أنا هي

أنا هي @ana_hy_3

كبيرة محررات

التثبت في نقل الأقوال وسماعها والحكم عليها(لشيخ الجليل )

الملتقى العام

التثبت في نقل الأقوال وسماعها والحكم عليها


مقال للشيخ : عبد العزيز بن ناصر الجليل


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.


قال الله عز وجل: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً )) ( الإسراء :36 .


يقولُ الإمام ابن كثير- رحمه الله- في تفسير هذه الآية : (( قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: يقول: لا تقل.


وقال العوفي عنه : لا ترم أحدًا بما ليس لك به علم.


وقال محمد ابن الحنفية: يعني شهادة الزور.


وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإنَّ الله تعالى سائلك عن ذلك كله.


ومضمون ما ذكروه أنَّ الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: (( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ َعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ )) (الحجرات: 12) () .


ويقول سيد قطب- رحمه الله تعالى- عند هذه الآية:

»وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجًا كاملاً للقـلب والعـقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثًا جدًّا، ويضيفُ إليـه اسـتقامة القلب ومراقبـة الله، ميـزة الإسلام عن المناهج العقـلية الجـافـة.

فالتثبت من كل خبرٍ ومن كل ظاهرة، ومن كل حركةٍ قبل الحكم عليها؛ هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافةِ في عالم العقيدة، ولم يبق مجالٌ للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتأمل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية، والفروض الوهميةِ في عالم البحوث والتجارب والعلوم.


والأمانة العلمية التي يشيدُ بها الناس في العصر الحديث، ليست سوى طرفٍ من الأمانة العقلية القلبية، التي يعلنُ القرآن تبعتها الكبرى، ويجعلُ الإنسان مسئولاً عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.


إنَّها أمانةُ الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانةٌ يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعًا، أمانةٌ يرتعشُ الوجدان لدقتها وجسامتها، كلَّما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلَّما أصدر حكمًا على شخصٍ أو أمرٍ أوحادثة.


(( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )) ولا تتبع ما لم تعلمهُ علم اليقين، ومالم تتثبت من صحته: من قولٍ يقال وروايةٍ تروى، ومن ظاهرةٍ تُفسر، أو واقعةٍ تُعلل.


ومن حكمٍ شرعي، أو قضيةٍ اعتقادية.


وفي الحديث: ((إياكم والظن فإنه أكذب الحديث))

وفي سنن أبي داود : ((بئس مطية الرجل: زعموا )) .

وفي الحديث الآخر : (( إن أفرى الفرى، أن: يُري الرجل عينيه مالم تريا )) () .


وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقريرِ ذلك المنهج الكامل المتكامل، الذي لا يأخذُ العقل وحده بالتحرجِ في أحكامه، والتثبت في استقرائه؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعرهِ وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكمًا، ولا يبرم الإنسان أمرًا إلاَّ وقد تثبت من كل جزئيةٍ، ومن كل ملابسةٍ، ومن كل نتيجةٍ، فلم يبق هُنالكَ شكٌ ولا شبهة في صحتها: (( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }(الإسراء:9) حقًّا وصدقًا)) اهـ.


إنَّ التفريط في هذا المنهج العظيم، الذي أوصى الله به عباده المؤمنين، لمِن أعظم أسباب الفرقةِ والعدوان والبغضاء، فكم من مظلومٍ في مالهِ أو بدنه أو عرضهِ كان سببُ ذلك التسرع في نقل الأخبار وإشاعتها، دون تمحيصٍ وتثبت، وكم من أواصرَ وصلاتٍ قُطعت بين الأرحام والإخوان، كان سببها عدمُ التثبتِ والقول بالظنون أو بلا علم، بل كم قامت من حروبٍ وفتنٍ وأساسها أخبارٌ وشائعاتٌ وظنونٌ وتهمٌ باطلة.


من أجل ذلك كان لزامًا على كل مسلم يريد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة، وألاَّ يكون سببًا في ظلمِ العباد، وإثارةِ الفتن، أن يعي معنى الآية السابقة ويطبقها في حياته، فيتثبتُ من كلامه قبل أن يدلي به للناس، ويتثبتُ من سماعه، فلا ينقلُ عن أحدٍ مالم يقلهُ أو يقصده.


ويتثبتُ في أحكامهِ ومواقفه.


وإنَّ منهجَ التثبت في القولِ والنقلِ والسماع، لا يستغني عنه مسلمٌ مهما كان مستواهُ من العلم والثقافة، فالعالم في تعليمه العلم، لا بدَّ لـه من التثبت فيما ينقلُ من العلم والأقوال والروايات، والقاضي لا بدَّ له من التثبت من البيانات والشهود، وتفاصيلِ القضايا، والمفتي لا بدَّ لـهُ من التثبتِ من الأدلةِ، وتفاصيلِ الواقعةِ التي يريدُ أن يفتي فيها، والداعيةُ لابدَّ له من التثبتِ فيما يدعو الناس إليه بأنَّهُ الحق، كما أنه محتاجٌ إلى التثبتِ في نقل الأخبارِ وسماعها، وفهمها والحكم عليها، وعامةُ الناس محتاجون إلى التثبتِ فيما يتناقلونه من الأخبار، ويسمعونها عن الأشخاص أو الهيئات أو الأحوال، وبقيةُ طبقاتِ الناس من إعلاميين وتجار، وساسةَ وعسكريون... إلخ.


كل أولئك مُحتاجون إلى هذا المنهج السابق، الذي أوصى الله عز وجل به، وإلاَّ يأخذ به المسلمون في حياتهم وتعاملاتهم تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير.


ويمكن إرجاع أصول التثبت إلى الأصول التالية :




فقد يكون أصلُ الخبر صحيحًا، والمتكلم به غير متهمٌ بالكذب، ولكن قد يتبينُ أنَّ الخبرَ ليس كما نقل، وذلك لعدمِ دقةِ المتكلمِ به في عباراته وعدم استطاعته الإفصاح عما يريد، أو أن نقلهُ للخبر كان بأسلوبٍ ركيكٍ غامض، جعلَ السامع يفهمُ منه غير المقصود، ومن هُنا تنشأ الشائعات إذا تسلسل النقل بهذه الطريقة، ومن هنا يجبُ التثبت من دقةِ عبارةِ المتكلم ووضوحها.


في هذه الحالة قد يكون المتكلم بالخبر دقيقًا في عبارته وأدائه، وهو صادقٌ فيما ينقل، ولكن التثبت ينصبُّ في هذه الحالة على دقةِ فهمِ السامع للكلام المنقول، فقد يكونُ السامع بطيءُ الاستيعاب، سيءُ الفهم، فيفهمُ الكلامُ على غيرِ مقصودهِ، فينقلهُ بعد ذلك لغيرهِ بفهمهِ الخاطئ، ومن هُـنا أيضًا تبدأ الإشـاعات والأكاذيب، مع أنَّ الناقلين لم يؤتـوا من كذبهم فهم صادقون، ولكنهم أتوا من سوءِ فهمهم، وقلة انتباههم، ومن هنا يجبُ التثبت من أنَّ السامع قد فهم الفهم الدقيق الصحيح لما سمع.

وهذه المراحلُ الثلاث من التثبت لا بدَّ للمسلم أن يعيها وهو يتكلمُ بالأخبار، أو يسمعها؛ حيثُ يجبُ عليه تقوى الله عز وجل، فلا يقولُ ولا ينقـلُ إلاَّ صدقًا، وإذا تكلم فليكن منتبهًا في كلامهِ، دقيقًا في عبارتهِ، حتى لا يفهمَ عنهُ الكلامُ على غير حقيقته، وإذا سمع فليرع سمعهُ، ويحضر ذهنهُ حتى يكون فهمه دقيقًا مستوعبًا لما قيل.

وكما هو مطلوبٌ منه أن يتثبت من هذه الأمور في نفسه، فمطلوبٌ منهُ أن يطمئن على وجودها أيضًا في غيرهِ من الناقلين والسامعين.


ولقد كان السلف - رحمهم الله تعالى- حريصين أشدَّ الحرص فيما يقولونهُ ويسمعونهُ من الفتاوى والأقوال، على هذا المنهـج الرباني الكريم، ومن ذلك ما تواتر من الروايات المنقولة عنهم في تحريمهم للإفتاء بغير علم وأن لا يفتي العالم في مسألةٍ حتى يفـهم واقعها وصحة دليلها، ولا يروي روايةً إلاَّ بعد التثبت من صدقها وصحتها.


ومن ذلك ما نقلهُ ابن القيم- رحمه الله تعالى- في آداب المفتي والمستفتي، حيث يقول : »وكان أيوب إذا سألهُ السائل قال له: أعد، فإن أعاد السؤال كما سألهُ عنه أولاً أجابه، وإلاَّ لم يجبه، وهذا من فهمهِ وفطنتهِ- رحمه الله تعالى-، وفي ذلك فوائدَ عديدة: منها أنَّ المسألة تزدادُ وضوحًا وبيانًا بتفهم السؤال، ومنها أنَّ السائل لعلهُ أهمل فيها أمرًا يتغيرُ به الحكم، فإذا أعادها ربما يتبينُ له، ومنها أنَّ المسئول قد يكونُ ذاهلاً عن السؤالِ أولاً، ثم يحضرُ ذهنه بعد ذلك، ومنها: أنَّهُ رُبما بان له تعنت السائل، وأنَّه وضع المسألة؛ فإذا غيَّر السؤال، وزاد فيه ونقصَ فرُبما ظهر لهُ أنَّ المسألةَ لا حقيقة لها، وأنَّها من الأغلوطات أو غير الواقعات التي لا يجبُ الجواب عنها )) أهـ.


ومن هذا النقل يتبينُ لنا بعض جوانب التثبت التي سبق الإشارة إليها.


نسألهُ سُبحانه الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، ونعوذُ به من أن نقترف على أنفسنا سوءًا أو نجرهُ إلى مسلم، والحمد لله رب العالمين.


0
508

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️