حب المسلمين
حب المسلمين
الشبهة الثانية : أنَّ النجاشي لم يحكم بما أنزل الله ومع ذلك كان مسلماً



واحتج أهلُ الأهواء أيضاً بقصة النجاشي للترقيع لطواغيتهم المشرِّعين سواءً كانوا حكاماً أو نوّاباً في البرلمان أو غيرهم...

فقالوا: إنَّ النجاشي لم يحكم بما أنزل الله تعالى بعد أن أسلم وبقي على ذلك إلى أن مات ومع هذا فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبداً صالحاً وصلى عليه وأمر أصحابه بالصلاة عليه.

فنقول وبالله تعالى التوفيق:

أولاً: يلزم المحتج بهذه الشبهة المتهافتة قبل كلِّ شيءٍ أن يثبت لنا بنصٍ صحيحٍ صريحٍ قطعي الدلالة أنَّ النجاشي لم يحكم بما أنزل الله بعد إسلامه.. فقد تتبعتُ أقاويلهم من أولها إلى أخرها.. فما وجدتُ في جعبتهم إلا استنباطات ومزاعم جوفاء لا يدعمُها دليلٌ صحيحٌ ولا برهانٌ صادقٌ، وقد قال تعالى: {قل هاتوا بُرهانكم إن كنتم صادقين} (69). فإذا لم يأتوا بالبرهان على ذلك فليسوا من الصادقين بل هم من الكاذبين..

ثانياً: إنَّ مِن المسَلَّم به بيننا وبين خصومنا أنَّ النجاشي قد مات قبل اكتمال التشريع.. فهو مات قطعاً قبل نزول قوله تعالى: {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلام ديناً...} (70). إذ نزلت هذه الآية في حَجة الوداع، والنجاشي مات قبل الفتح بكثير كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى وغيره..(71).

فالحكمُ بما أنزل الله تعالى في حقه آنذاك؛ أن يحكم ويتبع ويعمل بما بلغه من الدين، لأن النذارة في مثل هذه الأبواب لابد فيها من بلوغ القرآن قال تعالى: {وأُوحِيَ إليَّ هذا القرآن لأُنذركم به ومن بلغ..} (72). ولم تكن وسائل النقل والاتصال في ذلك الزمان كحالها في هذا الزمان إذ كانت بعض الشرائع لا تصل للمرء إلا بعد سنين وربما لا يعلم بها إلا إذا شدَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرحال... فالدينُ ما زال حديثاً والقرآنُ لا زال يتنزل والتشريعُ لم يكتمل... ويدل على ذلك دلالةً واضحة.. ما رواه البخاريُّ وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (كنا نُسلِّم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه، فلم يرد علينا، وقال: إنَّ في الصلاة شغلاً).. فإذا كان الصحابة الذين كانوا عند النجاشي بالحبشة مع العلم أنهم كانوا يعرفون العربية ويتتبعون أخبار النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغهم نسخ الكلام والسلام في الصلاة مع أنَّ الصلاة أمرها ظاهر لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلي بالنّاس خمسَ مراتٍ في اليوم والليلة... فكيف بسائر العبادات والتشريعات والحدود التي لا تتكرر كتكرر الصلاة؟.

فهل يستطيع أحدٌ من هؤلاء الذين يدينون بشرك الديمقراطية اليوم أن يزعم أنه لم يبلغه القرآن والإسلام أو الدين حتى يَقيس باطله بحال النجاشي قبل اكتمال التشريع...؟.

ثالثاً: إذا تقرر هذا فيجب أن يُعلم أنَّ النجاشي قد حكم بما بلغه مما أنزل الله تعالى، ومَنْ زعم خلافَ هذا، فلا سبيل إلى تصديقه وقبول قوله إلا ببرهان {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.. وكلُّ ما يذكره المستدلون بقصته يدلُ على أنَّه كان حاكماً بما بلغه مما أنزله الله تعالى آنذاك...

1) فمما كان يجبُ عليه آنذاك من اتباع ما أنزل الله: (تحقيق التوحيد والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبأنَّ عيسى عبدُ الله ورسوله)... وقد فعل. انظر ذلك فيما يستدل به القوم.. رسالته التي بعثها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. ذكرها عمر سليمان الأشقر في كُتيّبه: (حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية) (73).

2) وكذا بيعتَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والهجرة، ففي الرسالة المشار إليها آنفاً يذكر النجاشي: (أنه قد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايع ابنٌ له جعفر وأصحابه وأسلم على يديه لله ربِّ العالمين، وفيها أنه بعثَ إليه بابنه أريحا بن الأصحم ابن أبجر، وقوله: إنْ شئتَ أن آتيك فعلتُ يا رسول الله فإنني أشهدُ أنَّ ما تقولُ حق). فلعلَّه مات بعد ذلك مباشرة، أو لعلَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ منه ذلك آنذاك... كلُّ هذه أمور غير ظاهرة ولا بينة في القصة فلا يحل الجزم بشيء منها والاستدلال به، فضلاً عن أن يُناطح به التوحيد وأصولُ الدين!.

3) وكذا نصرةُ النبي صلى الله عليه وسلم ودينه وأتباعه، فقد نصر النجاشي المهاجرين إليه وآواهم وحقّق لهم الأمن والحماية، ولم يخذلهم أو يُسلمهم لقريش، ولا ترك نصارى الحبشة يتعرضون لهم بسوء رغم أنهم كانوا قد أظهروا معتقدهم الحق في عيسى عليه السلام... بل ورد في الرسالة الأخرى التي بعثها إلى النبي صلى الله عليه وسلم (وقد أوردها عمر الأشقر في كتابه المذكور صفحة 73) أنه بعث بابنه ومعه ستون رجلاً من أهل الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم... وكلُّ ذلك نصرةً له واتباعاً وتأييداً..

ومع هذا فقد تهوّر عمر الأشقر فجزم في كتابه المذكور أنَّ النجاشي لم يحكم بشريعة الله وهذا كما عرفتَ كذبٌ وافتراءٌ على ذلك الموحِّد.. بل الحق أن يُقال إنه حكم بما بلغه مما أنزل الله آنذاك، ومن زعم خلافه فلا يُصدق إلا ببرهانٍ صحيحٍ قطعيّ الدلالة، وإلا كان من الكاذبين {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وهو لم يأتِ على دعواه هذه بدليلٍ صحيحٍ صريح، لكن تتبع واحتطب من كتب التاريخ بليلٍ أموراً ظنها أدلة.. والتواريخ معروفٌ حالها...

يقول القحطاني الأندلسي - رحمه الله تعالى - في نونيته:

لا تقبلن من التوارخ كلما جمع الرواة وخط كلَّ بنانِ

اروِ الحديث المنتقى عن أهله سيما ذوي الأحلام والأسنانِ


فيقال له ولمن تابَعَه: (أثبتوا العرش ثم انقشوا)..

رابعاً: إنَّ الصورة في قصة النجاشي لحاكم كان كافراً ثم أسلم حديثاً وهو في منصبه، فأظهر صدق إسلامه بالاستسلام الكامل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنْ يُرسل إليه ابنه وبرجال من قومه ويبعثُ معهم إليه يستأذنه بالهجرة إليه ويظهرُ نصرتَه ونصرةَ دينه وأتباعه، بل ويظهرُ البراءة مما يُناقضه من معتقده ومعتقد قومه وآبائه... ويُحاول أن يطلب الحق ويتعلم الدين وأن يُسدد ويُقارب إلى أن يلقى الله على هذه الحال وذلك قبل اكتمال التشريع وبلوغه إليه كاملاً... هذه هي الصورة الحقيقية الواردة في الأحاديث والآثار الصحيحة الثابتة في شأنه.. ونحن نتحدى مخالفينا في أن يثبتوا غيرها.. لكن بدليل صريحٍ صحيحٍ أما التواريخ فلا تُسمن ولا تُغني من جوع وحدها دون إسناد...

أما الصورة المستدل لها والمقيسة عليه فهي صورةٌ خبيثةٌ مختلفةٌ كلَّ الاختلاف، إذ هي صورةُ فِئامٍ من النَّاس ينتسبون إلى الإسلام دون أن يتبرؤوا مما يُناقضه، بل ينتسبون إليه وإلى ما يُناقضه في الوقت نفسه ويفتخرون بذلك، فما تبرؤوا من دين الديمقراطية كما برِىء النجاشي من دين النصرانية، كلا.. بل ما فتِئُوا يمدحونها ويُثنون عليها ويسوّغونها للنَّاس ويدعونهم إلى الدخول في دينها الفاسد.. ويجعلون من أنفسهم أرباباً وآلهةً يُشرِّعون للنَّاس من الدين ما لم يأذن به الله.. بل ويُشاركون معهم في هذا التشريع الكفري الذي يتمُ وِفقاً لبنود الدستور الوضعي من يتواطأ معهم على دينهم الكفري من نواب أو وزراء أو غيرهم من الشعوب... ويُصِرُّون على هذا الشرك ويتشبثون به بل ويذمون من حاربه أو عارضه أو طعن فيه وسعى لهدمه... وهذا كلُّه بعد اكتمال الدين، وبلوغهم القرآن بل والسنَّة والآثار..

فبالله عليك يا مُنصف كائناً من كُنتَ، أيصحُ أنْ تُقاس هذه الصورةُ الخبيثةُ المنتنةُ المظلمةُ مع ما جمعَتْهُ من الفوارق المتشعّبة.. بصورةِ رجلٍ حديث عهد بالإسلام يطلب الحق ويتحرى نُصرته قبل اكتمال التشريع وبُلوغه إليه كاملاً.. شتان شتان بين الصورتين والحالين...

والله ما اجتمعا ولن يتلاقيا حتى تشيبَ مفارقُ الغربانِ


نعم قد يجتمعان ويستويان لكن ليس في ميزان الحق.. بل في ميزان المطففين ممن طمس الله على أبصارهم فدانوا بدين الديمقراطية المناقضِ للتوحيد والإسلام.

{ويلٌ للمطففين * الذين إذا اكتالوا على النَّاس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون * ألا يظن أُولئك أنهم مبعوثون * ليومٍ عظيم} (74).


--------------------------------------------------------------------------------

(69) سورة البقرة، الآية 111.
(70) سورة المائدة، الآية 3.
(71) انظر البداية والنهاية: ج 3 ص 277.
(72) سورة الأنعام، الآية 19.
(73) الصفحة 71 من كتابه المذكور وهي في زاد المعاد: ج3 ص60.
(74) سورة المطففين، الآيات 1-5.
حب المسلمين
حب المسلمين
الشبهة الثالثة : تسمية الديمقراطية بالشورى لتسويغها



هذا وقد استدل بعض عِميان البصائر وخَفافِيش الدُجى لدينهم الكفري الباطل هذا (الديمقراطية) بقوله تعالى عن المؤمنين الموحِّدين {وأمرهم شورى بينهم} وبقوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {وشاورهم في الأمر}. فسموا ديمقراطيتهم العفنة بالشورى لإسباغ الصبغة الدينية الشرعية على هذا المذهب الكفري ومن ثم تسويغه وتجويزه..

فنقول وبالله التوفيق:

أولاً: إنَّ تغيير الأسماء لا قيمة له ما دامت الأشياء أو الحقائق هي هي... وبعض الجماعات الدعوية التي تنتهج هذا المذهب الكفري وتدينُ به تقول: (نحن نعني بالديمقراطية حين نُنادي بها ونُطالب بها ونُشجعها ونسعى لها وبها "حرية الكلمة والدعوة") (75). ونحو ذلك من الشقشقات..

فنقول لهم: ليس المهم ما تعنونه أنتم وما تُرقعونه وتتوهمونه.. لكن المهم ما هي الديمقراطية التي يطبقها الطاغوت ويدعوكم للدخول فيها وتُجرى الانتخابات من أجلها ويكون التشريع والحكم الذي ستشاركون فيه وِفقاً لها.؟ فإنْ ضحكتم على النَّاس وخادعتموهم، فلن تستطيعوا ذلك مع الله {إنّ المنافقين يُخادعون الله وهو خادعهم} (76). {يُخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} (77). فتغيير أسماء الأشياء لا يُغيِّر أحكامها ولا يُحل حراماً أو يُحرِّم حلالاً... يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَيَسْتَحِلَّنَ طائفةٌ مِنْ أُمّتي الخمرَ باسمٍ يُسَمُّونَها إِيَّاه) (78).

هذا وقد كفّر العلماء من سبَّ التوحيد أو حاربه وهو يُسميه دين الخوارج أو التكفير.. وكفّروا من حسَّنَ الشرك وسوّغه أو فعله وهو يُسميه بغيرِ اسمه(79).كما يفعل هؤلاء فيُسمُّون دينَ الكفر والشرك (الديمقراطية) بالشورى.. لتجْويزه وتسويغِه ودعوةِ النَّاس إلى الدخول فيه.. فبُعداً بُعداً...

ثانياً: إنَّ قياس ديمقراطية المشركين على شورى الموحِّدين وتشبيه مجلس الشورى بمجالس الكفر والفسوق والعصيان تشبيهٌ ساقطٌ وقياسٌ باطلٌ مُتهافت الأركان، فقد علمتَ أنَّ مجلس الشعب أو الأمة أو البرلمان معقلٌ من معاقل الوثنية وصرحٌ من صُروح الشرك، تُنصب فيه آلهة الديمقراطيين وأربابهم المتفرقون وشركاؤهم الذين يُشرِّعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله وِفقاً لدساتيرهم وقوانينهم الأرضية(80). قال تعالى:{ءأربابٌ متفرقون خيرٌ أمِ الله الواحدُ القهّار * ما تعبدونَ من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وءَاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطانٍ إنِ الحكمُ إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّمُ ولكنَّ أكثرَ النّاسِ لا يعلمونَ} (81).

وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (82).

فهذا القياس هو من قبيل قياس الشرك على التوحيد والكفر على الإيمان.. وهو من القول على الله بغير علم والإفتراء على دينه والكذب على الله، والخوض والإلحاد في آياته سبحانه وتلبيس الحق على الخلق بالباطل، والنّور بالظلام..

إذا تبيّن هذا فليعلم المسلم أنَّ الفوارق الجليّة بين الشورى التي شرعها الله لعباده، وبين الديمقراطية العفِنة هي كما بين السماء والأرض...بل هي في عِظَمها كعِظم الفارق بين الخالق والمخلوق.

فالشورى نظامٌ ومنهجٌ ربانيٌّ.. والديمقراطية من صنع البشر الناقصين الذين تتخللهم الأهواءُ والنزوات.

الشورى من شرع الله تعالى ودينه وحكمه... والديمقراطية كفرٌ بشرع الله ودينه ومناقضةٌ لحكمه.

والشورى تكون فيما لا نصَّ فيه، أما عند ورود النص فلا شورى، يقول الله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسولُه أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (83). أما الديمقراطية فهي استخفافٌ وتلاعبٌ في كلِّ باب ولا اعتبار فيها لنصوص الشرع وأحكام الله ولكن الاعتبار كلِّ الاعتبار في الديمقراطية هو لحكم الشعب وتشريع الشعب في كلِّ المجالات(84). لذا عرَّفوها في دساتيرهم بقولهم: (الأمة مصدر السلطات جميعاً).

والديمقراطية تَعتبر الشعب أعلى سلطة في الوجود وهي حكم أكثرية الشعب وتشريع الأكثرية ودين الأكثرية، الأكثرية تحلِّل والأكثرية تحرِّم... فالأكثرية هي الإله والربُّ في الديمقراطية... أما في الشورى فالشعب أو الأكثرية هي الملتزمة المأمورة بالسمع والطاعة لله ولرسوله ثم لإمام المسلمين، ولا يُلْزم الإمام برأيِ الأكثرية ولا حُكمِها وإنما الأكثرية مأمورةٌ بالسمع والطاعة للأئمة وإن جاروا ما لم يأمروا بمعصية (85).

فالديمقراطية ميزانها وإلهها الأكثرية، وهي مصدر السلطات جميعاً.. أما الشورى فليس للأكثرية فيها أثرٌ ولا ميزان بل قد حَكَم الله على الأكثرية بحكمٍ واضحٍ في كتابه فقال:

{وإنْ تُطع أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} (86). {وما أكثرُ النّاس ولو حرصتَ بمؤمنين} (87). {وإن كثيراً من الناس بلقائ ربهم لكافرون} (88). {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} (89). {ولكن أكثر النّاس لا يشكرون} (90). {ولكن أكثر النّاس لا يؤمنون} (91). {ولكن أكثر النّاس لايعلمون} (92). {فأبى أكثر النّاس إلا كفوراً} (93).

هذا من كلام الله وهو كثير.. ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما النّاس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.. وفي البخاري أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: يا آدم.. أخرجْ بعثَ النّار. قال وما بعثُ النّار؟ قال: مِنْ كلِّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضعُ كلُّ ذاتِ حملٍ حملها، وترى النّاس سُكارى وما هم بسُكارى ولكنَّ عذاب الله شديد) هذا شرع الله ودين الله يبيّن ضلال الأكثرية وانحرافهم، ولذلك يحكم الله سبحانه فيقول: {إنِ الحكمُ إلا لله} (94).

وتأبى الديمقراطية ودعاة الديمقراطية ويرفضون الاستسلام لحكم الله وشرعه ويعاندون ويقولون: (إنِ الحكمُ إلا للأكثرية) فتباً وسُحقاً لمن تبعهم وسار على دربهم وهتف لديمقراطيتهم مهما طالت لحيته أو قَصُر ثوبُه كائناً من كان.... نقولها لهم في الدنيا لعلهم يؤوبون ويرجعون، خيراً لهم وأهون من أن يسمعوها في الموقف العظيم يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين فيقصدون حوضَ النبي صلى الله عليه وسلم فتحجزهم الملائكة ويقال: إنهم بدّلوا وغيّروا فيقولها النبي صلى الله عليه وسلم: (سُحقاً سُحقاً لمن بدّل بعدي)...(95).

وهكذا فالديمقراطية مبنىً ومعنىً نشأت في تُربة الكفر والإلحاد وترعرعت في منابت الشرك والفساد في أوروبا حيث فصلوا الدين عن الحياة، فنشأت هذه اللفظة في تلك الأجواء التي تحمل كلَّ سمومها وفسادها لا علاقة لجذورها بتربة الإيمان أو رِي العقيدة والإحسان.. ولم تستطع أن تثبت وجودها في العالم الغربي إلا بعد أن تم فصل الدين عن الدولة هناك، فأباحت لهم اللواط والزنا والخمر واختلاط الأنساب وغير ذلك من الفواحش ما ظهر منها وما بطن... لذلك لا يجادل عنها ويمدحها ويُساويها بالشورى إلا اثنان لا ثالث لهما إما ديمقراطيٌّ كافرٌ أو سفيهٌ جاهلٌ بمعناها ومحتواها..

والله لستَ بثالثٍ لهما بلى إما حماراً أو من الثيرانِ


وهذا زمانٌ اختلطت فيه المصطلحات واجتمعت فيه المتناقضات، وليس العجب أن يتغنى بمثل هذه المذاهب الكفرية كثير من أولياء الشيطان، وإنما العجبُ أن يُشجِّعها ويُسوِّغها ويُسبغ عليها الصبغة الشرعية كثيٌر ممن ينتسبون إلى الإسلام.. فبالأمس عندما فُتِنَ النَّاس بالاشتراكية خرج علينا بعض النّاس ببدعة (اشتراكية الإسلام) وقبلها القومية والعروبة ومزجوها مع الإسلام.. واليوم يتغنى كثيٌر منهم بالدساتير الأرضية ولا يستحيون من تسمية عبيدها (بفقهاء القانون) تشبيهاً (بفقهاء الشريعة) ويستعملون نفسَ الألفاظ الشرعية؛ كالمشرِّع والشريعة والحلال والحرام والجائز والمباح والمحظور، ثم ومع هذا يحسبون أنهم على شيءٍ بل يحسبون أنهم مهتدون... فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم... وما هذا والله إلا من ذهاب العلم والعلماء وإسناد الأمر إلى غير أهله وخُلُوِّ الجوّ والزمان لأراذل من الورى يتخبطون فيه كما يحلو لهم...

خلا لكِ الجو فبيضي واصفري..

فيا حسرةً على العلم والعلماء، ويا أسفاه على الدين ودُعاته الربانيِّين المخلصين... والله إنه لغريبٌ غربةً ما مثلها غربة، ولا أقول بين عوام النَّاس بل بين كثير من المنتسبين إلى الإسلام ممن لا يفقهون معنى (لا إله إلا الله) ولا يعرفون لوازمها ومقتضياتِها وشروطَها، بل أكثرهم ينقضها بالليل والنهار، ويتلطخون بشرك العصر وذرائعه ثم يحسبون أنهم موحِّدون بل يزعمون أنهم من دعاة التوحيد فليُراجعوا أنفسهم وليجلسوا في حلقِ العلم ليتعلموا حقيقة (لا إله إلا الله) فإنها أول ما افترض الله على ابن آدم تعلمه، وليتعلموا شروطَها ونواقضَها قبل نواقض الوضوء والصلاة فإنه لا يصح وضوءٌ ولا صلاةٌ لمن نقضها... فإنْ أعرضوا واستكبروا فهم وحدهم بذلك الخاسرون..

وأختتم هذا بكلامٍ نفيس للعلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى يرد فيه على أمثال هؤلاء الملبِّسين الذين يُحرِّفون كلام الله ويفترون عليه سبحانه الكذب باستشهادهم بقوله سبحانه تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} (96). لنصرةِ وتطبيقِ الديمقراطية الكافرة.

حيث قال رحمه الله في هامش (عمدة التفسير) (97). عند تفسير قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} (98). والآية الأخرى {وأمرهم شورى بينهم}: (اتخذهما اللاعبون بالدين في هذا العصر - من العلماء وغيرهم - عُدتهم في التضليل بالتأويل، ليُواطؤا صنع الإفرنج في منهج النظام الدستوري الذي يزعمونه، والذي يخدعون النّاس بتسمينه "النظام الديمقراطي"! فاصطنع هؤلاء اللاعبون شعاراً من هاتين الآيتين، يخدعون به الشعوب الإسلامية أو المنتسبة للإسلام. يقولون كلمة حق يُراد بها الباطل يقولون: "الإسلام يأمر بالشورى" ونحو ذلك من الألفاظ.

وحقاً إنَّ الإسلام يأمر بالشورى. ولكن أيُّ شورى يأمر بها الإسلام؟ إنَّ الله سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم:

{وشاورهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكل على الله}. ومعنى الآية واضحٌ صريح، لا يحتاج إلى تفسير، ولا يحتمل التأويل. فهو أمرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم لمن يكون ولي الأمر من بعده: أن يستعرض آراء أصحابه الذين يراهم موضع الرأي، الذي هم أولو الأحلام والنهى، في المسائل التي تكون موضع تبادل الآراء وموضع الاجتهاد في التطبيق. ثم يختار من بينها ما يراه حقاً وصواباً أو مصلحة، فيعزم على إنفاذه، غير متقيد برأي فريقٍ معين، ولا برأي عددٍ محدد، لا برأي أكثرية، ولا برأي أقلية، فإذا عزم توكل على الله، وأنفذ العزم على ما ارتآه.

ومن المفهوم البديهي الذي لا يحتاج إلى دليل: أن الذين أمر الرسول بمشاورتهم - ويأتسى به فيه من يلي الأمر من بعده - هم الرجال الصالحون القائمون على حدود الله، المتقون لله، المقيمُو الصلاة، المؤدُو الزكاة، المجاهدون في سبيل الله، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِيلني منكم أولو الأحلام والنهى). ليسوا هم الملحدين، ولا المحاربين لدين الله، ولا الفجار الذين لا يتورعون عن منكر، ولا الذين يزعمون أنَّ لهم أن يضعوا شرائع وقوانين تخالف دين الله، وتهدمُ شريعة الإسلام. هؤلاء وأُولئك - من بين كافرٍ وفاسقٍ - موضعهم الصحيح تحت السيف أو السوط، لا موضع الاستشارة وتبادل الآراء.

والآية الأخرى، آية سورة الشورى - كمثل هذه الآية وضوحاً وبياناً وصراحةً: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} اهـ.


--------------------------------------------------------------------------------

(75) وحتى حرية الكلمة أو الدعوة كما تريدها الديمقراطية فحرية باطلة كفرية، لأن أهل الديمقراطية حين ينادون لحرية الكلمة في دينهم هذا، لا يعنون حرية الصدع بكلام الله وحده.. بل وحرية كلام الطاغوت والكفار والملاحدة والمشركين وحرية الإعتقاد والإرتداد والطعن في كلِّ المقدسات. وهذا الكفر ربما كان مطبقاً في الديمقراطية الغربية.. أما ديمقراطية العرب ففيها حرية كلّ كفرٍ وإلحادٍ وزندقةٍ، أما الإسلام فمكبلٌ عندهم ومسجونٌ ومطرود، وهؤلاء الدعاة أسمى أمانيهم أن يحققوا ويصلوا بالناس إلى ديمقراطية الغرب الكافر، والكفر ملَّةٌ واحدةٌ وهو دركات. فتنبه.
(76) سورة النساء، الآية 142.
(77) سورة البقرة، الآية 9.
(78) رواه الإمام أحمد في مسنده عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه، حديث رقم 22704.
(79) راجع الدرر السنية في الأجوبة النجدية: ج 1ص 145.
(80) المادة 25 من الدستور الأردني: (تُناط السلطة التشريعية بالملك ومجلس الأمة).. وأختها في الدستور الكويتي رقم 51: (السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وِفقاً للدستور).
(81) سورة يوسف، الآيتان 39-40.
(82) سورة الشورى، الآية 21.
(83) سورة الأحزاب، الآية 36.
(84) هذا في الديمقراطية الغربية الكافرة أما في الديمقراطية العربية الكافرة فإن الاعتبار الأول والأخير فيها للملك أو الأمير أو الرئيس إذ بدون تصديقه لا قيمة لقول الأمة ولا نُوابها ومجلس النواب، كلُّه بيده يحله ويربطه ويلعبُ به كيف شاء ومتى شاء.
(85) انتبه... هذا للأئمة المسلمين الحاكمين بشرع الله المعادين لأعداء الله وليس لسفلة الخلق من كفرة الحكام المرتدين أولياء وإخوان اليهود والنصارى..
(86) سورة الأنعام، الآية 116.
(87) سورة يوسف، الآية 103.
(88) سورة الروم، الآية 8.
(89) سورة يوسف، الآية 106.
(90) سورة البقرة، الآية 243.
(91) سورة يوسف، الآية 21.
(92) سورة الإسراء، الآية 89.
(93) سورة يوسف، الآية 40.
(94) سورة يوسف، الآية 21.
(95) (سحقاً سحقاً) أي بُعداً بعداً. ونصبه على المصدر. وكرر للتوكيد. رواه مسلم ، والبخاري بلفظ: (سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي).
(96) سورة الشورى، الآية 38.
(97) عمدة التفسير: ج 3 هامش ص 64-65.
(98) سورة آل عمران، الآية 159.
حب المسلمين
حب المسلمين
الشبهة الرابعة : مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول



هذا واحتج بعض سُفائهم بمشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حِلف الفضول قبل البعثة، لتجويز المشاركة في البرلمانات التشريعية الشركية.

فنقول وبالله التوفيق:

إنَّ المحتج بهذه الشبهة إما أنه لا يعرف ما حلفُ الفضول فيهرفُ بما لا يعرف ويتكلمُ فيما لا يعلم.. أو أنه يعرف حقيقته فيخلط الحق بالباطل على الخلق ليلبس النور بالظلام والشرك بالإسلام.. وذلك لأن حلف الفضول كما ذكر ابن اسحاق في السيرة وابن كثير (99) والقرطبي في تفسيره (100) وغيرهم.. تكوَّن لما "اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جُدْعان - لشرفه ونسبه - فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى تُرَدّ عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحِلف حلفَ الفضول. أي حِلف الفضائل"اه.

ويقول ابن كثير: (كان حلفُ الفضولِ أكرمَ حِلفٍ سمع به وأشرفه في العرب، وكان أولُ من تكلم به ودعا إليه الزبير ابن عبد المطلب، وكان سببه أنَّ رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عن حقه، فاستعدى عليه الزبِيدي أقواماً من الأحلاف فأبوا أن يُعينوا على العاص بن وائل وانتهروا الزبِيدي، فلما رأى الزبيديُّ الشرَّ أوفَى على جبل أبي قُبيْس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة منادياً بأعلى صوته:

يا آل فهرٍ لمظلومٍ بضاعته ببطنِ مكة نائي الدار والنفرِ

ومحرمٍ أشعتٍ لم يقضِ عُمرته يا للرجال وبين الحِجْر والحَجرِ

إنَّ الحرام لمن ماتت كرامته ولا حرامٌ لثوب الفاجر الغدرِ


فقام لذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مُترك؟ فاجتمعت هاشم وزُهرة وتيم بن مُرة في دار عبد الله بن جُدعان، فصنع لهم طعاماً وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يداً واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بلَّ بحرٌ صوفة وما رسيَ ثبير وحراء (101) مكانهما وعلى التأسي في المعاشي، فسمَّت قريش ذلك الحلف حِلْف الفضول، وقالوا لقد دخل هؤلاء في فضلٍ من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبِيدي فدفعوها إليه. وذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث: أنَّ رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً - أو معتمراً - ومعه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه، فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل؟ فقيل له: عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى: يا لحلف الفضول: فإذا هم يعنقون إليه من كلِّ جانب؛ وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث فما لك؟ (102) فقال: إنَّ نبيهاً ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً، فساروا معه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم فقالوا له: أخرج الجارية ويحك! فقد علمت ما نحن وما تعاقدنا عليه، فقال: أفعل. ولكن متعوني بها الليلة، فقالوا: لا ولا شَخْبُ لقحة (103) فأخرجها إليهم..

وقال الزبير في حِلْفِ الفضول:

إنَّ الفضول تعاقدوا وتحالفوا ألا يُقيم ببطن مكة ظالمُ

أمرٌ عليه تعاقدوا وتواثقوا فالجارُ والمُعْترُّ فيهمُ سالمُ (104)


ففي هذا الحِلف وحول هذه الأهداف يتنزل ما يحتج به هؤلاء القوم، مما رواه البيهقي والحميدي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (شهدتُ في دار عبد الله بن جُدعان حِلفاً ما أُحب أن لي به حمر النَّعم (105) ولو أُدعَى به في الإسلام لأجبت).

ولذا زاد الحميدي (تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعِد ظالمٌ مظلوماً).

فنسأل القوم ها هنا فتقول:

ما وجه الدلالة يا أهل الفقه والاستدلال في هذا الحلف وما حواه من فضائل على جواز دخول مجلسٍ يُشَرَّعُ فيه مع الله وِفقاً لدستور إبليس، ويستفتح أهل المجلس مجلسهم هذا بالقسم على احترام ياسق الكفر وقوانينه والولاء لعبيده وطواغيته المحاربين لدين الله وأوليائه، المتولين لأعداء الله وكُفرياتهم..؟

هل كان في حلف الفضول كفرٌ وشركٌ وتشريعٌ مع الله واحترامٌ لدين غير دين الله، حتى يصح الاستدلال به..؟.

إنْ قلتم نعم.. فأنتم تزعمون إذاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شارك بالكفر والتشريع واتبع ديناً غير دين الله، وأنه لو دُعي في الإسلام لمثل ذلك لأجاب! ومن زعم هذا فقد أشهد الثقلين على كُفره وردتِه وزندقتِه..

وإنْ قلتم: لا، لم يكن فيه كفرٌ ولا تشريعٌ بل ولا منكرٌ من المنكرات... وكلُّ ما كان فيه نصرة المظلوم وإغاثةُ الملهوف ونحوه من الفضائل..

فكيف إذاً تستحلون وتستجيزون مقايسته بمجالس الكُفر والفسوق والعصيان..؟.

ثم نحن نسألهم سؤالاً واضحاً ونُريد منهم شهادةً صريحةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب هذا السؤال {ستُكْتبُ شهادتهُم ويُسئَلون} (106).

لو كان المشارك في حِلْفِ الفضول هذا مهما كانت صفته - أعني الحلف ؛ لا يُشارك فيه إلا إذا أقسم بين يدي دخوله للحلف على احترام اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى والولاء لدين قريش الكفري ولأوثانها وجاهليتها.. ثُمَّ على نُصرة المظلوم وإغاثة المكروب... ونحو ذلك..

أقول: لو كان الحالُ كذلك.. لشارك به النبي صلى الله عليه وسلم أو أجاب إليه لو دُعي في الإسلام لمثله..؟.

أجيبونا يا أصحاب المصالح والاستحسانات..! ويا أهل الحفلات والمهرجانات..!

فإن قالوا: نعم سيجيب إليه وسيشارك فيه.. وكذلك كان..فقد برئت منهم الأمة وأشهدوا الخلق على كُفرهم..

وإن قالوا: كلا وحاشاه من ذلك...

قلنا: فخلوا إذاً عنكم هذه السفسطات والشقشقات وتعلموا كيف وبماذا يكون الاستدلال..


--------------------------------------------------------------------------------

(99) البداية والنهاية: ج 2 ص 291.
(100) الجامع لأحكام القرآن: ، .
(101) أسماء جبال بمكة.
(102) تنبيه: لو أننا استدللنا بهذا على جواز تنظيم جماعة أو مجموعة مسلحة لنصرة المظلوم وانكار المنكر باليد وإن عُدمت الدولة الإسلامية ولم يوجد الإمام، بدليل أنَّ رسول الله e قد أثنى على هذا الحلف ومدحه مع أنه كان قائماً في زمن دولة الكفر وليس ثَمَّ إمام.. أقول: لو أننا احتججنا بدليلهم هذا على هذه المسألة لبدّعونا ولشنوا علينا الغارات ولشنعوا فينا المقال.. لكن الاستدلال به على جواز القسم على احترام الشرك والمشاركة في التشريع وِفقاً لدستور إبليس وغير ذلك من ضلالاتهم وشركياتهم وانحرافاتهم فذلك أمرٌ تُسوِّغه عقولهم النخرة.. فبُعداً فبعداً.
(103) ولا شخب لقحة: أي ولا مقدار وقت حلب ناقة.
(104) من كتاب البداية والنهاية للحافظ ابن كثير.
(105) من أطيب أنواع الإبل عند العرب.
حب المسلمين
حب المسلمين
الشبهة الخامسة : مصلحة الدعوة



قالوا: إنَّ دخول المجلس فيه مصالح كثيرة، بل بعضهم زعم أن المجلس من أصله مصلحةٌ مرسلةٌ وذكروا: الدعوة إلى الله، وقول كلمة الحق، وذكروا: تغيير بعض المنكرات وتخفيف بعض الضغوط على الدعوة والدعاة... وذكروا: عدم ترك هذه الأماكن والمجالس للنصارى أو الشيّوعيين ونحوِهم... وبعضهم بالغ وذكر: مصلحة تحكيم شرع الله وإقامةِ دينه من خلال المجلس.. ونحوِه من استصلاحاتِهم وأحلامِهم وأهوائِهم.. وكلّ ما في هذا الباب يدور حول المصلحة...(107).

فنقول وبالله تعالى التوفيق:

نسألهم أولاً فنقول:

مَنِ الذي يحدد مصالح دينه وعباده ويعرفها حق المعرفة؟ الله اللطيف الخبير؟ أم أنتم باستحساناتكم واستصلاحاتكم؟.

فإن قالوا: نحن.

قلنا: إذاً لكم دينكم ولنا دين، لا نعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما نعبد... لأنَّ الله جل ذكره يقول: {ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ} (108).

ويقول مُنكِراً على هؤلاء الديمقراطيين وأمثالهم: {أيحسبُ الإنسان أن يُتْرك سدىً} (109). ويقول: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} (110)..

وهذا في ديننا وملَّتنا... أما في دين الديمقراطية وملَّتها فلا مكان لهذه الآيات المحكمات لأنَّ الإنسان عندهم هو المشرِّع لنفسه... فهم يقولون: نعم قد تُرك الإنسان سُدىً وله مُطلقُ الحرية في أن يختار ويُقرر ويَترك ويُثبت ما يشاء من التشريع والدين... ولا يهم إن كان ذلك التشريع الذي يخترعه مُوافقاً لما في كتاب الله أم مُعارضاً له... لكنَّ العبرة أن لا يُعارض الدستور والقانون...

" أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " (111).

فإن قالوا: بل الله جل ذكره هو وحده الذي يحد الحدود ويقدِّر المصالح أحسنَ تقدير، لأنَّه هو الذي خلق الخلق وهو أعلمُ بمصالحهم {ألا يعلمُ من خلقَ وهو اللطيف الخبير} (112).

سألناهم: فما هي أعظمُ مصلحةٍ في الوجود قرّرها الله تعالى في كتابه وأرسل من أجلِّها الرسل وأنزل الكتب وشرع الجهاد والاستشهاد، ولأجلها تُقام الدولة الإسلامية...يا دعاة الخلافة؟.

فإن تخبطوا في مصالح جزئية ثانوية وانحرفوا عن أصل الأصول.

قلنا لهم: خَلُّوا عنكم الفشر والهذيان واجلسوا تعلموا أصل دينكم تعلموا معنى (لا إله إلا الله) الذي لا تُقبل دعوةٌ ولا جهادٌ ولا استشهادٌ دون تحقيقها ومعرفة معناها...

وإن قالوا: أعظمُ مصلحةٍ في الوجود هي: تجريدُ التوحيد لله تعالى واجتنابُ ما يُضاده ويُناقضه من الشرك والتنديد..

قلنا: فهل يُعقل يا أُولي الألباب! أَنْ تهدموا هذه المصلحة العظيمة الكلية القطعية فتتواطؤوا مع الطواغيت على دين غير دين الله (الديمقراطية) وتقبلوا وتحترموا شرعاً غير شرعه سبحانه (الدستور) وتتبعوا أرباباً مشرِّعين متفرقين مع الله الواحد القهار..؟.

فتهدموا بهذا أعظم مصلحة في الوجود وهي التوحيد والكفر بالطواغيت... لمصالح ثانوية جزئية ظنية مرجوحة؟.

أيُّ ميزانٍ وأيُّ عقلٍ وأيُّ شرعٍ وأيُّ دينٍ يرضى بهذا إلا دينُ الديمقراطية الكفري؟.

وكيف يتجرّؤ بعضكم على الزعم بأنَّ هذه المجالس الشركية من (المصالح المرسلة).. إنَّ المصلحة المرسلة عند القائلين بها: (ما لم يشهد لها الشرع باعتبار ولا إلغاء) فهل تزعمون أنَّ الشرع لم يُلغِ الشرك والكفر ولم يُبطل كلَّ دينٍ يُناقض دينَ الإسلام وكلَّ ملَّةٍ تُناقضُ ملَّةَ التوحيد...؟.

ثم أيُّ دعوة هذه التي تزعمون قولها وأيُّ حقٍ ذاك الذي تزعمون الصدع به في هذه المجالس الشركية بعد أن دفنتم أصل أصول الدعوة الإسلامية وقُطبَ رَحى الحق المبين؟. وهل يُدفن ويُقبر ذلك الأصل الأصيل والمصلحة العظمى لتناقش على حسابه جزئيات وفرعيات من الدين...؟.

ثم حين تناقشون تلك الجزئيات والفرعيات - كمن يسعى لتحريم الخمر - إلى ماذا تستندون في مُطالبتكم بالتحريم وبماذا تستدلون وتستشهدون..

أتقولون: قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم؟..

ثمَّ إنْ زعمتم هذا: كذبتم، لأنَّ هذا ليس له اعتبارٌ في دين الديمقراطية وشرع الدستور، إلا ما شهد الدستور له واعتبره وهيمن عليه... لاشك أنكم ستقولون: نصت المادة الثانية... والمادة 24... والمادة 25... ونحوها من تشريعات الكفر والضلال... فهل بعد هذا كفرٌ وشركٌ وإلحادٌ؟. وهل يبقى لمن سلك هذا الطريق أصلٌ وملَّةٌ وتوحيدٌ..؟.

{ألمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أمِرُواْ أن يَكْفُرُواْ بِهِ وِيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} (113).

أجيبونا.. هل يمكن سن قانونٍ أو تشريعٍ في هذه الأوكارِ الوثنية عن غير هذه الطرق الشركية الكفرية..؟.

أجيبونا يا أهل الاستصلاحات والأفهام..؟.

وحتى الحكمُ بما أنزل الله كلُّه الذي تتباكون عليه. أتريدون إقامته عن هذه الطريق..؟.

ألا تعلمون أنها طريق كفرية ومسدودة... لأنها إنْ نجحت - جدلاً فلن يكون هذا حُكمَ الله، بل هو حُكْمُ الدستور وحُكْمُ الشعب وحُكْمُ الجماهير.. ولن يكون حكم الله إلا حين يكون استسلاماً لكلام الله وانشراحاً لشرْعه وعبودية له سبحانه.. أما حين يكون استسلاماً لدين الديمقراطية ولشرع الدستور ولحكمِ الشعب والجمهور.. فهو حُكْمُ الطاغوت وإنْ وافقَ حُكْمَ الله ساعتها بأشياءٍ وأشياء، فالله جل ذكره قد قال: {إنِ الحكمُ إلا لله} (114). ولم يقل: (إنِ الحكم إلا للنَّاس) وقال: {وأنِ احكم بينهم بما أنز ل الله} (115). ولم يقل: (بمثل ما أنزل الله) أو (وأنِ احكم بينهم بما نص عليه الدستور والقانون)... بل هذا قول المشركين من عبيد الديمقراطية والدساتير الأرضية..

ثم أين أنتم؟ أما زلتم في سُباتكم وغيِّكم القديم ؟ أتدفنون رؤوسكم في الرمال.. ألا تُشاهدون تجارب أمثالكم من حولكم؟.. هذه الجزائر وتلك الكويت وهناك مصر وغيرها وغيرها.. ألم توقنوا بعد بأنَّ هذه لعبةٌ كفرية، وملهاةٌ شركية عوجاء ومسدودة الطريق؟ ألم تتحققوا بعد بأنَّ هذه المجالس لعبة في يد الطاغوت يفتحها متى شاء ويُغلقها كيف شاء ويحلها حين يشاء (116) وأنه لا ولن يُسن فيها قانون حتى يُصدِّق ويُوافق عليه الطاغوت (117). فلماذا تُصِرُّون على هذا الكفر البواح.. وعلى هذه الذلة الصراح..؟

ثم ومع هذا تجدهم يجعجِعون ويصيحون ويقولون: كيف نتركُ هذه المجالس للشيوعيين أو النصارى... أو غيرهم من الملاحدة..؟ فبُعداً، بُعداً... وسُحقاً، سُحقاً...

يقول تعالى: {ولا يحزنكَ الذين يُسارعون في الكفر إنَّهم لن يضروا الله شيئاً يُريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذابٌ عظيمٌ} (118).

فإنْ كُنتم من جملة الملاحدة، فهنيئاً لكم هذه المقاسمة والمشاركة.. شاركوهم بكفرهم وشركهم إنْ شئتم، لكن اعلموا أنَّ المشاركة في هذه الحال لا تقف عند حدود الدنيا.. بل كما قال الله تعالى في سورة النساء بعد أن حذر من أمثال هذه المجالس، وأمر بمفارقة أهلها وعدمِ القعود معهم وإلا القاعد مثلهم قال محذراً سبحانه: {إنَّ الله جامعُ المنافقين والكافرين في جهنَّم جميعاً} (119). ألم تُوقِنُوا بعد هذا كلِّه أنَّها شركٌ صراحٌ.. وأنها كفرٌ بواحٌ.. ألم تعلموا أنها دينٌ غير دين الله..؟ وأنها ملَّةٌ غير ملَّة التوحيد؟ فعلام التكالب إذاً عليها.. ذروها لهم.. نعم ذروها واجتنبوها واتركوها لأهل ملَّتها.. واتبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين... وقولوا كما قال حفيده يوسف عليه الصلاة والسلام وهو مستضعفٌ خَلْفَ قُضبان السجون: {..إني تركتُ ملَّة قومٍ لا يُؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون * واتبعت ملّة ءَاباءِى إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أنْ نُشرك بالله من شيءٍ ذلك فضل الله علينا وعلى النَّاس ولكنَّ أكثرالنّاس لا يشكرون} (120).

يا قوم... اجتنبوا الطاغوتَ ومجالِسه وتبرّؤوا منها واكفُروا بها ما دامت كذلك...

هذا هو الحق المبين... والنّورُ الواضحُ المستبين، ولكن أكثر النّاس لا يعلمون..

{ولقد بعثنا في كلِّ أمةٍ رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هَدى الله ومنهم من حقَّت عليه الضلالة..} (121).

{ءأربابٌ متفرقون خيرٌ أمِ الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنِ الحكمُ إلالله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيِّم ولكن أكثر النّاس لا يعلمون} (122).

اجتنبوها يا قوم وتبرّؤوا من أهلها وشركها قبل فوات الأوان... وقبل أن يأتيَ يوم يكون ذلك أسمى وأعظم ما تتمنون ولكن بعد فواتِ أوانِه، ولن ينفعكم يومَها الندم ولا الآهات أو الحسرات...

{وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرةً فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يُريهمُ الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النّار} (123).

اجتنبوها الآن وقولوا لأهلها - إن كنتم على ملَّة إبراهيم وطريق الأنبياء والمرسلين - كما نقول في خاتمة كلامنا هذا:

يا عبيد القوانين الوضعية... والدساتير الأرضية...
يا أصحاب دين الديمقراطية...
ويا أيها الأرباب المشرِّعون...

إنا نبرؤ إلى الله منكم ومن ملّتكم...
كفرنا بكم... وبدساتيركم الشركية وبمجالسكم الوثنية
وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تُؤمنوا بالله وحده...


--------------------------------------------------------------------------------

(106) سورة الزخرف، الآية 19.
(107) لشيخ الإسلام في هذا الباب فتوى يُبطل فيها أمثال هذه الاستحسانات والاستصلاحات الفاسدة بحجة مصلحة الدعوة.. وقد حققناها وعلقنا عليها وقدمنا لها بمقدمات مهمة وسميناها: (القول النفيس في خديعة إبليس) فليراجعها من شاء المزيد في هذا الباب.
وقد قام إخواننا في النور للإعلام الإسلامي بالدانمارك بطباعتها وتسجيلها على أشرطة سمعية.
(108) سورة الأنعام، الآية 38.
(109) سورة القيامة، الآية 38.
(110) سورة المؤمنون، الآية 115.
(111) سورة الأنبياء، الآية 67.
(112) سورة الأنعام، الآية 103.
(113) سورة النساء، الآية 60.
(114) سورة يوسف، الآية 40.
(115) سورة المائدة، الآية 43.
(116) المادة 34 من الدستور الأردني فرع 2: (الملك يدعو مجلس الأمة إلى الاجتماع ويفتتحه ويُؤجله ويفضه وِفق أحكام الدستور) وفرع 3: (للملك أن يحل مجلس النواب).
(117) المادة 79 من الدستور الكويتي: (لا يصدر قانون إلا إذا أقره مجلس الأمة وصدق عليه الأمير).
والمادة 93 من الدستور الأردني، فرع 1: (كلُّ مشروعٍ أقره مجلس الأعيان والنواب يُرفع إلى الملك للتصديق عليه) وفرع 3: (إذا لم ير الملك التصديق على القانون فله في غضون ستة أشهر من تاريخ رفعه إليه أن يرده إلى المجلس).
تأمل أنَّ في الأردن هناك قبل تصديق الملك أيضاً، تصديق وموافقة مجلس الأعيان الذين يُعيّنهم أصلاً الملك.. ومع هذا كلِّه فالقوم في غيّهم سادرون.
(118) سورة آل عمران، الآية 176.
(119) سورة النساء، الآية 140.
(120) سورة يوسف، الآيتان 37-38.
(121) سورة النحل، الآية 36.
(122) سورة يوسف، الآيتان 39-40.
(123) سورة البقرة، الآية 167.
حب المسلمين
حب المسلمين
وقائع برلمانية . . فاعتبروا يا أولي الأبصار


((لم أكن أظن أن ما قضى الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى مُوافقة عِباد الله، ولكنني فُوجئت أنَّ قول الربِّ الأعلى يظل في المصحف - له قداسته في قلوبنا - إلى أن يُوافِقَ عباد الله في البرلمان على تصيير كلام الله قانوناً. وإذا اختلف قرار عباد الله في البرلمان عن حُكْمِ الله في القرآن فإنَّ قرار عِباد الله يصير قانوناً معمولاً به في السلطة القضائية مكفولاً تنفيذُه من قِبَلِ السلطة التنفيذية؛ ولو عارض القرآن والسنّة. والدليل على ذلك أن الله حرم الخمر، وأباحها البرلمان. وأنَّ الله أمر بإقامةِ الحدود، وأهدرها البرلمان. والنتيجة على ضوْءِ هذه الأمثلة أن ما قرره البرلمان صار قانوناً رغم مخالفته للإسلام)).

هذه الكلمات هي خلاصة ما انتهى إليه أحد علماء الإسلام بعد أن قضى ثماني سنواتٍ كنائبٍ في البرلمان. وكان ذلك النائب العالم قد أحس بضرورة الخطابة على المنابر، والكتابة في الصحف، بعد طُول معايشته لتلك الأساليب، ازداد إيماناً بجدواها لكنه شعر أنها وحدها لا تحدث تغييراً في القوانين، ولا تأثيراً مُستمراً في السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، فرشح نفسه لعضوية البرلمان بحثاً عن أسلوب جديد لإعلاء كلمة الله تعالى بتطبيق الشريعة الإسلامية، إنقاذاً للعباد من الضلالة وتخليصاً لهم من الأباطيل ودفعاً بهم إلى رِحاب الإسلام.

فاز العالم بعضوية البرلمان تحت شعار (أعطني صوتك لنُصلح الدنيا بالدين) وأعطاه النّاس أصواتهم ثقةً فيه رغم كلِّ وسائل التزييف والتزوير في الانتخابات. واستمر النائب في عضوية البرلمان دورتين متتاليتين ثم قال بعدها: (إنه عَزَّ على البيان الإسلامي أن يجد صداه المنطقي في هاتين الدورتين).

ذهب النائب العالم يوماً إلى واحدة من مدريات الأمن لقضاء مصالح مُواطنيه ففوجئ في مكتب الآداب بحوالي ثلاثين امرأةٍ يجلسن على البلاط فسأل قائلاً: ما ذنبُ هؤلاء؟ فقال له المسؤول: إنهنَّ الساقطات! فسأل وأين الساقطون؟ إنها جريمةٌ لا تتم إلا بين زانٍ وزانية. فأخبره المسؤول بأنَّ الزاني عندهم هو مجردُ شاهدٍ بأنَّه قد ارتكب الزنا مع هذه وأعطاها على ذلك أجراً فهي تحاكم ليس لأنها ارتكبت الزنا ولكن لأنها تقاضت الأجر. فتحول المُقِّرُ والمعترفُ بأنه زان إلى شاهد عليها ولا يلتفتُ القانون إلى قراره واعترافه بالزنا.

غضب النائب العالم غضبةً لله، فقال له المسؤول ببساطة: (نحن ننفذُ قانوناً أنتم أقررتموه في البرلمان).

أدرك النائب العالم أنه مهما كثرت الجماهير المنادية بتطبيق الشريعة، ومهما ساندها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الآمال في تطبيق الشريعة لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق البرلمان الذي يسمونه (السلطة التشريعية)، ولأنَّ السلطة القضائية لا تحكم إلا بالقوانين التي تصدر عن البرلمان، وأنَّ السلطة التنفيذية لا تتحرك لحماية القرآن والسنّة، ولا لحماية الإسلام إلا بمقدار ما أقره البرلمان من هذه الجوانب المقدسة، اعتقد النائب العالم بأنَّ الوصول إلى هذه الغاية ممكنٌ إذا عَلِم نوابُ البرلمان أن هذا قول الله، وقوله رسوله صلى الله عليه وسلم، وحُكْمُ الإسلام ليقروه.

انطلق النائب العالم فقدم مشروعَ قانون لإقامة الحدود الشرعية، ومشروع قانون لتحريم الربا مع اقتراح الحلِّ البديل، ومشروعَ قانون لتطويع وسائل الإعلام لأحكام الله، ومشروعَ قانونٍ لرعاية حرمة شهر رمضان، وعدم الجهر بالفطر في نهاره، ومشروع قانون لتنقية الشواطئ من العربدة، والعديد من المشاريع الإسلامية الأخرى. ووقع معه على مشاريع هذه القوانين عددٌ كبيرٌ من أعضاء البرلمان. وذهب النائب العالم لأداء العمرة، واصطحب معه بعضَ أعضاء البرلمان، وعند الحجر الأسود عاهدوا الله جميعاً على مناصرة شريعة الله في البرلمان، ثم ركبوا الطائرة إلى المدينة المنورة، ثم تعاهدوا في رِحاب المسجد النبوي على رفع أصواتهم لنصرة شرع الله لا لنصرة انتماءاتهم الحزبية.

حمّل النائب العالم السلطات الثلاث في الدولة مسؤولية إقرار المحرمات ومخالفة الشريعة، وتوعد وزيرَ العدل آنذاك بأنه سيستجوبه بعد بضعة شهور إذا هو لم يقدم ما تم إنجازُه من قوانين تطبيق الشريعة الإسلامية. ولم يقدم له الوزيرُ ما طلبه منه النائب فوجه إليه النائب استجواباً - والاستجواب في عرف البرلمانات ملزم للمستجوب بالرد عليه ما لم تسقط عضوية الوزير أو يخرج الوزير المستجوب من الوزارة - وأصر النائب على استجواب الوزير ووقفت الحكومة خلف وزيرها، وأصرت على اسقاط الاستجواب، ولما اشتد إصرارُ النائب على الاستجواب أحدثت الحكومة تعديلاً وزارياً لم يخرج منه إلا وزيرُ العدل، أي أن الوزير أُخرج من الوزارة ليسقط الاستجواب، وتكرر هذا العمل حتى أصبح قاعدةً من قواعد التعامل مع البرلمان.

لجأ النائبُ العالم مرةً ثانيةً إلى أعضاء البرلمان وقال لهم: إنَّ مشاريع القوانين الإسلامية وُضِعت في أدراج اللجان، وقد عاهدتم الله في الحرمين على أنْ تكون أصواتُكُم لله ورسوله، وطالب بتوقيعهم على المطالبة بالتطبيق الفوري للشريعة الإسلامية فاستجابوا، ووقعوا على ما طالبهم به ووضعَ النائب العالم هذه الوثيقة في أمانةِ البرلمان، وطالب باسم النواب جميعاً النظر في قوانين شرع الله. فقام رئيس البرلمان وطالب باسم النواب جميعاً النظر في قوانين شرع الله. وقال للنواب: إنَّ الحكومة لا تقل عنكم حماسةً للإسلام، ولكننا نطلبُ منكم فرصةً للمواءمات السياسية، فصفق له النواب الموقعون، المتعاهدون في الحرمين على العمل على تطبيق شريعة الله، ووافقوا على طلبه، فضاعتِ المطالبة بالتطبيق الفوري للشريعة وانتصرت الحكومة.

غلب اليَأْسُ النائب العالم لعدم جدوى محاولاته في سبيل تطبيق الشريعة مع أعضاء يُناديهم فيستجيبون ثم يعدلون، ثم فُوجئ يوماً باقتراح من رئيس البرلمان للموافقة على تكوين لجنّة عامة لِقَوْنَنَةِ الشريعة الإسلامية، وتبيَّن حقيقة الأمر فوجد أنَّ قرار الحكومة المفاجئ هذا لم يكن إلا تغطيةً لفضيحةٍ كبرى مست كرامة البلاد. ولم تتخذِ الحكومة قراراً لصالح الإسلام. ورحب النائب بالفكرة رغم فهمه لأبعادها، واجتمعت اللجنة لكنَّ النائب العالم أحس عدم جِدية الدولة في تطبيق شرع الله لأنها إذا أرادت إرضاء الله فهناك أمور لاتحتاج إلى إجراءات. فإغلاق مصانع الخمور يمكن أن يكون بجرة قلم. وإغلاقُ الحانات يمكن أن يتم بجرةِ قلم.

كانت هناك مظاهر تدل على ما في الأعماق حقيقة، تضافرت كلُّها لتترك في نفس النائب العالم انطباعاً - يُشكل في حد ذاته قاعدة من قواعد التعامل مع البرلمانات - مؤاداه: أنَّ شرع الله لن يتحقق أبداً على أيدي هؤلاء.

فُوجئَ النَّاس وفُوجئَ النائب العالم بحلِّ البرلمان بعد أن كان هو رئيساً للجنة مرافعات تطبيق الشريعة الإسلامية، وظل يُوالي مع اللجنة عملية الدراسة والتقنين عبر ثلاثين اجتماعاً. وفي غيبة البرلمان صدر قرارٌ خطيرٌ في مسألة تمس حياة النّاس الشخصية. فوقف النائب العالم ضد هذا القرار لأنه مخالفٌ للإسلام والدستور، ولكن القاعدة تقول: أنَّ البرلمان كلّه يمكن أن يحل بقرار إذا أرادت الدولة فرض أمر على الناّس حتى ولو كان مخالفاً للإسلام.

أما أهم قاعدة يستند إليها البرلمان فقد لخصها النائب العالم بقوله:

(إنه مهما أُوتِيتُ من حجج ومهما استند موقفي إلى الكتاب والسنّة فإن من عيوبِ البرلمان ومسئوليته الفادحة أنَّ الديمقراطية تجعل القرار مُلكاً للغالبية المطلقة بإطلاق وبلا قيد ولا شروطٍ ولو خالف الإسلام).

أحس النائب العالم بأنَّ زحفاً من التضييق عليه يشتد من جانب الحكومة، ومن رئيس البرلمان، ومن حزب الغالبية؛ وافتعلت رئاسة البرلمان ثورات ضده، واتهمته بأنه يُعطل أعمال اللجان. ولكنَّه استمر في بذل جهوده. فقدم العديد من الأسئلة التي لم تدرج في جداول الأعمال، وقام بالعديد من طلبات الإحالة فوجدها قد دُفنت ولم تقم لها قائمة، ثم عاد إلى استخدام سلاح الاستجواب الذي لا يمكن رده. فاستجوب وزراء الحكومة عن ضرب الدولة للقضاء الشرعي والأوقاف، والمعاهد الدينية، ومكاتب تحفيظ القرآن الكريم، وعن ضربها لمناهج التعليم في الجامعات الدينية بحجة تطويرها، وعن ضربها للمساجد بإصدارها قانوناً لا يسمح لأحد حتى ولو كان من (المشايخ) أن يدخل دُور العبادة، وأن يقول ولو على سبيل النصيحة الدينية قولاً يُعارض به قراراً إدارياً أو قانوناً مُسْتَقِراً؛ ومن فعل ذلك حبس وغرم، فإن قاوم ضُوعفت الغرامة وسجن.

قدم النائب العالم استجواباً إلى وزير السياحة لأنَّ طلاباً في المدارس الفندقية أُرغموا على تذوق الخمور فرفضوا ففصلوا، وقدم استجواباً آخر إلى وزير الإعلام بُغية تطهير وسائل الإعلام من العربدة التي تعصفُ بالقِيَّم والأخلاق ومقدسات البلاد، واستجواباً ثالثاً إلى وزير النقل والمواصلات عن صور القصور والتقصير بهذه المرافق، وشعر النائب العالم أنه يقدم الاستجواب تِلْوَ الاستجواب إلى بالوعات، فوقف في البرلمان يحاسب رئيسه ويتهمه بالخروج على لائحة البرلمان، فأمر رئيس البرلمان في لعبةٍ مثيرة بإدراج الاستجوابات الثلاثة في جلسة واحدة مع أنَّ كلّ استجواب يحتاج إلى أيام، ثم دعا الهيئة البرلمانية لحزب الأغلبية لتحبط هذه الاستجوابات، ونودي على وزير السياحة فتدخلت الحكومة التي اعترضت على إدراج هذا الاستجواب في جدول الأعمال لأنَّ فيه كلمةً نابية هي بالضبط (اتهام صاحب الاستجواب الوزير بأنه جافى الحقيقة أثناء رده على السؤال) ثم طُرح الموقف على نُواب البرلمان فقرروا إحباط الاستجواب وعطلوا ما يسمى بالحق الدستوري للنائب في محاسبة الدولة، ثم نُودِي على الاستجواب الثاني المقدم لوزير الإعلام، وكما انتصر النواب للخمر، انتصروا للرقص رغم أنَّهم عاهدوا الله على النصرة لشريعته، ثم نُودِي على وزير النقل لكن النواب رأوا أنّ محاسبة الوزير تتلاقى مع أهوائهم، فقام النائب العالم إلى المنصة وقال لنواب البرلمان:

(يا حضرات النواب المحترمين لستُ عابدَ منصبٍ ولستُ حريصاً على كرسي لذاته، ولقد كان شعاري مع أهل دائرتي (أعطني صوتك لنصلح الدنيا والدين) وكنت أظن أنه يكفي لإدراك هذه الغاية أن تقدم مشروعات القوانين الإسلامية لكنه تراءى لي أنَّ مجلسنا هذا لا يرى لله حكماً إلا من خلال الأهواء الحزبية، وهيهات أنْ تسمح بأن تكون كلمة الله هي العليا..

لقد وجدتُ طريقي بينكم إلى هذه الغاية مسدوداً، لذلك أُعلن استقالتي من البرلمان غير آسفٍ على عضويته).

وانصرف النائب العالم إلى داره في أبريل 1981 ورفعت الجلسة.

رحل النائب العالم عن البرلمان، ثم رحل عن هذه الدنيا كلِّها بعد ذلك بعدة سنوات، وبقي البرلمان يقضي ويُشرع ويُنفذ بغير ما أنزل الله.


--------------------------------------------------------------------------------

* مقال للدكتور أحمد إبراهيم خضر نُشر في العدد السادس والستون من مجلة البيان التي تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن.




انتهى كلام الشيخ أبي محمد المقدسي.