الله يتودد إلينا بالبلاء

الملتقى العام

لاحظ أبو غسان فتورا في مشاعر ولديه الشابيين تجاهه ... فغسان ورامي أصبحا يأتيان كل صباح إلى غرفة أبيهما ويمدان يدهما قائلين : (المصروف يا أبي لو سمحت) بشكل روتيني رتيب ... يعطيهما المصروف فيشكرانه على عجل وينطلقان من البيت.
أراد أبو غسان أن يذكر ولديه بأن علاقته بهما ليست علاقة مصروف فحسب ... فعندما جاءا هذه المرة ومدا يديهما لقبض المصروف ، قال لهما أبوهما بلهجة تنبض بالحب الصادق : (أحبكما يا ولديَّ) . كان أبو غسان يتمنى أن تلتقي عيناه بعيني ولديه وهو يقول هذه الكلمات فيقرأ فيهما البهجة والإعتزاز بما قال لهما ... كان يريد أي مؤشر على أن ولديه يحبانه لذاته، لا للمصروف الذي يأخذانه منه.
لكن تجاوب الولدين كان مخيبا للآمال ! هزَا رأسهما قائلين في شرود ذهن: (ونحن كذلك)، أي نحن كذلك نحبك ... وبقيا مادَين يديهما وأنظارهما مثبتة على جيب والدهما، ففيه المصروف !
صُدِم الأب وانقلبت ابتسامته ذبولا وأخرج يده من جيبه دون المحفظة ... انتبه الولدان لما حصل وأدركا عدم لباقتهما في التجاوب مع كلمات أبيهما الرقيقة ... قبضا يدهما وأنزلاها ... حاولا تدارك الموقف:
أما رامي فقال : (أبي أنا آسف ... طبعا أنا أحبك ... أنت أبي الذي رعيتني وأنفقت علي ولا غنى لي عنك) ... كان رامي يقول هذه الكلمات وذهنه في المصروف ، يتوقع أن يمد والده يده في جيبه ويعطيه المصروف ... لكن الأب لم يفعل وبقي صامتا.
فقال رامي : (أبي، رجاء أنا أحتاج المصروف ... أعدك أن أكون أكثر لباقة لكن لا تحرمني من المصروف). لم يتجاوب الأب فتضايق رامي وخرج مغضبا من الغرفة.
وأما غسان، فقد هزَ الموقف كيانه! هو يحب أباه بالفعل، لكن قلبه كان قد ذُهِل عن هذه المحبة بتعلقه بالمصروف في الفترة الماضية. ملامح الأب الذابلة العابسة أيقظت مشاعر غسان، فأدرك كم كان مقصرا في حق أبيه في الفترة الأخيرة ... أدرك أنه كان أنانيا لا يفكر كثيرا في شعور أبيه ولا يجتهد في إدخال البهجة إلى قلبه... اغرورقت عينا غسان بدموع حارة وقال بصوت متهدج: (آسف يا أبي الحبيب... لقد غفلت عنك كثيرا! سامحني أرجوك ... الدنيا كلها لا تساوي ابتسامة منك) ... قال هذه الكلمات وهو يقلب عينيه الدامعتين في وجه أبيه باحثا عن أية بادرة انفراج لعبوسه ... لكن الأب بقي عابسا صامتا وخرج من غرفته وجلس على الأريكة لا يتكلم .
لَـحِقَه غسان وتحرك حول أبيه كالقط، فتارة يقبل يديه وتارة يقبل رأسه وتارة يمسك بيدي والده بين يديه ودموعه منهمرة على خديه وهو يقول: (سامحني يا أبي أرجوك ... أنا أحبك ... تعلم أني أحبك)...
تنازعت الأبَ مشاعرُ متباينة...فهو لا يحب رؤية ولده كسيرا بهذا الشكل، لكنه ما زال مصدوما من جفاء ولديه في أول الأمر، كما أنه يريد مزيدا من الضمانات لصدق محبة غسان...انسحب الأب وعاد إلى غرفته بصمت وأغلق الباب وراءه.
أحس غسان بالضياع فلحقه وقال من وراء الباب مناديا: (أبي أرجوك... لا أطيق الحياة دون رضاك ... لا أستطيع العيش وأنا أراك غضبان حزينا ... لقد أخطأت يا أبي لكني أحبك ... أحبك يا أبي ... أرجوك سامحني ... أرجوك ابتسم في وجهي ... أرجوك ضمني إلى صدرك) ... وتعالى صوت بكاء غسان كطفل فزعٍ تركته أمه في صحراء وتولَّت عنه.
حينئذٍ انهار سد الجفاء في قلب الأب أمام دموع غسان ... فتح الباب ورفع ولده الذي كان جاثيا على ركبتيه وضمَّه إلى صدره وجعل يمسح دموعه ويقبل رأسه... استمر بكاء غسان، لكنه الآن بكاء فرحة وحنينٍ أُشبعَ ...
مدَ الأب يده في جيبه ليستخرج مصروف غسان، لكن غسان أعاد المحفظة إلى جيب أبيه وقال له وهو ملتصق بصدره (دعنا الآن من المصروف ... أريدك أنت يا أبي الحبيب. ما دمت راضيا عني فالدنيا كلها تهون).

ولله المثل الأعلى ... قد يعلم الله تعالى من عباده جفافا في محبتهم له, وتعلقا بنعيم الدنيا الذي يمنحهم إياه... هو تعالى يتودد إلى عباده ويحب منهم أن يبادلوه الود ودَّاً ... فإذا رأى منهم جفاءً وغفلة قطع عنهم نعمة من النعم ليهز كيانهم ويوقظهم من غفلتهم لعلهم ينتبهون إلى حقيقة أن النعمة ألْـهَتهم عن المنعم...
أما فقير المشاعر كـ "رامي"، فلا يفهم هذه الأبعاد، بل لا يزال في غفلته قد سيطر "المصروف" على تفكيره... فيستغفر الله ويجتهد في الطاعات ليسترجع "المصروف". ليست مصيبته في عتاب الله له، إنما مصيبته قطع "المصروف"! بلادةٌ في التفكير وقصور في النظرة وفقر في المشاعر وأنانية في التعامل! لا يفكر إلا فيما يأخذه، ولا يرى من واجبه أن يعطي.
وأما صاحب الحس المرهف والقلب الحي كـ "غسان" ، فإن قطع "المصروف" يزيل عن عينيه الغشاوة ليبصر المصيبة الحقيقية، أنه قصر في حق الله تعالى وغفل عنه... فكل ما يسيطر على كيانه هو كيف يسترضي الله تعالى ويبرهن له على أنه يبادله الود ودَّاً ... أما عودة "المصروف" فتصبح قضية ثانوية ... لأنه قد يعيش، ولو بصعوبة، دون المصروف، لكنه لا يطيق لحظةً من الضياع الذي سيعانيه إن فقد معيَّة الله تعالى أو أحس بأن الله لا يحبه.
في النهاية، قد يعود "المصروف" للاثنين: (( كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا )).
لكن الأول، فقيرَ الشعور، سيخرج من البلاء كما دخل فيه لم يستفد شيئاً... ما دام يرى عودة "المصروف" غاية الآمال ومنتهى الطموحات. وأما الثاني فإن المحنة كانت أكبر منحة له، حيث أطلقت روحه من قيد الغفلة لتدور في فلك محبة الله تعالى... ((هل يستويان مثلاً)).
ورد عن السلف أن بعضهم كان يبتلى بمرض أو غيره وقد عرف عنه أنه مستجاب الدعوة، ومع ذلك لايدعو الله تعالى بكشف البلاء...ستقول: هذه المرويات فيها مبالغة. ربما نعم، ولكننا إذا فهمنا المعاني المذكورة هنا فلا نستبعد أن يحصل ذلك...فلعل هذا المبتلى فهم البلاء على أنه تذكرة من الله تعالى بأنك قد غفلت عن خالقك، ويريد ربك منك أن تبادله التودد توددا...فيسيطر هذا التفكير على كيان المؤمن المبتلى ويعيد حساباته ليكتشف مواطن الغفلة ويُنَشِّط معاني المحبة في قلبه ويتفنن في البرهنة لربه على صدق محبته له سبحانه...
مثل هذا التفكير لايبعد أن يشغل المؤمن عن الدعاء بكشف البلاء ...بل قد يرى إعطاء الأولوية للدعاء بكشف البلاء سوء أدب لأنه يدل على عدم اعتناء بالسبب الذي من أجله ابتُلي (التذكرة بمبادلة التودد توددا)، ولأنه يعلم أن استمرار البلاء أدعى لرده إلى دائرة محبة الله...فهو ينشغل بإعمار قلبه بمعاني المحبة من جديد، ويكِل أمر توقيت رفع البلاء إلى الله ويثق بحكمته تعالى في ذلك ورحمته.
انظر إلى الابتلاء بإيجابية، لا على أنه عقوبة محضة، بل هو بشكل من الأشكال تودد من الله! رأى منا غفلة عنه وجفافا في عاطفتنا تجاهه، فابتلى لنراجع أنفسنا، فنستحي، فنحب، ونتودد... لله رب العالمين.
15
942

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

أم أسامه الصغير
أم أسامه الصغير
قصة رائعه وذات مغزى بارك الله فيك اختي
و جــزاك الله الــفــردوس من الــجــنــه
الّلهُمّ إكتُبنَـا مِن أهلْ الفِـرْدَوسْ الـأعلىُ مِن الجَن?ْ،
وإرزُقنا جِوار الحْبيب المُصْطَفَى‘(♥) ==> الّلهـــُـم آميــــِـِـِـِـــــــنْ~
ملكة على المملكة
ملكة على المملكة
قصة رائعه وذات مغزى بارك الله فيك اختي و جــزاك الله الــفــردوس من الــجــنــه الّلهُمّ إكتُبنَـا مِن أهلْ الفِـرْدَوسْ الـأعلىُ مِن الجَن?ْ، وإرزُقنا جِوار الحْبيب المُصْطَفَى‘(♥) ==> الّلهـــُـم آميــــِـِـِـِـــــــنْ~
قصة رائعه وذات مغزى بارك الله فيك اختي و جــزاك الله الــفــردوس من الــجــنــه الّلهُمّ...
احسن الله اليك
هايدي غير
هايدي غير
رائعه جعلت ف موازين حسناتك...جعلتني اراجع حساباتي
مين فيكم عبيرخخخ
مين فيكم عبيرخخخ
جزاكي الله خييير الله يفرج كربتنا ياكريم
فلونـــه
فلونـــه
قصه رائعه
جزاك الله خير