.:.الكروان.:.
.:.الكروان.:.
سرد رائع لمعنات المعلمات ومأسيهم
كملي يا عسل نحن في الإنتظار
عصفورة الجنوب
مذكرات مغتربة في الأفلاج (5)
أنا وورقة الاختبار.. صداقة لم تتم


في السابعة صباحا كنا أنا وليلى في المدرسة التي وجهنا إليها وهي مجمع متكامل في قرية نائية، دخلنا إلى الإدارة لتسليم خطابات المباشرة، كانت فترة اختبارات نصفية، لكن انشغال الطالبات بالمراجعة أو المذاكرة لم يمنعهن من تصفح وجوهنا جيدا وعباءاتنا بنظرات فاحصة وسمعنا بعضهن يتمتمن "شرقاويات" ولم أعرف كيف خمنّ بهذا الأمر إلا لاحقا.
دخلنا الإدارة وسلمنا كانت المديرة من أهل المنطقة، لم نكن نعرف أنا وليلى عن سكان هذه المنطقة إلا ما قرأناه في الكتب وما رأيناه في التلفاز من الخشونة وحدة الطباع والعنصرية والكرم والفزعة، إلا أن هذه المديرة قلبت لدينا بعض المفاهيم التي كنا نعتبرها من المسلمات، فقد كانت دمثة جدا رقيقة الطباع هذا بالنسبة للانطباع الأولي عنها وقد لاحظنا الكثير فيما بعد ففي الوقت الذي توقع البعض منها نصرتهن والتعصب لهن لم تكن متعصبة إلا للحق.
أخذت من يدي خطاب المباشرة وما إن قرأت عن تخصصي حتى انفرجت أساريرها، قالت لغة عربية؟ جيتي بوقتك.. نظرت لها باستغراب ولم أنطق لكنها تابعت حياك الله يا شيخة بتنبسطين معانا إن شاء الله بس خذي قلم أحمر ويالله قولي لأم سعد توريك غرفة التصحيح اليوم تصحيح اختبار مادة النحو للصف الثالث ثانوي يدك معاهم عندي معلمتين مجازات وحده إجازة مرضية والثانية أمومة ومافيه إلا معلمتين بس، تلعثمت وارتعدت فرائصي بس يا أستاذه، لكن، أنا جديدة، ما أمداني وقبل أن أمطرها بسيل من الأعذار قاطعتني، أنت روحي بس والله بيسهلها ثم ابتسمت وقالت ذكرتيني بنفسي أول يوم باشرت فيه . أشارت لي بالذهاب لكني مازلت "مسنترة" أنتظر مصير ليلى المظلم، فكأن المديرة فطنت لهذا الأمر قالت لي وش تنتظرين وقعي بالدفتر وتيسّري وقعت وتحركت وأنا أسحب خطواتي سحبا وأقول في نفسي لو كنت متزوجة من عريس الغفلة "اللي مابعد شفت خشته" ما أتيت إلى هنا، حتى استوقفني صوتها. شيخة التفت للمديرة.. سألتني.. أفطرتي؟ ولا أعلم ما إذا قلت لا أو نعم.. المهم أنهم أصابوني بالغثيان لكثرة ما أصروا أن أشرب قهوتهم وأتذوق حلاهم.
وفي غرفة التصحيح كانت أغلب المعلمات من دول عربية.. فهن إما سوريات أو مصريات وكانت المعلمة التي أعطتني حصة من أوراق النحو مصرية اسمها الأستاذة عواطف في منتصف العمر تقريبا تعلوها هيبة ووقار يوحي لك بالرهبة، متمكنة جدا في مادتها العلمية كما وصفتها المساعدة موضي.
مسكت بأول ورقة وكانت يدي ترتعش بشكل قوي لم أفلح في إخفائه وكانت عيني طائشة في أنحاء الورقة وكأنني أواجه امتحانا صعبا. إلا أنني حاولت التماسك وكنت أختلس النظر إلى الأستاذة عواطف وأقول في نفسي يوما ما كانت مبتدئة مثلي وأنا يوما ما سأصبح مثلها وكلما صححت سؤالا طلبت منها بلطف أن تراجعه معي حتى لا أظلم الطالبة في درجتها فتنظر إلى الورقة وتعطي إيماءة بالموافقة وأحيانا تبتسم للاستحسان. وورقة تلو أخرى بدأ الخوف والارتباك يتبدد من داخلي ونشأت بيني وبين الورقة علاقة ودية جعلتني أرمي بنموذج الإجابة بعيدا وأعتمد على معلوماتي التي لا يستهان بها بالمادة. فأنا خريجة جديدة بالنسبة لها ومعلوماتي حديثة لم تنس ولم تهترأ. وهذا ما جعلني أكتشف خطأ فادحا في أول يوم وظيفي بالنسبة لي.
كان السؤال عن اسم الآلة والإجابة من أسماء المبالغة وقد اعتبرناه إجابة صحيحة بناء على نموذج الإجابة التي كتبته المعلمة بخط يدها، اكتشفت الخطأ وغلبتني الحيرة كيف أقول لمعلمة خبرتها فوق الثلاثين عاما بأنك ارتكبت خطأ فادحا وأنا (حيا الله) معلمة تحت التدريب.
ولم أشأ أن أوكل الأمر إلى الإدارة حتى لا أتعرض لسوء الفهم.
استجمعت شجاعتي، اقتربت من المعلمة مبتسمة قلت لها تصدقين أني جاوبت ورقة الأسئلة كاملة قبل رؤية نموذج الإجابة ما جعلني أطمئن إلى معلوماتي لكنني أخفقت في سؤال واحد أظنه صعبا ليتك خففت عن الطالبات وحذفته.. فسألت عنه وأريتها إياه. سألت عن الإجابة الخاطئة التي أجبتها أنا فأخبرتها بها.
ابتسمت وسحبتني من أذني مداعبة لي بالمصري طبعا (إنتي بتغلّسي عليه يابت؟؟)
أنتي صح يا شيخة وأنا غلط اعتذرت لها مليا وأحرجني تواضعها، طلبت منها عدم إخبار الإدارة بالأمر سنصلح الخطأ وسوف نعيد حساب الدرجات، فوافقت لكنها فاجأتني في حضور المديرة.. وأخبرتها بالأمر، نظرت إلي المديرة وكلها فخر واعتزاز. ومنذ ذلك اليوم وأنا أنتدب لتدريس الصف الثالث ثانوي تحديدا، حتى حصلت على شهادة المعلمة المتميزة على كامل المحافظة.
عصفورة الجنوب

مذكرات مغتربة في الأفلاج ( 6 )
رقصة على طريق الموت


لم يكن في المدرسة التي تم توجيهنا إليها معلمات مغتربات غيرنا، فنحن الرعيل الأول أو الثاني في الاغتراب، حيث شهد عام 1420هـ تزايدا ملحوظا في أعداد المغتربات، لذلك حرصنا على الاستفسار عن الكثير من الأشياء بل عن كل شيء ومنها السيارة التي سوف تنقلنا من المكان المفترض إقامتنا فيه وحتى المدرسة حيث المسافة تستغرق خمسا وأربعين دقيقة في طريق مفرد وعر ومتعرج .
فلن يستطيع والدي ولا والد ليلى مرافقتنا يوميا إلى المدرسة، فصحتهما لم تعد تحتمل مثل هذا، وقد صارحت إحدى المعلمات بفكرتي بعد أن شاهدت بأم عيني صعوبة الطريق ووعورته وهي أن ننقل مقر إقامتنا إلى هذه القرية مادامت هي مقر عملنا ولكنها نصحتني ألا تقيم قريبا من المدرسة فهي قرية منغلقة لايقطنها إلا أهلها ولا يقبلون بوجود أجانب بينهم على الإطلاق، فضلا عن نقص الخدمات الضرورية التي تحتاجونها، فحتى سكان هذه القرية يذهبون إلى وسط الأفلاج للتزود باحتياجاتهم الضرورية، وكانت منيرة، من بنات المنطقة وتسكن في ليلى، على خلق عال وتملك طيبة لامتناهية، قالت لي اتركي هذا الأمر لي، اليوم سآخذكن بسيارتنا إلى مقر سكنكن حتى نعرف الطريق وبعدها ستكونان معنا، فهي سيارة تنقل أكثر من معلمة، وفرا جهد أبويكما فالطريق خطر، لا أريد أن أخيفكم لكن الطريق الذي يربط بين هذه القرية ووسط البلدة يسمى عندنا ب" طريق الموت". سعدنا جدا ليس لكوننا ممن سيسلكن طريق الموت يوميا ذهابا وإيابا بل سعدنا بمبادرتها وشكرناها ووافقنا بالطبع .
في اليوم التالي جاءت لنا منيرة وزميلاتها في الخامسة والنصف صباحا وكانت السيارة السوبر والتي تسمى عندهم ( الصالون ) بانضمامنا إليها تحتوي على 12 معلمة، فكانت المقاعد الأمامية للسابقات إلى التعاقد مع هذه السيارة أو للنخبة بمعنى أصح، وفي الخلف رفعت المقاعد واصطففنا في جلسة عربية محترمة تجعلنا أحيانا نصطحب معنا ترامس القهوة والحلا والشاي والفصفص لنتسلى طوال الطريق ومنا من تأخذ قسطا من النوم ريثما نصل .
كنا نخلع أحذيتنا قبل الدخول لنتخطى الجالسات في المقدمة لأن الأنظمة لاتسمح بفتح الباب الخلفي. كان أمرا متعبا جدا ولكنه كان متعبا أكثر بالنسبة لليلى نظرا لما تحمله من زيادة في الوزن أو لأنها " بطوطة " كما نسميها، إلا أن ضحكاتها المتواصلة والنكت التي تطلقها على نفسها وعلينا تخفف من معاناتنا ومعاناتها كثيرا، فمرة تطلب تعليق حبل في سقف السيارة كي نمسك به أثناء الصعود ومرة تفكر في ***** كوبري يمر من فوق الجالسات في المقدمة وأحيانا تكتفي بالتعليق " حشا راكبين غواصة حربية مو سيارة " فكنا جميعا نستعد لفاصل كوميدي ريثما تنقضي فترة ركوبنا .
ورغم وعورة الطريق إلا أن سائقنا لم يكن محترفا فكان يتجاوز السيارات كثيرا بلا مبالاة حتى أوشك بنا على الموت مرات كثيرة . هذا ماجعلنا نراقب معه الطريق خوفا على انفسنا .
وحدث أنه ذات مرة كان ينوي التجاوز فقد كانت أمامنا سيارة تسير ببطء شديد نظرا لحمولتها الزائدة .. وصفية السورية تقول له يالله يا أبو عبدالله الشارع فاضي ويأتي صوت ليلى من الخلف حط رجلك يابو عبد الله مافيه أحد ولكنه كان يتجاهل صفية وليلى من باب أنه مايسمع شور حرمة .
ثم حدد هو الوقت المناسب و انطلق متجاوزا بالسيارة وإذا به يفاجأ بشاحنة كبيرة لم يحسب حسابها فاضطرب المقود في يده وأوشكنا على الهلاك لولا أن الله سلّم . فسألته زوجته التي نطلق عليها
( المحرم ) والتي أثبتت أن المحرم قد يكون امرأة وليس بالضرورة رجلا . وهي التي كانت ترافقه في جميع مشاويره عاتبته بقولها وراك يابو عبد الله؟ قبل شوي قالوا لك اطلع ماطلعت . الله لايعمينا .
رونق الغرام
رونق الغرام
اب
عصفورة الجنوب
up