Muslima
Muslima
وهكذا يربَّي لقمان ابنه على منهج العبادة، حيث أن العبادة في الإسلامِ تربي الإنسان المسلم على الوعي الفكري الدائم، وهذا ما يجعله إنسانًا منطقياً واعياً في كل أمور حياته، ومنهجياً لا يقوم بعمل إلا ضمن خطة ووعي وتفكير، إلى جانب ذلك فهو في يقظة دائمة يراقب الله في كل أعماله.

وإضافة إلى ما سبق فإن العبادة تربي في الإِنسان المسلم الشعور بالعزة والكرامة، قال تعالى }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.

خامسًا: الآداب الاجتماعية: يستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى آداب الداعية إلى الله، فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم إِلى الخير، ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل.

يقول لقمان وهو يعظ ابنه:{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍوَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } . فمن الآيتين الكريمتين السابقتين يتضح أن الآداب المتضمنة في تلك الموعظة هي كالتالي:

1] {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاس} ينهى ابنه عن الكبر، والمعنى أن لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم، أو كلموك احتقاراً منك لهم، واستكباراً عليهم، ولكن ألن جانبك، وابسط وجهك إليهم. والصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها، والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر: حركة الكبر والازورار، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار. والتكبر ليس من أخلاق المؤمن، والإِنسان كلما تواضع لله رفعه الله، وكلما تكبر عليه وضعه وقصمه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: رواه مسلم.

فظهر بهذا أن أولى الأخلاق التي يرغب لقمان في غرسها في ابنه: عدم التكبر على الناس، والتواضع لهم.

2] {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً...} يعني: ولا تمش في الأرض مشية تبختر واختيال، ولذلك ختم الله الآية بما يناسب هذا المعنى فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي لا يحب كل مختالٍ على الناس، مستكبر عليهم بمشيته بينهم، أو بإعراضه عنهم، ولا يحب كل فخور على الناس بنفسه، أو بما أتاه الله من قوة، أو مالٍ، أو نسبٍ، أو جاهٍ، أو ذكاء قلب، أو جمال وجه، وحسن طلعة.

3] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...} بعدما نهى لقمان ابنه عن مشيه المرح وصعر الخد أمره بالمشية المعتدلة القاصدة، فقال:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} والقصد هنا من الاقتصاد، وعدم الإِسراف، وعدم إضاعة الطاقة في التبختر، والتثني والاختيال، ومن القصد كذلك؛ لأن المشية القاصدة إلى هدف لا تتلكأ، ولا تتخايل، ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق. ولقد نهى الله تعالى المسلم أن يسير مسرع الخطى وهو يلهث، كما نهاه أن يبطئ في مشيه وهو خامل كسول، إنما عليه أن يتوسط في مشيه.

فإذا وضعت أسس التربية على أساس من التوازن والاعتدال- كما أوضحتها النظرة الإسلامية- لاعتدل الأمر، وما تحولت الوسائل إلى غايات، وما انحرفت بنا الطريق بين غلو وتقصير، وإفراط وتفريط. والتربية الإِسلامية تهتم بالتركيز على التوازن بين إشباعات النفس، ومطالبها، وبين عفتها وقناعتها، وهذا وارد في قوله تعالى: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ … }.

فالوسط الإسلامي هو التوازن في الفكر والسلوك والتطبيق، من أجل ذلك طلب لقمان ابنه أن يتوسط في مشيته، والمراد من ذلك أن تكون مشيته ما بين الإسراع والبطء أي لا تدب دبيب المتماوتين ولاتثب وثب الشطار.

4] {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي: لا تتكلف رفع صوتك، وخذ منه ما تحتاج إليه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي، والمراد بذلك التواضع. وغض الصوت فيه أدب، وثقة بالنفس، واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته.. والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة، بشعة حين يعقب عليه بقوله:{إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.

قال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير. وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاوناً بهم، أو بترك الصياح جملة.

يتضح من الوصايا التي وصى بها لقمان ابنه أنها تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، وإلى مرتكبها إن كانت نهياً: فأمره بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك، وبين له الموجبة لتركه.

وأمره ببر الوالدين وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكره وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما مالم يأمرا بمعصية ومع ذلك فلا يعقهما بل يحسن إليهما، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك.

وأمر بمراقبة الله، وخوّفه القدوم عليه، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر إلا أتى بها. وأمره بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر كما قال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ...}.

ونهاه عن التكبر وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك.. فحقيق من أوصى بهذه الوصايا أن يكون مخصوصًا بالحكمة، مشهورًا بها، ولهذا من منّة الله على عباده أن قصر عليهم من حكمته ما يكون لهم به أسوة حسنة.

فالوصايا السابقة هي منهج الآداب السامية التي يؤدب الله عباده ذلك؛ لأن في امتثالها فلاحهم دنيا وآخرة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم يرون آثارها التربوية في توجيه وتهذيب سلوكهم، وتعمل على زيادة الألفة و المحبة بينهم كما يؤدي هذا إلى تماسك مجتمعهم.

من بحث:
' معالم أصول التربية الإسلامية من خلال وصايا لقمان لابنه'
د./ عبد الرحمن بن محمد عبد المحسن الأنصاري


منقول من موقع الازهر الشريف
honey_lipes
honey_lipes
جزاك الله خيرا
Muslima
Muslima
honey_lipes بارك الله فيك