإجابة. وأن تعرف قدر الربح في معاملته, ثم تعامل غيره. وأن تعرف قدر غضبه, ثم تتعرّض له. وأن تذوق ألم الوحشة ثم لا تطلب الأنس بطاعته وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه, ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته. وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره, ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه, والإنابة إليه. وأعجب من هذا علمك أن لا بد لك منه, وأنك أحوج شيء إليه, وأنت عنه معرض.

فائدة:ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما: سوء ظنه بربه, وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيرا منه حلال, والثانية: أن يكون عالما بذلك, وأن من ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه ،لكن تغلب شهوته صبره, وهواه عقله. فالأول من ضعف علمه, والثاني من ضعف عقله وبصيرته.

فصل: لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها, وخداع الأمل لأربابه, وتملك الشيطان قياد النفوس, ورأوا الدولة للنفس الأمارة, لجأوا إلى حصن التضرّع والالتجاء, كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده.

*لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة التهما, واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما, وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ, عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم, وظلمة في قلوبهم, وكدر في أفهامهم, ومحق في عقولهم. وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم, حتى ربي فيها الصغير, وهرم عليها الكبير, فلم يروها منكرا. فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن, والنفس مقام العقل, والهوى مقام الرشد, والضلال مقام الهدى, والمنكر مقام المعروف, والجهل مقام العلم, والرياء مقام الإخلاص, والباطل مقام الإخلاص, والباطل مقام الحق, والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقابل النصيحة, والظلم مقام العدل. فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور, وأهلها هم المشار إليهم وكانت قبل ذلك لأضدادها وكان أهلها هم المشار إليهم
فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت, وراياتها قد نصبت, وجيوشها قد ركبت, فبطن الأرض والله خير من ظهرها, وقلل الجبال خير مكن السهول, ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس.

*اشتر نفسك اليوم, فإن السوق قائمة, والثمن موجود, والبضائع رخيصة, وسيأتي على تلك السوق والبضايع يوم لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير: { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْه} .
*إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

*إذا خرجت من عدوك لفظة سفه, فلا تلحقها بمثلها تلقّحها, ونسل الخصام نسل مذموم. حميتك لنفسك أثر الجهل بها, فلو عرفتها حق معرفتها أعنت الخصم عليها. إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح.
*كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا, فإن الوليد يتبع الأم. الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها, فكيف تعدو خلفها؟. الدنيا مجاز والآخرة وطن, والأوطار إنما تطلب في الأوطان.
*الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت, فهذا مضرّته أرجح من منفعته, وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت. ثانيهما: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر, فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها, ولكن فيها ثلاث آفات: الأولى: تزين بعضهم لبعض. الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.

*قاعدة: ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير, بل لا يؤثر سبب البتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره. هذا في الأسباب المشهودة بالعيان, وفي الأسباب الغائبة و الأسباب المعنوية كتأثير الشمس في الحيوان والنبات فإنه موقوف على أسباب أخر, من وجود محل قابل, ,أسباب أخر تنضم إلى ذلك السبب. وكذلك حصول الولد موقوف على عدة أسباب غير وطء الفحل, وكذلك جميع الأسباب مع مسبباتها, فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثيره على غيره إلا الله الواحد القهّار, فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره. وهذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل.

*التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه: فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}. وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها. ولذلك فزع إليه يونس, فنجّاه الله من تلك الظلمات. وفزع إليه أتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة. ولما فزع إليه فرعون, عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق, لم ينفعه, اقرأ الآية رقم 90- من سورة يونس, لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل. هذه سنة الله في عباده. مما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد. ولذلك كان دعاء الكرب* بالتوحيد ودعوة ذي النون* التي ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله كربه بالتوحيد.

(فائدة):اللذة تابعة للمحبة, تقوى بقوتها وتضعف بضعفها, فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق إليه أقوى كانت اللذة بالوصول إليه أتم والمحبة والشوق تابع لمعرفته والعلم به, فكلما كان العلم به أتم كانت محبته أكمل, فإذا رجع كمال النعيم في الآخرة وكمال اللذة إلى العلم والحب, فمن كان يؤمن بالله وأسمائه وصفاته ودينه أعرف, كان له أحب, وكانت لذته بالوصول إليه ومجاورته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه أتم.

(قاعدة): طالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين. حبس قلبه في طلبه ومطلوبه, وحبسه عن الالتفات إلى غيره. وحبس لسانه عما لا يفيده, وحبسه على ذكر الله وما يزيد في إيمانه ومعرفته. وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات, وحبسها على الواجبات والمندوبات, فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن إلى أوسع فضاه وأطيبه. ومتى لم يصبر على هذين الحبسين وفر منهما إلى فضاء الشهوات أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا, فكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وإما ذاهب إلى الحبس. وبالله التوفيق.
ودّع ابن عون رجلا فقال: عليك بتقوى الله, فإن المتقى ليست عليه وحشة. وقال زيد بن أسلم: كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. وقال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس, وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئا. وقال سليمان بن داود: أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا, وعلّمنا مما علّم الناس ومما لم يعلموا, فلم نجد شيئا أفضل من تقوى الله في السر والعلانية, والعدل في الغضب والرضا, والقصد في الفقر والغنى. وفي الزهد للإمام أحمد أثر إلهي: " ما من مخلوق اعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات والأرض دونه, فإن سألني لم أعطه, وإن دعاني لم أجبه, وإن استغفرني لم أغفر له. وما من مخلوق اعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات والأرض رزقه, فإن سألني أعطيته, وإن دعاني أجبته, وإن استغفرني غفرت له"

(فائدة جليلة): جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق, لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه, وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. فتقوى الله توجب له محبة الله, وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
فائدة جليلة: بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تقطع بخطوتين: خطوة عن نفسه, وخطوة عن الخلق, فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس, ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله, فلا يلتفت إلا إلى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة إليه.
*صاح بالصحابة واعظ:{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُم} فجزعت للخوف قلوبهم, فجرت من الحذر العيون {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}.

(قاعدة): لشهادة أن لا اله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها, لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها, قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة, وانقادت بعد إبائها واستعصائها وأقبلت بعد إعراضها وذلت بعد عزها, وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها, واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته, وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه, فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها, واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه, فوجه العبد وجهه بكليته إليه, وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه. فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا, واستوى سره وعلانيته فقال: "لا إله إلا الله" مخلصا من قلبه. وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه. قد خرجت الدنيا كلها من قلبه. قد خرجت الدنيا كلها من قلبه, وشارف القدوم على ربه, وخمدت نيران شهوته, وامتلاء قلبه من الآخرة, فصارت نصب عينيه, وصارت الدنيا وراء ظهره, فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله, فطهّرته من ذنوبه, وأدخلته على ربه, لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة, وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها, فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها, وفر إلى الله من الناس, وأنس به دون ما سواه, لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها, ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله. فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي والله المستعان.

*فرغ خاطرك للهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك, فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان. فما دام الأجل باقيا, كان الرزق آتيا وإذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه, فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه. فتأمّل حال الجنين يأتيه غذاؤه, وهو الدم, من طريق واحدة وهو السرّة (الحبل السرّي), فلما خرج من بطن الأم, وانقطعت تلك الطريق, فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول, لبنا خالصا سائغا. فإذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقا أربع أكمل منها: طعامان وشرابان, فالطعامان من الحيوان والنبات, والشرابان من المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ. فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة. لكنه سبحانه فتح له إن كان سعيدا طرقا ثمانية, وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء.

* دخل الناس النار من ثلاث أبواب: باب شبهة أورثت شكا في دين الله. وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته. وباب غضب أورث العدوان على خلقه.

* أصول الخطايا كلها ثلاث: الكبر: وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره. والحرص: وهو الذي أخرج آدم من الجنة. والحسد: وهو الذي جرّأ أحد ابني آدم على أخيه. فمن وقي شر هذه الثلاثة فقد وقى الشر. فالكفر من الكبر, والمعاصي من الحرص, والبغي والظلم من الحسد.

فصل : جمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". بين مصالح الدنيا والآخرة, ونعيمها ولذاتها إنما ينال بتقوى الله. وراحة القلب والبدن, وترك الاهتمام والحرص الشديد والتعب والعناد والكد والشقاء في طلب الدنيا, إنما ينال بالإجمال في الطلب, فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة ونعيمها, ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها, فالله المستعان.

(فائدة): جمع النبي صلى الله عليه وسلم في بين المأثم والمغرم, فإن المأثم يوجب خسارة الآخرة, والمغرم يوجب خسارة الدنيا.

(فائدة): قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }. علق سبحانه الهداية بالجهاد, فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا, وأفرض الجهاد جهاد النفس, وجهاد الهوى, وجهاد الشيطان, وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته, ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد. قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص, ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا, فمن نصر عليها نصر على عدوه, ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه.

فصل
ألقى الله سبحانه العداوة بين الشيطان وبين الملك, والعداوة بين العقل وبين الهوى, والعداوة بين النفس الأمارة وبين القلب. وابتلى العبد بذلك وجمع له بين هؤلاء, وأمد كل حزب بجنود وأعوان, فلا تزال الحرب سجالا ودولا بين الفريقين, إلى أن يستولي أحدهما على الآخر, ويكون الآخر مقهورا معه. فإذا كانت التوبة للقلب والعقل والملك فهنالك السرور والنعيم واللذة والبهجة والفرح قرة العين وطيب الحياة وانشراح الصدر والفوز بالغنائم. وإذا كانت النوبة للنفس والهوى والشيطان فهنالك الغموم والهموم والأحزان وأنواع المكاره.

*أعلى الهمم في طلب العلم, طلب علم الكتاب والسنة, والفهم عن الله ورسوله نفس المراد, وعلم حدود المنزل. وأخّس همم طلاب العلم, قصر همته على تتبع شواذ المسائل, وما لم ينزل, ولا هو واقع, أو كانت همته معرفة الاختلاف, وتتبع أقوال الناس, وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال. وقلّ أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه.
* وأعلى الهمم في باب الإرادة أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله والوقوف مع مراده الديني الأمري. وأسفلها أن تكون الهمة واقفة مع مراد صاحبها من الله, فهو إنما يعبد لمراده منه لا لمراد الله منه, فالأول يريد الله ويريد مراده, والثاني: يريد من الله وهو فارغ عن إرادته.
*علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم, فكلما قالت أقوالهم للناس: هلمّوا: قالت أفعالهم:لا تسمعوا منهم. فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له, فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطّاع طرق.

فصل: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصر العدو دخل في حصر النصر, فبعثت أيدي سراياه بالنصر في الأطراف, فطار ذكره في الآفاق, فصار الخلق معه ثلاثة أقسام:
مؤمن به, ومسالم له, وخائف منه. ألقى بذر الصبر في مزرعة:{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}. فدخل مكة دخولا ما دخله أحدا قبله ولا بعده, حوله المهاجرون والأنصار لا يبين منهم إلا الحدق. والصحابة على مراتبهم, والملائكة فوق رؤوسهم, وجبريل يتردد بينه وبين ربه, وقد أباح له حرمه الذي لم يحله لأحد سواه, فلما قايس بين هذا اليوم وبين يوم:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوك}, فأخرجوه ثاني اثنين.
دخل وذقنه تمس قربوس سرجه خضوعا وذلا لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رؤوسها ومدت إليه الملوك أعناقها. فدخل مكة مؤيدا منصورا. وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة, فنشر بزا طوى عن القوم من يوم قوله:" أحد أحد". ورفع صوته بالأذان, فأجابته القبائل من كل ناحية, فأقبلوا يؤمون الصوت, فدخلوا في دين الله أفواجا وكانوا قبل ذلك يأتون آحادا. فلما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم على منبر العز, وما نزل عنه قط, مدت الملوك أعناقها بالخضوع إليه. فمنهم من سلم إليه مفاتيح البلاد, ومنهم من سأله الموادعة والصلح, ومنهم من أقر بالجزية والصغار. ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب, ولم يدر أنه لم يزد على جمع الغنائم وسوق الأسارى إليه. فلما تكامل نصره وبلّغ الرسالة وأدى الأمانة وجاءه منشور: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً}.
يا مغرور بالأماني لعن إبليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أمر بها, وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها, وحجب القاتل بعد أن رآها عيانا بملء كف من آدم, وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل, وأمر بإيساع الظهر سياطا بكلمة قذف أو بقطرة من مسكر, وأبان عضوا من أعضائك بثلاثة دراهم (قطع يد السارق إذا سرق ما مقداره ثلاثة دراهم), فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيك:{ وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} الشمس 15. "دخلت امرأة النار في هرة" "وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب", "وإن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة, فإذا كان عند الموت جار في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخل النار". العمر بآخره والعمل بخاتمته.

*فصل: كان أول المخلوقات القلم, ليكتب المقادير قبل كونها, وجعل آدم آخر المخلوقات وفي ذلك حكم. الأولى: تمهيد الأرض قبل الساكن. الثانية: أنه الغاية التي خلق لأجلها ما سواه من السماوات والأرض والشمس والقمر والبر والبحر. الثالثة: أنه أحذق الصنّاع يختم عمله بأحسنه وغايته كما يبدؤه بأساسه ومبادئه. الرابعة: أن النفوس متطلعة إلى النهايات والأواخر دائما, ولهذا قال موسى عليه السلام للسحرة: أولا{أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}، الخامسة: أن الله سبحانه أخّر أفضل الرسل والأنبياء والأمم إلى آخر الزمان وجعل الآخرة خيرا من الأولى, والنهايات أكمل من البدايات, فكم بين قول الملك للرسول اقرأ, فيقول: ما أنا بقارىء, وبين قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. السادسة: أنه سبحانه جمع ما فرقه في العالم في آدم, فهو العالم الصغير وفيه ما في العالم الكبير. السابعة: أنه خلاصة الوجود وثمرته, فناسب أن يكون خلقه بعد الموجودات. الثامنة: أن من كراماته على خالقه أنه هيأ له مصالحه وحوائجه وآلات معيشته وأسباب حياته, فما رفع رأسه إلا وذلك كله حاضر عتيد. التاسعة: أنه سبحانه أراد أن يظهر شرفه وفضله على سائر المخلوقات فقدمها عليه في الخلق, ولهذا قالت الملائكة: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا. فلما خلق آدم وأمرهم بالسجود له ظهر فضله وشرفه عليهم بالعلم والمعرفة, فلما وقع في الذنب ظنت الملائكة أن ذلك الفضل قد نسخ ولم تطلع على عبودية التوبة الكامنة, فلما تاب إلى ربه, وأتى بتلك العبودية, علمت الملائكة أن لله في خلقه سرا لا يعلمه سواه.العاشرة: أنه سبحانه لما افتتح خلق هذا العالم بالقلم كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان, فإن القلم آلة العلم, والإنسان هو العالم.

*لما تم كمال آدم قيل: لا بد من خال جمال على وجه {اسْجُدُوا}, فجرى القدر بالذنب, ليتبين أثر العبودية في الذل.يا آدم! لو عفى لك عن تلك اللقمة لقال الحاسدون: كيف فضل ذو شره لم يصبر على شجرة. لولا نزولك ما تصاعدت صعداء الأنفاس, ولا نزلت رسائل "هل من سائل" *ولعلّه يقصد حديث:" ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا.." ولا فاحت روائح "ولخلوف فم الصائم", فتبين حينئذ أن ذلك التناول لم يكن عن شره.يا آدم, ضحكك في الجنة لك, وبكاؤك في دار التكليف لنا.ما ضر من كسره عزي, إذا جبره فضلي إنما تليق خلعة العز ببدن الانكسار. أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي. ما زالت تلك الأكلة تعاده حتى استولى داؤه على أولاده, فأرسل إليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي أطباء الوجود:{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}. فحماهم الطبيب بالمناهي, وحفظ القوة بالأمر, واستفرغ أخلاطهم الرديئة بالتوبة, فجاءت العافية من كل ناحية.

*لو ساعد القدر فأعنت الطبيب على نفسك بالحمية من شهوة خسيسة ظفرت بأنواع اللذات وأصناف المشتهيات. ولكن بخار الشهوة غطى عين البصيرة, فظننت أن الحزم بيع الوعد بالنقد. يا لها بصيرة عمياء, جزعت من صبر ساعة, واحتملت ذل الأبد. سافرت في طلب الدنيا وهي عنها زائلة, وقعدت عن السفر إلى الآخرة وهي إليها راحلة.إذا رأيت الرجل الخسيس بالنفيس ويبيع العظيم بالحقير, فاعلم بأنه سفيه.
لما سلم آدم أصل العبودية لم يقدح فيه الذنب:" ابن آدم, لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا, لقيتك بقرابها مغفرة" لما علم السيد أن ذنب عبده لم يكن قصدا لمخالفته ولا قدحا في حكمته, علمه كيف يعتذر إليه: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْه }.

* ليس العجب من قوله يحبونه, إنما العجب من قوله يحبهم.
ليس العجب من فقير مسكين يحب محسنا إليه, إنما العجب من محسن يحب فقيرا مسكينا.

القرآن كلام الله, وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته, فتارة يتجلى في جلباب (ليس على ظاهره, وإنما المراد بالجلباب الهيئة والصورة والصفة) الهيبة والعظمة والجلال, فتخضع الأعناق, وتنكسر النفوس, وتخشع الأصوات, ويذوب الكبر, كما يذوب الملح في الماء, وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال, وهو كمال الأسماء, وجمال الصفات, وجمال الأفعال الدال على كمال الذات, فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها, بحسب ما عرفه من صفات جماله, ونعوت كماله, فيصبح فؤاد عبده فارغا إلا من محبته, فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء , وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع, انبعثت منها قوة الامتثال, والتنفيذ لأوامره, والتبليغ لها, والتواصي بها, وذكرها وتذكرها, والتصديق بالخبر, والامتثال للطلب, والاجتناب للنهي.وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم, انبعثت من العبد قوة الحياء, فيستحي ربه أن يراه على ما يكره, أو يسمع منه ما يكره, أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه, فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع, وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب, والقيام بمصالح العباد, وسوق أرزاقهم إليهم, ودفع المصائب عنهم, ونصره لأوليائه, وحمايته لهم, ومعيته الخاصة لهم, انبعثت من العبد قوة التوكل عليه, والتفويض إليه, والرضا به في كل ما يجريه على عبده, ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه. وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء, أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته, والانكسار لعزته, والخضوع لكبريائه, وخشوع القلب والجوارح له, فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته, ويذهب طيشه وقوته وحدته.
وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارّة, وبصفات ربوبيته تارة, فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة, والشوق إلى لقائه, والأنس والفرح به, والسرور بخدمته, والمنافسة في قربه, والتودد إليه بطاعته, واللهج بذكره, والفرار من الخلق إليه, ويصير هو وحده همه دون ما سواه. ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه, والافتقار إليه, والاستعانة به, والذل والخضوع والانكسار له.وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته, وإلهيته في ربوبيته, وحمده في ملكه, وعزه في عفوه وحكمته في قضائه وقدره, ونعمته في بلائه, وعطاءه في منعه, وبره ولطفه وإحسانه ورحمته في قيوميّته, وعدل في انتقامه, وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه. ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه, وعزه في رضاه وغضبه, وحلمه في إمهاله, وكرمه في إقباله, وغناه في إعراضه.
وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف, وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين, أشهدك ملكا قيوما فوق سماواته على عرشه, يدبر أمر عباده, يأمر وينهي, ويرسل الرسل, وينزل الكتب, ويرضى ويغضب, ويثيب ويعاقب, ويعطي ويمنع, ويعز ويذل, ويخفض ويرفع, ويرى من فوق سبع ويسمع, ويعلم السر والعلانية, فعّال لما يريد, موصوف بكل كمال, منزه عن كل عيب, لا تتحرك ذرّة فما فوقها إلا بإذنه, ولا تسقط ورقة إلا بعلمه, ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه, ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع.

فصل
لما بايع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل العقبة أمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة, فعلمت قريش أن أصحابه قد كثروا وأنهم سيمنعونه,فأعملت آراءها في استخراج الحيل, فمنهم من رأى الحبس, ومنهم من رأى النفي. ثم اجتمع رأيهم على القتل, فجاء البريد بالخبر من السماء وأمره أن يفارق المضجع, فبات علي مكانه ونهض الصديّق لرفقة السفر. فلما فارقا بيوت مكة اشتد الحذر بالصدّيق فجعل يذكر الرصد فيسير أمامه وتارة يذكر الطلب فيتأخر وراءه, وتارة عن يمينه وتارة عن شماله إلى أن انتهيا إلى الغار, فبدأ الصدّيق بدخوله ليكون وقاية له إن كان ثم مؤذ. وأنبت الله شجرة لم تكن قبل, فأظلّت المطلوب وأضلّت الطالب, وجاءت عنكبوت فحازت وجه الغار فحاكت ثوب نسجها على منوال الستر, فأحكمت الشقة حتى عمي على القائف المطلب, وأرسل الله حمامتين فاتخذتا هناك عشا فلما وقف القوم على رؤوسهم وصار كلامهم بسمع الرسول صلى الله عليه وسلم والصدّيق, قال الصدّيق وقد اشتد به القلق: يا رسول الله, لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنه قد اشتد, لكن لا على نفسه, قوي قلبه ببشارة {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
*هذا الصديق:فضائله جلية وهي خليّة عن اللبس. يا عجبا! من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار, لقد دخلا غارا لا يسكنه لابث, فاستوحش الصديق من خوف الحوادث, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:" ما ظنّك باثنين والله الثالث". فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث.فزال القلق وطاب عيش الماكث. فقام مؤذن النصر ينادي على رؤوس منائر الأمصار: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار}.حبه والله رأس الحنيفية, وبغضه يدل على خبث الطوية. فهو خير الصحابة والقرابة, والحجة على ذلك قوية. لولا صحة إمامته ما قال ابن الحنفية.مهلا مهلا !! فإن دم الروافض قد فار.
والله ما أحببناه لهوانا, ولا نعتقد في غيره هوانا, ولكن أخذنا بقول علي رضي الله عنه: "كفانا رضيك رسول الله لديننا, أفلا نرضاك لدنيانا تالله لقد أخذت من الروافض بالثأر"

*يا من هو من أرباب الخبرة, هل عرفت قيمة نفسك؟ إنما خلقت الأكوان كلها لك.
يا من غذى بلبان البر, وقلب بأيدي الألطاف, كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة, وصورة وأنت المعنى, وصدف وأنت الدر, ومخيض وأنت الزبد.منشور اختيارنا لك واضح الخط, ولكن استخراجك ضعيف.متى رمت طلبي فاطلبني عندك, اطلبني منك تجدني قريبا, ولا تطلبني من غيرك فأنا أقرب إليك منه.لو عرفت قدر نفسك عندنا ما أهنتها بالمعاصي, إنما أبعدنا إبليس إذ لم يسجد لك, وأنت في صلب أبيك, فواعجبا كيف صالحته وتركتنا! لو كان في قلبك محبة لبان أثرها على جسدك.

*اعرف قدر ما ضاع منك وابك بكاء من يدري مقدار الفائت. لو تخيلت قرب الأحباب لأقمت المأتم على بعدك. من استطال الطريق ضعف مشيه.

*أعلى الهمم همة من استعد صاحبها للقاء الحبيب, قدم التقادم بين يدي الملتقى, فاستبشر بالرضا عند القدوم:{ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُم}. الجنة ترضى منك بأداء الفرائض, والنار تندفع عنك بترك المعاصي, والمحبة لا تقنع منك إلا ببذل الروح.لله!! ما أحلى زمان تسعى فيه أقدام الطاعة على أرض الاشتياق.لما سلم القوم النفوس إلى رائض الشرع, علمها الوفاق على خلاف الطبع فاستقامت مع الطاعة, كيف دارت معها.

*قوله تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} . هذا من ألطف خطاب القرآن وأشرف معانيه,و ان المؤمن دائما مع الله على نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه. وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه, فهو مع الله على عدوه الداخل فيه والخارج عنه, بحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه. كما يكون خواص الملك معه على حرب أعدائه, والبعيدون منه فارغون من ذلك, غير مهتمين به,والكافر مع وشيطانه نفسه وهواه على ربه. وعبارات السلف على هذا تدور.ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: عونا للشيطان على ربه بالعداوة والشرك.وقال الليث عن مجاهد قال: يظاهر الشيطان على معصية الله يعينه عليها
وقال زيد بن أسلم: ظهيرا أي مواليا ذكره والمعنى أنه يوالي عدوه على معصيته والشرك به, فيكون مع عدوه معينا له على مساخط ربه.
فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه, ولهذا صدّر الآية بقوله:{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ }, وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة, فظاهروا أعداء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه, بخلاف وليه سبحانه, فإنه معه على نفسه وشيطانه وهواه. وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله, وبالله التوفيق.

*أصول المعاصي كلها, كبارها وصغارها, ثلاثة: تعلق القلب بغير الله, وطاعة القوة الغضبية, والقوة الشهوانية, وهي الشرك والظلم والفواحش. فغاية التعلق بغير الله شرك وأن يدعى معه إله آخر. وغاية طاعة القوة الغضبية القتل. وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا. ولهذا جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله:{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } وهذه الثلاثة يدعو بعضها إلى بعض, فالشرك يدعو إلى الظلم والفواحش, كما أن الإخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه, قال تعالى:{ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }.

فائدة: هجر القرآن أنواعأحدهما: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه, وإن قرأه وآمن به.والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين,, وأن أدلته لفظية لا تحصّل العلم.والرابع: هجر تدبّره وتفهّمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي في جميع أمراض القلوب وأدوائها, فيطلب شفاء دائه من غيره, ويهجر التداوي به, وكل هذا داخل في قوله :{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }. وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.وكذلك الحرج الذي في الصدر منه.فإنه تارة يكون حرجا من إنزاله وكونه حقا من عند الله.وتارة يكون من جهة التكلم به, أو كونه مخلوقا من بعض مخلوقاته ألهم غيره أن تكلم به.وتارة يكون من جهة كفايتها وعدمها وأنه لا يكفي العباد, بل هم محتاجون معه إلى المعقولات والأقيسة, أو الآراء أو السياسات.
وتارة يكون من جهة دلالته, وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب, أو أريد بها تأويلها, وإخراجها عن حقائقها إلى تأويلات مستكرهة مشتركة.وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق وإن كانت مرادة, فهي ثابتة في نفس الأمر, أو أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة.فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن, وهم يعلمون ذلك من نفوسهم ويجدونه في صدورهم. ولا تجد مبتدعا في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته. كما أنك لا تجد ظالما فاجرا إلا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته.فتدبّر هذا المعنى ثم ارض لنفسك بما تشاء.

فائدة:كمال النفس المطلوب كمال النفس المطلوب ما تضمن أمرين:أحدهما: أن يصير هيئة راسخة وصفة لازمة لها.الثاني: أن يكون صفة كمال في نفسه. فإذا لم يكن كذلك لم يكن كمالا, فلا يليق بمن يسعى في كمال نفسه المنافسة عليه, ولا الأسف على فوته, وذلك ليس إلا معرفة بارئها وفاطرها ومعبودها وإلهها الحق الذي لا صلاح لها ولا نعيم ولا لذة إلا بمعرفته, وإرادة وجهه, وسلوك الطريق الموصلة إليه, وإلى رضاه وكرامته. وأن تعتاد ذلك فيصير لها هيئة راسخة لازمة.

(فائدة جليلة)
إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها, وحمل عنه كل ما أهمه, وفرغ قلبه لمحبته, ولسانه لذكره, وجوارحه لطاعته. وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها! ووكله إلى نفسه, فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق, ولسانه عن ذكره بذكرهم, وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم, فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره, كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره. فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بل بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }

(فائدة)
العلم والعمل وما هما العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس.والعمل: نقل صورة علمية من النفس وإثباتها في الخارج. فإن كان الثابت في النفس مطلقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح. وكثيرا ما يثبت ويتراءى في النفس صورة ليس لها وجود حقيقي, فيظنها الذي قد أثبتها في نفسه علما, وإنما هي مقدرة لا حقيقة لها. وأكثر علوم الناس من هذا الباب. وما كان منها مطابقا للحقيقة في الخارج فهو نوعان: نوع تكمل النفس بإدراكه والعلم به, وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وكتبه وأمره ونهيه. ونوع لا يحصل للنفس به كمال, وهو كل علم لا يضر الجهل به فإنه لا ينفع العلم به.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع.

*قاعدة: الإيمان له ظاهر وباطن, وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح. وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته. فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذريّة, ولا يجزىء باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذّر بعجز أو إكراه أو خوف هلاك. فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوّه من الإيمان, ونقصه دليل نقصه, وقوته دليل قوته. فالإيمان قلب الإسلام ولبه واليقين قلب الإيمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول, وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول.

(قاعدة): التوكل على الله نوعان أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية, أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية. والثاني: التوكل على الله في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه. وبين النوعين من الفضل مالا يحصيه إلا الله.

والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء, بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وزرا إلا التوكل, كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه, وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة. وتارة يكون توكل اختيار, وذلك التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد, فإن كان السبب مأمور به ذم على تركه. وإن قام بالسبب, وترك التوكل, ذم على تركه أيضا, فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن, والواجب القيام بهما, والجمع بينهما.

(فائدة): شكوى الجاهل من الله
الجاهل يشكو الله إلى الناس, وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه, فإنه لو عرف ربه لما شكاه, ولو عرف الناس لما شكا إليهم. ورأى بعض السلف رجلا يشكو إلى رجل فاقته وضرورته, فقال: يا هذا, والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.
والعارف إنما يشكو إلى الله وحده. وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس, فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه, فهو ناظر إلى قوله تعالى:{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وقوله:{ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ }.
. فالمراتب ثلاثة: أخسها أن تشكو الله إلى خلقه, وأعلاها أن تشكو نفسك إليه, وأوسطها أن تشكو خلقه إليه.
fraternity88
fraternity88
(قاعدة جليلة):قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}, فتضمنت هذه الآية أمورا, أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله, فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا, وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم, فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة, فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة, وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
قال مجاهد: {لِمَا يُحْيِيكُمْ } يعني للحق, وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي: هو الإسلام أحياهم به بعد موتهم بالكفر. وقال ابن إسحاق وعروة بن الزبير: واللفظ له:{ لِمَا يُحْيِيكُمْ } يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل, وقوّاكم بعد الضعف, ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم.. وكل هذه عبارات عن حقيقة واحدة وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا. قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله:{ لِمَا يُحْيِيكُمْ } هو الجهاد. قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم يريد إنما يقوي بالحرب والجهاد, فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم. قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة. أما في الدنيا فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد. وأما في البرزخ فقد قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. وأما في الآخرة فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم. ولهذا قال تبن قتيبة: {لما يحييكم} يعني الشهادة. وقال بعض المفسرين: { لما يحييكم} يعني الجنة. فإنها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمة الطيبة. حكاه أبو علي الجرجاني. والآية تتناول هذا كله, فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة. وكمال الحياة في الجنة, والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة, فهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة. والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضرّه. وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغي والرشاد والهوى والضلال, فيختار الحق على ضده. فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال. وتفيد قوة الإيمان والإرادة والحب للحق, وقوة البغض والكراهة للباطل.
الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك, الذي هو رسول الله (الملك الذي ينفخ الروح في الإنسان بأمر الله), من روحه, فيصير حيا بذلك النفخ. وكان قبل ذلك من جملة الأموات. وكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقى إليه, قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال :{ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}
فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان. ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين وفاتته الأخرى, قال تعالى:{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا }, فجمع له بين النور والحياة كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة. قال ابن عباس وجميع المفسرين: كان كافرا ضالا فهديناه.
وقوله:{ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } يتضمن أمورا: أحدها: أنه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة, فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل فضلوا ولم يهتدوا للطريق. وآخر معه نور يمشي في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها. وثانيها: أنه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم إلى النور. وثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم.
وقوله:{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. المشهور في الآية أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر, وبين الكافر وبين الإيمان. ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته, وبين أهل معصيته وبين طاعته, وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين. وفي الآية قول آخر أن المعنى أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية, فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحدي عن قتادة, وكان هذا أنسب بالسياق, لأن الاستجابة أصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب, فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه.
قوله:{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }.وقوله:{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ }. ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب وان استجاب بالجوارح. وفي الآية سر آخر: وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به, وهو الاستجابة, وبين القدر والإيمان به, فهي كقوله تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقوله:{ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}والله أعلم.
(فائدة جليلة):قوله تعالى:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}, وقوله عزّ وجلّ:{ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}. فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية, والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية. فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه, وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده, ويحب الموادعة والمتاركة, وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده. وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه. ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله في إمساكها شر كثير لا يعرفه. فالإنسان كما وصفه به خالقه ظلوم جهول, فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضرّه وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه, بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه. فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه, وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه, فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكره يكون خيرا له, وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له. فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها, كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها.
والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين, فإنه طيب النفس بما يجري عليها من المقادير التي هي عين اختيار الله له, وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية, وهذا هو الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا. وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك. وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره, فكلما كان بذلك كان به أرضى. فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة, لا يخرج عن ذلك البتة كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " اللهم إني عبدك, ابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض فيّ حكمك, عدل في قضاؤك, أسألك بكل اسم هو لك, سميت به نفسك, أو أنزلته في كتابك, أو علّمته أحدا من خلقك, أو استأثرت به في علم الغيب عندك, أن تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني, وذهاب همي وغمي, ما قالها أحد قط إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرجا". قالوا: أفلا نتعلمهن يا رسول الله؟ قال: " بلى ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن".
والمقصود قوله "عدل فيّ قضاؤك", وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم وسبب ذلك, فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبب وهو عدل في هذا القضاء. وهذا القضاء خير للمؤمن كم قال صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له, وليس ذلك إلا للمؤمن". قال العلامة ابن القيم: فسألت شيخنا "الإمام الجليل ابن تيمية" هل يدخل في ذلك قضاء الذنب؟ فقال: نعم بشرطه , فأجمل في لفظة "بشرطه" ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك.

(فائدة): لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا, ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخسّتها, وألم المزاحمة عليها والحرص عليها, وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد, وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف, فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها, وهم في حال الظفر بها, وغم وحزن بعد فواتها. فهذا أحد النظرين.
(النظر الثاني) في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد, ودوامها وبقائها, وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما ها هنا فهي كما قال سبحانه:{ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }. فهي خيرات كاملة دائمة, وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة. فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره, وزهد فيما يقتضي الزهد فيه. فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة, إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له, وإما لعدم رغبته في الأفضل.
وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة. فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها إما أن يصدّق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى, وإما أن لا يصدّق, فإن لم يصدق بذلك كان عادما للإيمان رأسا, وإن صدّق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه. وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه. فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد الإيمان, وإما من فساد العقل. وما أكثر ما يكون منهما. ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم, وأطرحوها ولم يألفوها, وهجروها ولم يميلوا إليها, وعدّوها سجنا لا جنّة. فزهدوا فيها حقيقة الزهد, ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولوصلوا منها إلى كل مرغوب. فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردّها, وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها, وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر. وقال تعالى:{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}. وقال تعالى:{ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}.
وقد توعّد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه, فقال:{ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }. وعيّر سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين, فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ }. وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة, ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى:{ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } . والله المستعان وعليه التكلان.

(قاعدة):أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن. فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه, فتشكره عليها, وتتضرّع إليه أن لا يقطعها عنك, وأن السيئات من خذلانه وعقوبته, فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها, ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك. وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد, وكل شر فأصله خذلانه لعبده, وأجمعوا أن التوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك, وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك, فإذا كان كل خير فأصله التوفيق, وهو بيد الله لا بيد العبد, فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة إليه. فمتى أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له, ومتى أضلّه عن المفتاح بقي باب الخير مرتجا دونه.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لا أحمل هم الإجابة, ولكن هم الدعاء, فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه. وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته. فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم, والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك, فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين, يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به, والخذلان في مواضعه اللائقة به وهو العليم الحكيم, وما أتي من أتي إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء, ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء. وملاك ذلك الصبر فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد, فإذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد.
*قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام والمخالطة.
* من وطّن قلبه عند ربه, سكن واستراح, ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق. لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة. إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته, واستخلصه لعبادته, فشغل همه به, ولسانه بذكره, وجوارحه بخدمته. القلب يمرض كما يمرض البدن, وشفاؤه في التوبة والحمية, ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر, ويعرى كما يعرى الجسم, وزينته التقوى, ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن, وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة. إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلا ولأيامك وأنفاسك أمدا ومن كل سواه بد ولا بد لك منه.

* الرضا سكون القلب تحت مجاري الأحكام. الناس في الدنيا معذّبون على قدر هممهم بها. للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة, وثلاثة عالية. فالسافلة: دنيا تتزين له, ونفس تحدثه, وعدو يوسوس له. فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها. والثلاثة العالية: علم يتبين له, وعقل يرشده, وإله يعبده. والقلوب جوّالة في هذه المواطن. إتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد, فإن اتّباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصدا, وطول الأمل ينسي الآخرة, ويصد عن الاستعداد لها. لا يشم عبد رائحة الصدق ويداهن نفسه, أو يداهن غيره.

(فائدة جليلة):كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها, فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه, في خبره وإلزامه, لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس, ولا سيما أهل الرئاسة. والذين يتبعون الشهوات فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا, فإذا كان العالم والحاكم محبين للرئاسة, متبعين للشهوات, لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما بضاده من الحق, ولا سيما إذا قامت له شبهة, فتتفق الشبهة والشهوة, ويثور الهوى, فيخفى الصواب, وينطمس وجه الحق. وإن كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبهة فيه, أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج من التوبة. وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَات}. وقال تعالى فيهم أيضا:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}. فأخبر سبحانه أنهم أخذوا الغرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا, وان عرض لهم عرض آخر أخذوه فهم مصرون على ذلك, وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق, فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك, أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه؟ فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون, وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه, وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا, فلا يحملهم حب الرئاسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة. وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة, ويستعينوا بالصبر والصلاة, ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها, والآخرة وإقبالها ودوامها, وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل فيجتمع لهم الأمران, فإن اتّباع الهوى يعمى عين القلب, فلا يميز بين السنة والبدعة, أو ينكسه فيرى البدعة سنة, والسنة بدعة. فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا, واتبعوا الرئاسات والشهوات. وهذه الآيات فيهم إلي قوله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخلاف علمه.
وتأمّل ما تضمنته هذه الآية من ذمه, وذلك من وجوه: أحدها: أنه ضل بعد العلم, واختار الكفر على الإيمان عمدا لا جهلا. وثانيها: أنه فارق الإيمان مفارقة من لا يعود إليه أبدا, فإنه انسلخ من الآيات بالجملة, كما تنسلخ الحية من قشرها, ولو بقي معه منها شيء, لم ينسلخ منها. وثالثها: أن الشيطان أدركه ولحقه, بحيث ظفر به وافترسه, ولهذا قال: { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَان}, ولم يقل تبعه, فإن معنى أتبعه أدركه ولحقه, وهو أبلغ من تبعه لفظا ومعنى. ورابعها: أنه غوي بعد الرشد. والغي: الضلال في العلم والقصد, وهو أخص بفساد القصد والعمل كما أن الضلال أخص بفساد العلم والاعتقاد. فإذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر, وإن اقترنا فالفرق ما ذكر. وخامسها: أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه, لأنه لم يرفع به فصار وبالا عليه, فلو لم يكن عالما لكان خيرا له وأخف لعذابه. وسادسها: أنه سبحانه أخبر عن خسة همته, وأن اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى. وسابعها: أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس, ولكنه كان عن إخلاد إلى الأرض, وميل بكليّته إلى ما هناك, وأصل الإخلاد اللزوم على الدوام كأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض,وعبّر عن ميله إلى الدنيا بإخلاده إلى الأرض, لأن الدنيا هي الأرض وما فيها وما يستخرج منها من الزينة والمتاع. وثامنها: أنه رغب عن هداه, واتبع هواه, فجعل هواه إماما له, يقتدي به ويتبعه. وتاسعها: أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات همة, وأسقطها نفسا, وأبخلها وأشدها كلبا, ولهذا سمي كلبا. وعاشرها: أنه شبه لهثه على الدنيا, وعدم صبره عنها, وجزعه لفقدها, وحرصه على تحصيلها, بلهث الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد, وهكذا. قال ابن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب في حال الكلال (الأكل), وحال الراحة, وحال الري, وحال العطش, فضربه الله مثلا لهذا الكافر فقال: إن وعظته فهو ضال, وإن تركته فهو ضال, وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث, وإن تركته على حاله لهث. وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب, وإنما وقع بالكلب اللاهث, وذلك أخس ما يكون وأشنعه.

فصل:فهذا حال العالم المؤثر الدنيا على الآخرة, وأما العابد الجاهل فآفته من إعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله وذوقه ووجده وما تهواه نفسه. ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره: احذروا فتنة العالم الفاجر, وفتنة العابد الجاهل, فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون, فهذا بجهله يصد عن العلم وموجبه, وذاك بغيّه يدعو إلى الفجور.

(فائدة عظيمة):أفضل ما اكتسبته النفوس, وحصلته القلوب, ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة, هو العلم والإيمان, ولهذا قرن الله سبحانه بينهما في قوله: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ }. وقوله:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}, وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه, والمؤهلون للمراتب العالية.
*العلم وراء الكلام كما قال حمّاد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدّم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر والعلم فيما تقدم أكثر!
ففرق هذا الراسخ بين العلم والكلام. فالكتب كثيرة جدا والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة, والعلم بمعزل عن أكثرها, وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه:{ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ..}, وقال:{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ..}, وقال في القرآن:{ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ }, أي وفيه علمه ولما بعد العهد بهذا العلم آل الأمر بكثير من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار وسوانح الخواطر والآراء علما, ووضعوا فيها الكتب, وأنفقوا فيها الأنفاس, فضيعوا فيها الزمان, وملأوا بها الصحف مدادا, والقلوب سوادا, حتى صرح كثير من الناس منهم أنه ليس في القرآن والسنة علم, وأن أدلتهما لفظية لا تفيد يقينا ولا علما. قال ابن القيم: وقال لي بعض أئمة هؤلاء: إنما نسمع الحديث لأجل البركة لا لنستفيد. قال: وقال لي شيخنا مرة في وصف هؤلاء: أنهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس الطلب, ويكفيك دليلا على أن هذا هو الذي عندهم ليس من عند الله, ما ترى فيه من التناقض والاختلاف ومصادمة بعضه لبعض, قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.

وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه غير علوم هؤلاء المختلفين الخرّاصين كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري, قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم, ليس بينهم رأي ولا قياس. ولقد أحسن القائل:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة, ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا, ولا جحد الصفات ونفيها حذرا من التمثيل والتشبيه

وأما الإيمان فأكثر الناس, أو كلهم, يدعونه: { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}, وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل, وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلما وإقرارا ومحبة ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه, فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول, وهو إيمان الصدّيق وحزبه.وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الصانع, وأنه وحده هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما, وهذا لم يكن ينكره عبّاد الأصنام من قريش ونحوهم. وآخرون الإيمان عندهم هو التكلم بالشهادتين, سواء كان معه عمل أو لم يكن, وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه. وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السماوات والأرض وأن محمدا عبده ورسوله وإن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئا, بل ولو سب الله ورسوله وأتى بكل عظيمة, وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن. وآخرون عندهم الإيمان هو جحد صفات الرب تعالى من علوه على عرشه وتكلمه بكلماته وكتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وإرادته وحبه وبغضه, وغير ذلك مما وصف به نفسه, ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فالإيمان عندهم إنكار حقائق ذلك كله وجحده والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين وآخرون عندهم الإيمان عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول. وآخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان, بل إيمانهم مبني على مقدمتين, إحداهما: أن هذا قول أسلافنا وآبائنا. والثانية: أن ما قالوه فهو الحق. وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه وإحسان الظن بكل أحد وتخلية الناس وغفلاتهم. وآخرون عندهم الإيمان التجرد من الدنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها. فإذا رأوا رجلا هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان, وإن كان منسلخا من الإيمان علما وعملا. وأعلى من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل. وكل هؤلاء لم يعرفوا حقائق الإيمان ولا قاموا به ولا قام بهم.
والإيمان وراء ذلك كله, وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, والتصديق به عقدا, والإقرار به نطقا, والانقياد له محبة وخضوعا, والعمل به باطنا وظاهرا, وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان وكماله في الحب في الله والبغض في الله, والعطاء لله والمنع لله, وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده. والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطنا, وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, وبالله التوفيق. من اشتغل بالله عن نفسه, كفاه الله مؤونة نفسه, ومن اشتغل بالله عن الناس, كفاه الله مؤونة الناس, ومن اشتغل بنفسه عن الله, وكّله الله إلى نفسه, ومن اشتغل بالناس عن الله, وكله الله إليهم.
(فائدة جليلة): إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله. أما من تركها صادقا مخلصا في قلبه لله فانه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب, فان صبر على تلك المشقة قليلا استحالت لذة.

(قاعدة جليلة):قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}, وقال:{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى }. والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصّلة, وسبيل المجرمين مفصّلة, وعاقبة كل منهم مفصّلة,وأعمالهم.
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية, وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية, فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده, والطريق الموصل إلى الهلكة..وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة.
. فإنهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصّلة, ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى, وصراط الله المستقيم, فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام, ومن الشرك إلى التوحيد, ومن الجهل إلى العلم, ومن الغي إلى الرشاد, ومن الظلم إلى العدل, ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر, فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به, ومقدار ما كانوا فيه. فإن الضد يظهر حسنه الضد, وإنما تتبين الأشياء بأضدادها. فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه, ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه, وكانوا أحب الناس للتوحيد والإيمان والإسلام وأبغض الناس في ضده, عالمين بالسبيل على التفصيل.
وأما من جاء بعد الصحابة, فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده, فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين, فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب :" إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".

والناس في هذا الموضع أربع فرق: الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا, وهؤلاء أعلم الخلق. الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام, وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر, ولها أسلك. الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة, وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل, بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف عنه سمعه, ولم يشغل نفسه بفهمه. وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله, أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: أن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من: { الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ},. وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله, وحذرها وحذّر منها, ودفعها عن نفسه, ولم يدعها تخدش وجه إيمانه, ولا تورثه شبهة ولا شكا, بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له, وكراهة لها ونفرة عنها, أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه. الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة, وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع, فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك, بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصلت له بعض الأشياء. وكذلك من كان عارفا بطريق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها, إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل. والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض, كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتضائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه, والله أعلم.

* عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها: علم لا يعمل به, وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء, ومال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعه في الدنيا, ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة, وقلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به, وبدن معطل من طاعته وخدمته,ومحبة لا تتقيد برضاء المحبوب, وامتثال أوامره, ووقت معطل عن استدراك فارط, أو اغتنام بر وقربة, وفكر يجول فيما لا ينفع, وخدمة من لا تقربك خدمته إلى الله, ولا تعود عليك بصلاح دنياك وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله, وهو أسير في قبضته, ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. أعظم الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب وإضاعة الوقت, فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة, وإضاعة الوقت من طول الأمل, فاجتمع الفساد كله في اتّباع الهوى وطول الأمل, والصلاح كله في اتّباع الهدى والاستعداد للقاء, والله المستعان

فصل: لله سبحانه على عبده أمر أمره به, وقضاء يقضيه عليه, ونعمة ينعم بها عليه فلا ينفك من هذه الثلاثة. والقضاء نوعان: إما مصائب وإما معائب. وله عليه عبودية في هذه المراتب كلها, فأحب الخلق إليه من عرف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقها, فهذا أقرب الخلق إليه. وأبعدهم منه من جهل عبوديته في هذه المراتب فعطلها علما وعملا. فعبوديته في الأمر امتثاله إخلاصا واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي النهي اجتنابه خوفا منه وإجلالا ومحبة, وعبوديته في قضاء المصائب والصبر عليها ثم الرضا بها وهو أعلى منه, ثم الشكر عليها وهو أعلى من الرضاء, وهذا إنما يتأتى منه إذا تمكن حبه من قلبه وعلم حسن اختياره له وبره به ولطفه به.

*لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر قليلها عليه, ويستقل كثير شكره عليها, ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها, ولا وسيلة منه توسل بها إليه, ولا استحقاق منه لها, وأنها لله في الحقيقة لا للعبد, فلا تزيده النعم إلا انكسارا وذلا وتواضعا ومحبة للمنعم. وكلما جدد له نعمة أحدث لها عبودية ومحبة وخضوعا وذلا, وكلما أحدث له قبضا أحدث له رضى, وكلما أحدث ذنبا أحدث له توبة وانكسارا واعتذارا. فهذا هو العبد الكيّس والعاجز بمعزل عن ذلك, وبالله التوفيق.

فصل: من ترك الاختيار والتدبير في رجاء زيادة أو خوف أو نقصان أو طلب صحة أو فرار من سقم, وعلم أن الله على كل شيء قدير, وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير, وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه, وأنه أعلم بمصلحته من العبد, وأقدر على جلبها وتحصيلها منه, وأنصح للعبد منه لنفسه, وأرحم به منه لنفسه, وأبر به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة, فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر, فألقى نفسه بين يديه, وسلم الأمر كله إليه, وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر, له التصرف في عبده بكل ما يشاء, وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه, فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات, وحمل كله وحوائجه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها, فتولاها دونه وأراه لطفه وبره ورحمته وإحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب ولا اهتمام منه, لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه وجعله وحده همه, فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه, وفرغ قلبه منها, فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه. وإن أبى إلا تدبيره لنفسه, واختياره لها, واهتمامه بحظه, دون حق ربه, خلاه وما اختاره, وولاه ما تولى, فحضره الهم والغم والحزن والنكد والخوف والتعب وكسف البال وسوء الحال.

قال بشر بن الحارث: أهل الآخرة ثلاثة: عابد وزاهد وصديق, فالعابد يعبد الله مع العلائق, والزاهد يعبده على ترك العلائق, والصديق يعبده على الرضا والموافقة, إن أراه أخذ الدنيا أخذها, وإن أراه تركها تركها.

*كن في الجانب الذي فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, وان كان الناس كلهم في الجانب الآخر, فإن لذلك عواقب هي أحمد العواقب وأفضلها, وليس للعبد شيء أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته, وأكثر الخلق إنما يكونون من الجانب الآخر, ولا سيما إذا قويت الرغبة والرهبة, فهناك لا تكاد تجد أحدا في الجانب الذي فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, بل يعدّه الناس ناقص العقل سيء الاختيار لنفسه, وربما نسبوه إلى الجنون, وذلك من مواريث أعداء الرسل. فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب والناس في شق وجانب آخر. ولكن من وطّن نفسه على ذلك فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يكون يقينا له لا ريب عنده فيه, وإلى صبر تام على معاداة من عاداه ولومة من لامه, ولا يتم له ذلك إلا برغبة قوية في الله والدار الآخرة, بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا وآثر عنده منها, ويكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما.

(نصيحة):هلم إلى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء بل من أقرب الطرق وأسهلها, وذلك أنك في وقت بين وقتين, وهو في الحقيقةعمرك, وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل, فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار, وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب, ولا معاناة عمل شاق, إنما هو عمل قلب, وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب, وامتناعك ترك وراحة وليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته, وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك, فما مضى تصلحه بالتوبة, وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية, وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب, ولكن الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين فإن أضعته أضعت سعادتك, ونجاتك, وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم. وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده, فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها وأعظم تحصيلا لسعادتها. وفي هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت, فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك, إما إلى الجنة وإما إلى النار, فإن اتخذت إليها سبيلا إلى ربك بلغت السعادة العظمى, والفوز الأكبر في هذه المدة اليسيرة التي لا نسبة لها إلى الأبد, وإن آثرت الشهوات والراحات, واللهو واللعب,انقضت عنك بسرعة, وأعقبتك الألم العظيم الدائم الذي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله, والصبر على طاعته, ومخالفة الهوى لأجله.

علامة صحة الإرادة أن يكون هم المريد رضا ربه واستعداده للقائه, وحزنه على وقت مر في غير مرضاته, وأسفه على قربه والأنس به. وجماع ذلك أن يصبح ويمسي وليس له هم غيره.

*إذا استغنى الناس بالدنيا استغن أنت بالله, وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله, وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله, وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله, وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة. قال بعض الزهاد: ما علمت أن أحدا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان. فقال له رجل: إني أكثر البكاء. فقال: إنك إن تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك, فإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه. فقال: أوصني. فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا همّ الآخرة لأهلها, وكن في الدنيا كالنحلة, إن أكلت أكلت طيبا, وإن أطعمت أطعمت طيبا, وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه.

فصل: الزهد أقسام: زهد في الحرام؛ وهو فرض عين. وزهد في الشبهات؛ وهو بحسب مراتب الشبهة, فإن قويت التحقت بالواجب, وإن كان ضعيفا كان مستحبا.وزهد في الفضول وزهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره. وزهد في الناس. وزهد في النفس بحيث تهون عليه نفسه في الله. وزهد جامع لذلك كله وهو الزهد فيما سوى الله, وفي كل ما شغلك عنه. وأفضل الزهد إخفاء الزهد, وأصعبه الزهد في الحظوظ. والفرق بينه وبين الورع أن الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة, والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة. والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع.
قال يحي بن معاذ: عجبت من ثلاث: رجل يرائي بعمله مخلوقا مثله ويترك أن يعمله لله, ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه منه فلا يقرضه منه شيئا, ورجل يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم, والله يدعوه إلى صحبته ومودته.

(فائدة جليلة):قال سهل بن عبد الله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي, لأن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه, وإبليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه. قلت هي مسألة عظيمة لها شأن وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي, وذلك من وجوه عديدة: (الوجه الأول): ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس. (الوجه الثاني): أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة, وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكبر والعزة, و "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر", ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنى وسرق. (الوجه الثالث): أن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المنهي, كما دل على ذلك النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم:" أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها". وقوله: ألا أنبئكم بخير أعمالكم, وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من أن تلقو عدوكم, فتضربوا أعناقهم, ويضربوا أعناقكم". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "ذكر الله" وقوله: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة", وغير ذلك من النصوص. وترك المناهي عمل فإنه كف النفس عن الفعل, ولهذا علّق سبحانه المحبة بفعل الأوامر كقوله: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً },{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }وقوله:{ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
إذا عرف هذا ففعل ما يحبه سبحانه مقصود بالذات. ولهذا يقدر ما يكرهه ويسخطه لإفضائه إلى ما يحب, كما قدر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب على تقديرها مما يحبه من لوازمها من الجهاد واتخاذ الشهداء. وحصول التوبة من العبد والتضرّع إليه والاستكانة وإظهار عدله وعفوه وانتقامه وعزه. وحصول الموالاة والمعاداة لأجله, وغير ذلك من الآثار التي وجودها بسبب تقديره ما يكره أحب إليه من ارتفاعها بارتفاع أسبابها, وهو سبحانه لا يقدر ما يحب لإفضائه إلى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه لإفضائه إلى ما يحبه, فعلم أن فعل ما يحبه أحب إليه مما يكرهه. يوضحه الوجه الرابع: أن فعل المأمور مقصود لذاته وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور, فهو منهي عنه لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه وينقصه. الوجه الخامس: أن فعل المأمورات من باب حفظ قوة الإيمان وبقائها وترك المنهيات من باب الحمية عما يشوش قوة الإيمان ويخرجها عن الاعتدال, وحفظ القوة مقدم على الحمية, فإن القوة كلما قويت دفعت المواد الفاسدة وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة, فالحمية مرادة لغيرها وهو حفظ القوة وزيادتها وبقاؤها, ولهذا كلما قويت قوة الإيمان دفعت المواد الرديئة ومنعت من غلبتها وكثرتها بحسب القوة وضعفها, وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة. فتأمل هذا الوجه. الوجه السادس: أن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره وقرة عينه ولذته ونعيمه, وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصل له شيء من ذلك, فإنه لو ترك جميع المنهيات ولم يأت بالإيمان والأعمال المأمور بها لم ينفعه ذلك الترك شيئا وكان خالدا مخلدا في النار. وهذا يتبين بالوجه السابع: أن من فعل المأمورات والمنهيات فهو إما ناج مطلقا إن غلبت حسناته سيئاته, وإما ناج بعد أن يؤخذ منه الحق ويعاقب على سيئاته فمآله إلى النجاة وذلك بفعل المأمور. ومن ترك المأمورات والمنهيات فهو هالك غير ناج ولا ينجو إلا بفعل المأمور وهو التوحيد.
فإن قيل: فهو إنما هلك بارتكاب المحظور وهو الشرك, قيل: يكفي في الهلاك ترك نفس التوحيد المأمور به وإن لم يأت بضد وجودي من الشرك, بل متى خلا قلبه من التوحيد رأسا فلم يوحد الله فهو هالك وان لم يعبد معه غيره, فإذا انضاف إليه عبادة غيره عذب على ترك التوحيد المأمور به وفعل الشرك المنهي عنه. يوضحه الوجه الثامن: أن المدعو إلى الإيمان إذا قال: لا أصدق ولا أكذب ولا أحب ولا أبغض ولا أعبده ولا أعبد غيره, كان كافرا بمجرد الترك والإعراض, بخلاف ما إذا قال: أنا أصدق الرسول وأحبه وأؤمن به وأفعل ما أمرني, ولكن شهوتي وإرادتي وطبعي حاكمة علي لا تدعني أترك ما نهاني عنه وأنا أعلم أنه قد نهاني وكره لي فعل المنهي ولكن لا صبر لي عنه, فهذا لا يعد بذلك كافرا, ولا حكمه حكم الأول؛ فإن هذا مطيع من وجه, وتارك المأمور جملة لا يعد مطيعا بوجه. يوضحه الوجه التاسع: أن الطاعة والمعصية إنما تتعلق بالأمر أصلا, وبالنهي تبعا, فالمطيع ممتثل المأمور, والعاصي تارك المأمور, قال تعالى:{ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ }, وقال موسى لأخيه: { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي }. وقال عمرو بن العاص عند موته: أنا الذي أمرتني فعصيت, ولكن لا إله إلا أنت. والمقصود من إرسال الرسل طاعة المرسل ولا تحصل إلا بامتثال أوامره, واجتناب المناهي من تمام امتثال الأوامر ولوازمه. ولهذا لو اجتنب المناهي ولم يفعل ما أمر به لم يكن مطيعا وكان عاصيا, بخلاف ما لو أتى المأمورات وارتكب المناهي. فإنه وإن عد عاصيا مذنبا فإنه مطيع بامتثال الأمر, عاص بارتكاب النهي بخلاف الأمر فإنه لا يعد مطيعا باجتناب المنهيات خاصة. الوجه العاشر: أن امتثال الأمر عبودية وتقرب وخدمة, وتلك العبادة التي خلق لأجلها الخلق كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ },فأخبر سبحانه أنه إنما خلقهم للعبادة , وكذلك إنما أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليعبدوه. فالعبادة هي الغاية التي خلقوا لها ولم يخلقوا لمجرد الترك فإنه أمر عدمي لا كمال فيه من حيث هو عدم, بخلاف امتثال المأمور فإنه أمر وجودي مطلوب الحصول. وهذا يتبين بالوجه الحادي عشر: وهو أن المطلوب بالنهي عدم الفعل وهو أمر عدمي, والمطلوب بالأمر إيجاد فعل وهو أمر وجودي, وهذا يتضح بالوجه الثاني عشر: وهو أن الناس اختلفوا في المطلوب بالنهي على أقوال: أحدها: أن المطلوب به كف النفس عن الفعل, وحبسها عنه, وهو أمر وجودي. قالوا: لأن التكليف إنما يتعلق بالمقدور, والعدم المحض غير مقدور. وهذا قول الجمهور. وقال أبو هاشم وغيره: بل المطلوب عدم الفعل, ولهذا يحصل المقصود من بقائه على العدم, وإن لم يخطر بباله فعل. وقالت طائفة: المطلوب بالنهي فعل الضد فإنه هو المقدور وهو المقصود للناهي, فإنه إنما نهاه عن الفاحشة طلبا للعفة وهي المأمور بها, ونهاه عن الظلم طلبا للعدل المأمور به, وعن الكذب طلبا للصدق المأمور به وهكذا جميع المنهيات. فعند هؤلاء أن حقيقة النهي الطلب لضد المنهي عنه, فعاد الأمر إلى أن الطلب إنما تعلق بفعل المأمور.
والتحقيق أن المطلوب نوعان: مطلوب لنفسه وهو المأمور به, ومطلوب إعدامه لمضادته المأمور به وهو المنهي عنه, لما فيه من المفسدة المضادة للمأمور به.
وهذا يتبين بالوجه الثالث عشر: وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق اللزوم العقلي لا القصد الطلبي, فإن الأمر إنما مقصوده فعل المأمور. فإذا كان من لوازمه ترك الضد صار تركه مقصودا لغيره, وهذا هو الصواب في مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا؟ فهو نهي عنه من جهة اللزوم لا من جهة القصد والطلب. وكذلك النهي عن الشيء, مقصود الناهي بالقصد الأول الانتهاء عن المنهي عنه وكونه مشتغلا بضده جاء من جهة اللزوم العقلي, لكن إنما نهى عما يضاد ما أمر به كما تقدم, فكأن المأمور هو المقصود بالقصد الأول في الموضعين.
وحرف المسألة: أن طلب الشيء طلب له بالذات ولما هو من ضرورته باللزوم, والنهي عن الشيء طلب لتركه بالذات ولفعل ما هو من ضرورة الترك باللزوم, والمطلوب في الموضعين فعل وكف, وكلاهما أمر وجودي. الوجه الرابع عشر: أن الأمر والنهي في باب الطلب نظير النفي والإثبات في باب الخبر, والمدح والثناء لا يحصلان بالنفي المحض إن لم يتضمن ثبوتا, فإن النفي كاسمه عدم لا كمال فيه ولا مدح, فإذا تضمن ثبوتا صح المدح به كنفي النسيان المستلزم لكمال العلم وبيانه. ونفي اللغوب والإعياء والتعب المستلزم لكمال القوة والقدرة. ونفي السنة والنوم المستلزم لكمال الحياة والقيّوميّة, ونفي الولد والصاحبة المستلزم لكمال الغنى والملك والربوبية. ونفي الشريك والولي والشفيع بدون الإذن المستلزم لكمال التوحيد والتفرّد بالكمال والإلهية والملك ونفي الظلم المتضمن لكمال العدل. ونفي إدراك الأبصار له المتضمن لعظمته وأنه أجلّ من أن يدرك وإن رأته الأبصار, وإلا فليس في كونه لا يرى مدح بوجه من الوجوه, فإن العدم المحض كذلك.
الوجه الخامس عشر: أن الله سبحانه جعل جزاء المأمورات عشرة أمثال فعلها, وجزاء المنهيات مثل واحد وهذا يدل على أن فعل ما أمر به أحب إليه من ترك ما نهى عنه. ولو كان الأمر بالعكس لكانت السيئة بعشرة أمثالها والحسنة بواحدة أو تساويا. الوجه السادس عشر: أن المنهي عنه المقصود إعدامه, وأن لا يدخل في الوجود, سواء نوى ذلك أو لم ينوه, وسواء خطر بباله أو لم يخطر. فالمقصود أن لا يكون. وأما المأمور به فالمقصود كونه وإيجاده والتقرب به نية وفعلا.
وسر المسألة أن وجود ما طلب إيجاده أحب إليه من عدم ما طلب إعدامه, وعدم ما أحبه أكره إليه من وجود ما يبغضه, فمحبته لفعل ما أمر به أعظم من كراهته لفعل ما نهى عنه. يوضحه الوجه السابع عشر: أن فعل ما يحبه والإعانة عليه وجزاءه وما يترتب عليه من المدح والثناء من رحمته. وفعل ما يكرهه وجزاءه وما يترتب عليه من الذم والألم والعقاب من غضبه. ورحمته سابقة على غضبه غالبة له, وكل ما كان من صفة الرحمة فهو غالب لما كان من صفة الغضب, فإنه سبحانه لا يكون إلا رحيما, ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وإحسانه, فيستحيل أن يكون على خلاف ذلك. وليس كذلك غضبه, فإنه ليس من لوازم ذاته ولا يكون غضبان دائما غضبا لا يتصور انفكاكه, بل يقول رسله وأعلم الخلق به يوم القيامة: "إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله" جزء من حديث أخرجه البخاري في تاب الأنبياء باب قول الله عز وجل {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه}. ورحمته وسعت كل شيء, وغضبه لم يسع كل شيء وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الغضب, ووسع كل شيء رحمة وعلما ولم يسع كل شيء غضبا وانتقاما. فالرحمة وما كان بها ولوازمها وآثارها غالبة على الغضب وما كان منه وآثاره. فوجود ما كان بالرحمة أحب إليه من وجود ما كان من لوازم الغضب. ولهذا كانت الرحمة أحب إليه من العذاب, والعفو أحب إليه من الانتقام. فوجود محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه, ولا سيما إذا كان في فوات مكروهه فوات ما يحبه من لوازمه, فإنه يكره فوات تلك اللوازم المحبوبة كما يكره وجود ذلك الملزوم المكره. الوجه الثامن عشر: أن آثار ما يكرهه وهو المنهيات أسرع زوالا بما يحبه من زوال آثار ما يحبه بما يكرهه, فآثار كراهته سريعة الزوال وقد يزيلها سبحانه بالعفو والتجاوز, وتزول بالتوبة والاستغفار والأعمال الصالحة والمصائب المكفرة .
مغفرة وهو سبحانه يغفر الذنوب وإن تعاظمت ولا يبالي, فيبطلها ويبطل آثارها بأدنى سعي من العبد وتوبة نصوح وندم على ما فعل, , وما ذاك إلا لوجود ما يحبه من توبة العبد وطاعته وتوحيده, فدلّ على أن وجود ذلك أحب إليه وأرضى له. يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أنه سبحانه قدر ما يبغضه ويكرهه من المنهيات لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأمورات. فإنه سبحانه أفرح بتوبة عبده من الفاقد الواجد, والعقيم الوالد, والظمآن الوارد. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرحه بتوبة العبد مثلا عن أنس بن مالك " لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه..."
الوجه العشرون: أن المأمور به إذا فات فاتت الحياة المطلوبة للعبد, وهي التي قال الله تعالى فيها:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }.وأما المنهي عنه فإذا وجد فغايته أن يوجد المرض, وحياة مع السقم خير من موت.
وجه حاد وعشرون في المسألة: وهو أن في المأمورات ما يوجب فواته الهلاك والشقاء الدائم, وليس في المنهيات ما يقتضي ذلك. الوجه الثاني والعشرون: أن فعل المأمور يقتضي ترك المنهي عنه إذا فعل على وجهه من الإخلاص والمتابعة والنصح لله فيه, قال تعالى:{ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }. ومجرد ترك المنهي لا يقتضي فعل المأمور ولا يستلزمه. الوجه الثالث والعشرون: أن ما يحبه من المأمورات فهو متعلّق بصفاته, وما يكرهه من المنهيات فمتعلق بمفعولاته, وهذا وجه دقيق يحتاج إلى بيان فنقول:المنهيات شرور وتفضي إلى الشرور, والمأمورات خير وتفضي إلى الخيرات, والخير بيديه سبحانه والشر ليس إليه, فإن الشر لا يدخل في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه, وإنما هو في المفعولات مع أنه شر بالإضافة والنسبة إلى العبد, وإلا من حيث إضافته ونسبته إلى الخالق سبحانه فليس بشر من هذه الجهة. فغاية ارتكاب المنهي أن يوجب شرا بالإضافة إلى العبد مع أنه في نفسه ليس بشر. وأما فوات المأمور فيفوت به الخير الذي بفواته يحصل ضده من الشر, وكلما كان المأمور أحب إلى الله سبحانه كان الشر الحاصل بفواته أعظم كالتوحيد والإيمان. وسر هذه الوجوه: أن المأمور به محبوبه, والمنهي مكروهه, ووقوع محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه, وفوات محبوبه أكره إليه من وقوع مكروهه, والله أعلم.

فصل:مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر, قال تعالى:{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ }. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " والله إني لأحبك فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" وليس المراد بالذكر مجرد الذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني. وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته وذكر أمره ونهيه وذكره بكلامه, وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفاته كمال ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح. وذلك لا يتم إلا بتوحيده. فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه. وأما الشكر فهو القيام له بطاعته والتقرب إليه بأنواع المحبة ظاهرا وباطنا, وهذان الأمران هما جماع الدين.
وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره, شاكر لمن شكره, فذكره سبب لذكره, وشكره سبب لزيادته من فضله.
فالذكر للقلب واللسان, والشكر للقلب محبة وإنابة, وللسان ثناء وحمد, وللجوارح طاعة وخدمة.

فصل:تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال, فيقوم القلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه والمؤثرة لأثره. وكذلك الضلال, فأعمال البر تثمر الهدى, وكلما ازداد منها ازداد هدى. وأعمال الفجور بالضد, وذلك أن الله سبحانه يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح, ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء.
وهذا يتضمن أمرين: الأمر الأول: أنه يهدي من اتقى مساخطه قبل نزول الكتاب, فإن الناس على اختلاف مللهم ونحلهم قد استقر عندهم أن الله سبحانه يكره الظلم والفواحش والفساد في الأرض ويمقت فاعل ذلك, ويحب العدل والإحسان والجود والصدق والإصلاح في الأرض, ويحب فاعل ذلك. فلما نزل الكتاب, أثاب سبحانه أهل البر بأن وفقهم للإيمان به جزاء لهم على برهم وطاعتهم, وخذل أهل الفجور والفحش والظلم بأن حال بينهم وبين الاهتداء به. والأمر الثاني: أن العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملا وقبل أوامره وصدق بأخباره, وكان ذلك سببا لهداية أخرى تحصل له على التفصيل. فإن الهداية لا نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ, ففوق هدايته هداية أخرى وفوق تلك الهداية هداية أخرى إلى غير غاية. فكلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى, فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى. وكلما فوّت حظا من التقوى فاته حظ من الهداية بحسبه.
لا يتم الإيمان إلا بالصبر والشكر, فإن رأس الشكر التوحيد, ورأس الصبر ترك إجابة داعي الهوى. فإذا كان مشركا متبعا هواه لم يكن صابرا ولا شكورا, فلا تكون الآيات نافعة له ولا مؤثرة فيه إيمانا.

(فصل):وكما يقرن سبحانه بين الهدى والتقى والضلال والغي, فكذلك يقرن بين الهدى والرحمة والضلال والشقاء, فمن الأول قوله:{ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }, وقال أيضا:{ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }. وقال عن المؤمنين:{ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة, والصحيح أنهما الهدى والنعمة, ففضله هداه, ورحمته نعمته ( وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله القرآن, ورحمته الإسلام, وعنهما أيضا: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله, وعن الحسن, والضحّاك, ومجاهد وقتادة فضل الله:الإيمان, ورحمته القرآن. تفسير القرطبي . كما أن الضلال والشقاء متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر, قال تعالى:{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ }, والسعر جمع سعير وهو العذاب الذي هو غاية الشقاء. وقال تعالى:{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }.
فصل: والهدى والرحمة, وتوابعهما من الفضل والإنعام, كله من صفة العطاء, والإضلال والعذاب, وتوابعهما من صفة المنع, وهو سبحانه يصرف خلقه بين عطائه ومنعه, وذلك كله صادر عن حكمة بالغة, وملك تام, وحمد تام, فلا إله إلا الله.

فصل:إذا رأيت النفوس المبطلة الفارغة من الإرادة والطلب لهذا الشأن قد تشبث بها هذا العالم السفلي وقد تشبثت به فكلها إليه, فإنه اللائق بها لفساد تركيبها, ولا تنقش عليها ذلك فإنه سريع الانحلال عنها, ويبقى تشبثها به مع انقطاعه عنها عذابا عليها بحسب ذلك التعلّق, فلو تصوّر العاقل ما في ذلك من الألم والحسرة لبادر إلى قطع هذا التعلق كما يبادر إلى حسم مواد الفساد, ومع هذا فإنه ينال نصيبه من ذلك وقلبه وهمه متعلق بالمطلب الأعلى, والله المستعان.

فصل:إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه, ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس, فإن الكاذب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما, والحق باطلا, والباطل حقا, والخير شرا, والشر خيرا, فيفسد عليه تصوره وعلمه.عقوبة له ثم يصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره وعلمه ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة نزاعة إلى العدم مؤثرة للباطل. وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعلي إرادي, فسدت عليه تلك الأفعال وسرى حكم الكذب إليها فصار صدورها عنه كصدور الكذب على اللسان, فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله. ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:{ إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار}.وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده, ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله, فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله, فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها. ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق, وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب. فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب. والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه, ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته.

فصل:في قوله تعالى:{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }.
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد, فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب, والمحبوب قد يأتي بالمكروه, لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرّة, ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب, فإن الله يعلم منها مالا يعلمه العبد أوجب له ذلك أمورا: منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء, لأم عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع. وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه.
ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور, والرضا بما يختاره له ويقضيه له, لما يرجو فيه من حسن العاقبة. ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم, فلعل مضرّته وهلاكه فيه وهو لا يعلم, فلا يختار على ربه شيئا بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك. ومنها: أنه إذا فوَّض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر, وصرف عنه الآفات, التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه, وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه, بما يختاره هو لنفسه. ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات, ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى, ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه, فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه, وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه.

فصل:لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه, ووقف بها عند قدرها, ولم يتجاوزه إلى ما ليس له, ولم يتعد طوره ولم يقل هذا لي, وتيقّن أنه لله ومن الله وبالله, فهو المانّ به ابتداء وإدامة بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه, فتذله نعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرا البتّة, وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه, فتحدث له النعم ذلا وانكسارا عجيبا لا يعبر عنه. فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلا وانكسارا وخشوعاومحبة وخوفا ورجاء, وهذا نتيجة علمين شريفين: علمه بربه وكماله وبره وغناه وجوده وإحسانه ورحمته, وأن الخير كله في يديه, وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع منه من يشاء. وله الحمد على هذا, وهذا أكمل حمد وأتمه. وعلمه بنفسه ووقوفه على حدها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها, وأنها لا خير فيها البتة ولا لها ولا بها ولا منها, وأنها ليس لها من ذاتها إلا العدم فكذلك من صفاتها وكمالها فليس لها إلا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص. فإذا صار هذان العلمان صيغة لها لا صيغة على لسانها علمت حينئذ أن الحمد كله لله, والأمر كله له والخير كله في يديه, وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها, وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم. ومن فاته التحقق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله وأحواله وتخبطت عليه ولم يهتد إلى الصراط المستقيم.

فصل:الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة, فإنها إما إن توجب ألما وعقوبة, وإما أن تقطع لذة أكمل منها, وإما أن تضيع وقتا إضاعته حسرة وندامة, وإما أن تثلم عرضا توفيره أنفع للعبد من ثلمه, وإما أن تذهب مالا بقاؤه خير له من ذهابه, وإما أن تضع قدرا وجاها قيامه خير من وضعه, وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة, وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقا لم يك يجدها قبل ذلك, وإما أن تجلب هما وغما وحزنا وخوفا لا يقارب لذة الشهوة, وإما أن تنسي علما ذكره ألذ من نيل الشهوة, وإما أن تشمت عدوا وتحزن وليا, وإما أ، تقطع الطريق على نعمة مقبلة, وإما أ، تحدث عيبا يبقى صفة لا تزول, فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق.

فصل:للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدوانا, ومتى قصّرت عنه كان نقصا ومهانة فللغضب حد وهو الشجاعة المحمودة, والأنفة من الرذائل والنقائص, وهذا كماله. فإذا جاوز حده, تعدى صاحبه وجار, وإن نقص عنه, جبن ولم يأنف من الرذائل. وللحرص حد, وهو الكفاية في أمور الدنيا, وحصول البلاغ منها, فمتى نقص من ذلك كان مهانة وإضاعة, ومتى زاد عليه, كان شرها ورغبة فيما لا تحمد الرغبة فيه. وللحسد حد وهو المنافسة في طلب الكمال, والأنفة أن يتقدم عليه نظيره, فمتى تعدى ذلك صار بغيا وظلما يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود, ويحرص على إيذائه, ومتى نقص عن ذلك, كان دناءة وضعف همة وصغر نفس. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق, ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس".وللراحة حد وهو إجمام النفس والقوى المدركة والفعالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث لا يضعفها الكد والتعب ويضعف أثرها, فمتى زاد على ذلك صار توانيا وكسلا وإضاعة, وفات به أكثر مصالح العبد, ومتى نقص عنه صار مضرا بالقوى موهنا لها والغيرة لها حد إذا جاوزته صارت تهمة وظنا سيئا بالبريء, وإن قصّرت عنه كانت تغافلا ومبادئ دياثة. وللتواضع حد إذا جاوزه كان ذلا ومهانة, ومن قصر عنه انحرف إلى الكبر والفخر. وللعز حد إذا جاوزه كان كبرا وخلقا مذموما, وإن قصر عنه انحرف إلى الذل والمهانة.
وضابط هذا كله العدل, وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط, وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة, بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به. فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك. وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك, إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا. فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود, ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي. فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود, حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ولا يخرج منها ما هو داخل فيها. قال تعالى:{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ }.

(فصل):قال أبو الدرداء رضي الله عنه:" يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم, والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترّين". وهذا من جواهر الكلام, وأدله على كمال فقه الصحابة, وتقدمهم على من بعدهم في كل خير, رضي الله عنهم.
فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه. والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح. قال تعالى:{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }, وقال:{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره,. فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة, وعلو الهمة, وتجريد القصد, وصحة النية مع العمل القليل, أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق.
الصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان: قسم صرفوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها, وإن لم يكونوا خالين من أصلها ولكن هممهم مصروفة إلى الاستكثار من الأعمال. وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض والسنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم وعكوفها على الله وحده والجمعية عليه وحفظ الخواطر والإرادات معه. وجعلوا قوة تعبّدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة, والخوف والرجاء والتوكل والإنابة ورأوا أن أيسر نصيب من الواردات التي ترد على قلوبهم من الله أحب إليهم من كثير من التطوعات البدنية, فإذا حصل لأحدهم جمعية ووارد أنس أو حب أو اشتياق أو انكسار وذل, لم يستبدل به شيئا سواه البتة, إلا أن يجيء الأمر فيبادر إليه بذلك الوارد إن أمكنه, وإلا بادر إلى الأمر ولو ذهب الوارد. فإذا جاءت النوافل فهاهنا معترك التردد, فإن أمكن القيام إليها به فذاك, وإلا نظر في الأرجح والأحب إلى الله, هل هو القيام إلى تلك النافلة ولو ذهب وارده كإغاثة الملهوف وإرشاد ضال وجبر مكسور واستفادة إيمان ونحو ذلك, فهاهنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة.

فصل:أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة, وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة. فالفخر والبطر والأشر والعجب والحسد والبغي والخيلاء والظلم والقسوة والتجبر والإعراض وإباء قبول النصيحة والاستئثار وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك, كلها ناشئة من الكبر, وأما الكذب والخسة والخيانة والرياء والمكر والخديعة والطمع والفزع والجبن والبخل والعجز والكسل والذل لغير الله واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ونحو ذلك, فإنها من المهانة والدناءة وصغر النفس. وأما الأخلاق الفاضلة كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفة والصيانة والجود والحلم والعفو والصفح والاحتمال والإيثار. وعزة النفس عن الدناءات والتواضع والقناعة والصدق والأخلاق والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل, والتغافل عن زلات الناس وترك الاشتغال بما لا يعنيه وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك, فكلها ناشئة عن الخشوع وعلو الهمة. والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة ثم ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتأخذ زينتها وبهجتها, فكذلك المخلوق منها إذا أصابه حظه من التوفيق. وأما النار فطبعها العلو والإفساد ثم تخمد فتصير أحقر شيء وأذله وكذلك المخلوق منها. فهي دائما بين العلو إذا هاجت واضطربت, وبين الخسة والدناءة إذا خمدت وسكنت. والأخلاق المذمومة تابعة للنار والمخلوق منها, والأخلاق الفاضلة تابعة للأرض والمخلوق منها. فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل, ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل.

فصل:المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة, فمن فقدهما تعذّر عليه الوصول إليه, فإن الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده دون غيره. وإذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة إليه, فالنية تفرد له الطريق والهمة تفرد له المطلوب, فإذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصول غايته. وإذا كانت همته سافلة تعلّقت بالسفليات ولم تتعلّق بالمطلب الأعلى. وإذا كانت النية غير صحيحة كانت طريقه غير موصلة إليه. فمدار الشأن على همة العبد ونيته هما مطلوبه وطريقه لا يتم إلا بترك ثلاثة أشياء: (الأول): العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس. (الثاني): هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها. (الثالث): قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعليق بالمطلوب (وكأنه يشير رحمه الله إلى تجرد المسلم عن كل عوائق الدنيا, وعلائق القلب وقبل ذلك بعه عن كل البدع والخرافات التي أحدثها الناس, وما أكثرها في زماننا) والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية, والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها. وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة, فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه, والله المستعان.

(فصل):من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, قال رجل عنده: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين, أحب أن أكون من المقربين, فقال عبد الله: لكن هاهنا رجل ودّ أنه إذا مات لم يبعث. يعني نفسه. وخرج ذات يوم فاتبعه ناس فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا لا, ولكن أردنا أن نمشي معك, قال: ارجعوا, فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وقال: لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي لحثوتم على رأسي التراب. وقال: إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة, وأعمال محفوظة, والموت يأتي بغتة, فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبة ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة , ولكل زارع مثل ما زرع لا يسبق بطيء بحظه, ولا يدرك حريص ما لم يقدر له. من أعطى خيرا فالله أعطاه, ومن وقى شرا فالله وقاه.
المتقون سادة, والفقهاء قادة, ومجالستهم زيادة, إنما هما اثنتان: الهدى والكلام, فأفضل الكلام كلام الله, وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة, فلا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب, ألا وإن البعيد ما ليس آتيا, ألا وإن الشقي من شقي في بطن أمه, وإن السعيد من وعظ بغيره. ألا وإن قتال المسلم كفر وسبابه فسوق, ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام حتى يسلّم عليه إذا لقيه, ويجيبه إذا دعاه, ويعوده إذا مرض, ألا وإن شرّ الروايا روايا الكذب, ألا وإن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل صبيه شيئا ثم لا ينجزه, ألا وإن الكذب يهدي إلى الفجور, والفجور يهدي إلى النار, والصدق يهدي إلى البر, والبر يهدي إلى الجنة.
إن أصدق الحديث كتاب الله, وأوثق العرى كلمة التقوى, وخير الملل ملة إبراهيم, وأحسن السنن سنة محمد, وخير الهدي هدي الأنبياء, وأشرف الحديث ذكر الله, وخير القصص القرآن, وخير الأمور عواقبها, وشر الأمور محدثاتها, وما قل وكفى خير مما كثر وألهى, وأعظم الخطايا الكذب, ومن يعف يعف الله عنه, ومن يكظم الغيظ يأجره الله, ومن يغفر يغفر الله له, ومن يصبر على الرزية يعقبه الله, , وملاك العمل خواتمه, وأشرف الموت قتل الشهداء, ومن يستكبر يضعه الله, ومن يعص الله يطع الشيطان. ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون, وبنهاره إذا الناس مفطرون, وبحزنه إذا الناس يفرحون, وببكائه إذا الناس
يضحكون, وبصمته إذا الناس يخوضون, وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا حكيما حليما سكينا ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا ولا غافلا ولا سخابا ولا صياحا ولا حديدا. من تطاول تعظّما حطّه الله, ومن تواضع تخشّعا رفعه الله, إني لأبغض الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة, ومن لم تأمره الصلاة بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا. من اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله, ولا تحمد أحدا على رزق الله, ولا تلوم أحدا على ما لم يؤتك الله. فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره, إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها. كونوا ينابيع العلم, مصابيح الهدى, أحلاس البيوت, سرج الليل, جدد القلوب, خلقان الثياب, تعرفون في السماء وتخفون على أهل الأرض. إن للقلوب شهوة وإدبارا فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها, ودعوها عند فترتها وإدبارها. وما منكم إلا ضيف وماله عارية, فالضيف مرتحل, والعارية مؤداة إلى أهلها. يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالهم التلاوم بينهم يسمون الأنتان إذا أحب الرجل أن ينصف من نفسه فليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه. الحق ثقيل مريء, والباطل خفيف وبيء, رب شهوة تورث حزنا طويلا. ما على وجه الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن بهلاكها. من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يأكله السوس ولا يناله السراق فليفعل, فإن قلب الرجل مع كنزه. لا يقلدن أحدكم في دينه رجلا, فإن آمن آمن وإن كفر كفر, وإن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت, فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. لا يكن أحدكم أمعة, قالوا وما الأمعة؟ قال: يقول أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت وإن ضلوا ضللت, ألا ليوطن أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس لا يكفر.
وقال له رجل: علمني كلمات جوامع نوافع, فقال: اعبد الله لا تشرك به شيئا, وزل مع القرآن حيث زال, ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا, ومن جاءك بالبطل فاردد عليه وإن كان حبيبا قريبا.
فصل:لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت. فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشّاق الدنيا في الآخرة, فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يسهّل علي ذبح الطمع والزهد في المدح والثناء؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره, ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه. وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك