في براري مكــــة المترامية الأطراف ...
حيث تمتد الصحراء موحشة جرداء ..
وتقوم المرتفعات قاسيةً كالحة ..لها في جوف الليل رهبة في النفوس ..!
هناك ... كان يقبع غار حراء !
حيث كان الرسول يتحنث ويناجى ربه ..!
وفي يومٍ غربت فيه الشمس وحل الظلام ...
وتناثرت النجوم فى الســــمـــاء , ولـــم يبد القــمـــر للعيان ..
لان تلك الليلة كانت من الليالى الأخيــــرة في شهر رمضان
في تلك الليلة المباركة ...
جاءه الحق وهو في غمرة تهدجه وابتهاله.. فإذا بالنور يغمر ماحوله...!
وإذا بالروح جبريل يتنزل بأول آيات القرآن ..!
فكانت تلك هي البداية
وتلك هي الليلة . .. حيث تتفتح أبواب السماء ...
ويستجاب الدعاء
ويعم الكون الســـــلام ...
وتتنزل المـــــلائكة بإذن الله
كانت هى لــــيلـــــة الــــقــــدر..! خيرٌ من ألف شهر !
تلك الليلة وماصاحبها من حدث عظيم ضخم إلى أبعد الحدود ..
هي أعظم لحظة مرت بها الأرض وتمر بها في تاريخها الطويل
حتى يرث الله الأرض ومن عليها !
تلك التي سطعت فيها حقيقة أن الله مالك الملك ... العظيم الجبار
القهارالمتكبر ..
قد تكرم في مجده وعلاه فالتفت إلى هذا المخلوق المسمى الإنسان
فكرمه باختيار واحد منه ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومهبط كلماته ، ومستودع حكمته ..!
فما أعظم أن يستشعر هذا المخلوق الفاني وقع هذه العناية الربانية به ..!
ويتذوق حلاوة هذا الشعور..!!
ويتلقاه بالشكر والخشوع والخضوع والابتهال !.
إن لهذا الحادث دلالة عظيمة في أن الله ذوالفضل الواسع ، والرحمة السابغة ،
قد أفاض على الإنسان ، وأكرمه كرامة لايستطيع أن يتصورها ،
ولا يملك شكرها،ولو قضى عمره راكعاً ساجداً..!
وهل أعظم من نعمة أن يلتفت الله إليه ، ويصله به ..!
ويختار من جنسه رسولاً يوحي إليه بكلماته ...!
ويجعل مسكنه الأرض مهبطاً لهذه الكلمات
التي تتردد لها جنبات الكون في خشوع !!!
منذ تلك الليلة التي تنزل فيها القرآن ...
تحول خط الضمير الإنساني ، وتحددت تطلعاته وقيمه ...
وآمن أنها تأتي من وحي السماء الإلهي ، وليس من هوى الأرض ..!
وهكذا عاش أهل الأرض منذ أن اعتنقوا هذه الحقيقة
واستقرت في أرواحهم .. في رعاية الله ..
عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل صغيرة وكبيرة من أمرهم ،
يحسون بعين الله تحرسهم ، ويد الله ترعاهم ، وتقودهم إلى طريق الصواب ،
وكانوا يبيتون كل ليلة في ارتقاب الوحي أن يتنزل من الله ..
يحدثهم بما في نفوسهم ، ويبين لهم مايأخذوا وما يدعوا !
لقد كانت فترة الوحي التي استمرت ثلاث وعشرين عاماً،
فترة من أجل فترات تاريخا لبشرية ..
لايتصور حقيقتها إلا من عاشوها وأحسوها ، وشهدوا بدايتها ونهايتها...
وذاقوا حلاوة اتصال وحي السماء بالأرض !
والتلقي من السماء بدل التلقي من الأرض ..!
والاستمداد من الوحي بدل الاستمداد من الهوى. ..!
والارتقاء بالروح في ظل الإسلام .. بدل تمرغها في ظلمة الجاهلية ..!
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء .. واستمداد شريعته من الوحي ..!
وتحول خط التاريخ منذ تلك الفترة العظيمة - فترة نزول الوحي -
كما لم يتحول من قبل .. فكان هذا مفرق الطرق ،
حيث اتضحت للضمير الإنساني صورة الوجود والحياة والقيم
كما لم تتضح من قبل ،
ولن يجيء بعدها تصور بمثل هذا الشمول والنصاعة والواقعية الملائمة للحياة الإنسانية !
إنه المنهج الإلهي الذي اقره الله تعالى في الأرض وبيّن خطوطه ومعالمه
وبينه للناس.. فلا غموض فيه ولا إبهام .. ولكن تفصيل وتوضيح ..
فمن ضلّ فعن علم ، ومن انحرف فعن عمد ، ومن تراجع فعن قصد !
ألا ماأجل وأعظم هذا الحادث الكوني الذي ترددت له جنبات الوجود ،
والذي كان فرقاناً في تاريخ البشرية كلها إلى يوم يبعثون !
فلنلتفت إلى عظمة هذه الليلة التي شهدت ميلاداًجديداً للإنسان...!
مرّ الزمان به عليه...مرّة واحدة ..!
مرّةً عظمتها لاتزال باقية .. تتجدد كل عام ..
حيث تشرع أبواب السماء ..
حيث كانت أول لحظات اتصال الرسول الكريم بالملأ الأعلى.
وأول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختاره الله تعالى لها ..
توجهه إلى أن يقرأ باسم الله :
« اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق .
اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان مالم يعلم ».
« اللهمّ إنّك عفُوٌ تحبّ العفوَ فاعفُ عنّا »