دروس مكثفة في آيات معدودة

ملتقى الإيمان

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا

وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .. _ البقرة:104_

والآيات بعدها .. _من 104- 121 والتي تشكل فقرة متكاملة _

كلمة في هذه الفقرة وسياقها :

لأول مرة تتصدر كلمة ( يا أيها الذين آمنوا ) خطاب المؤمنين

في سورة البقرة وذلك بعد الدروس الكثيرة التي أخذها المؤمنون ،

وبعد الجولة المباشرة مع بني إسرائيل في قضية الإيمان ،

وجاء الخطاب مطالباً أهل الإيمان :

بالتحرر من أسر متابعة اليهود حتى في التعابير ،

ومحذراً من الوقوع فيما وقعوا فيه من سوء الأدب مع الله .

وجاء السياق معِّرفاً أهل الإيمان على :

العواطف الحقيقية للكافرين تجاه المسلمين ،

وعارضاً لكثير من الأقوال والأفعال الخاطئة والموقف الصحيح منها ،

ومن ثم فإن هذه الفقرة تناقش :

مجموعة الأوهام والتصورات الأساسية عند اليهود والنصارى

من كون الشرائع السابقة لا يجوز نسخها ،

ومن : كون الجنة حكراً على هؤلاء مع انحرافهم عن الدين الحق !

ومن : ادعاء الولد لله .. ومن : طلب سماع كلام الله واقتراح الآيات ..

ومن : كون بقايا أهل الكتاب كلهم على هوى ورغبة في

أن يحملوا الناس على أهوائهم .

وفي الفقرة توجيهات لهذه الأمة تساعدها على :

تحمل عبء الصراع مع الكفر وأهله ..

وفيها : موازين تعرف بها حقائق وكليات ..

ويتضح في هذه الفقرة تماماً إن هذا المقطع وإن كان في سياقه العام

يدعو بني إسرائيل للصلاح والإصلاح ،

ولكن الهدف الأول هو هذه الأمة :

وإصلاحها ، وتربيتها ، وتعليمها ، والارتقاء بها .

إن هذه الفقرة مبدوءة بـ ( يا أيها الذين آمنوا ) :

وهو الخطاب الأول بهذه الصيغة في القرآن ، كأن ما قبله إنما كان :

من أجل وجود الشخصية المؤمنة ،

حتى إذا وجدت الشخصية المؤمنة من خلال كل المعاني السابقة :

أصبحت مؤهلة للخطاب الخاص بها.

ومن هنا فإننا نستنتج :

أن ما قبل هذا الخطاب ضروري في قضية الإيمان ،

فالإيمان العملي الكامل غير الإيمان النظري

الذي لا يواجه به صاحبه كل شيء حوله بعقلية المؤمن .

ونتيجة لذلك فإننا نقول :

إن هذه الفقرة من الأهمية في المكان الكبير على اعتبار أنها :

أول خطاب مباشر للمؤمنين بلفظ ( يا أيها الذين آمنوا )

فالمعاني الموجودة فيها والتوجيهات ذات أهمية خاصة :

ففيها : وجِّهت الأمة المسلمة نحو الاحتراس الكامل من متابعة غيرها ،

أو الوقوع في أسر مصطلحاته ،

وفيها : عرفت الأمة أن عدوها لا يريد بها خيراً ، ولا يريد لها خيراً

بل ينفس عليها أي خير يصيبها من ربها .

وفيها : وجِّهت الأمة نحو التسليم المطلق لله في أحكامه وشرائعه ،

ينسخ ما شاء ويثبت ما شاء ، فهو ذو القدرة المطلقة والعلم المحيط .

وفيها : وجِّهت الأمة نحو الاحتراس من السير على طريق بني إسرائيل

في تعنتهم وسؤال رسولهم ما لا ينبغي .

وفيها : وجِّهت الأمة نحو الحرص على الإيمان وعدم استبداله بالكفر ،

وفيها : عرفت الأمة على الرغبة الملحة عند أهل الكتاب عامة

من أجل صرف هذه الأمة عن دينها .

وفيها : وجهت الأمة نحو الصلاة والزكاة كمرتكزين رئيسيين

للبقاء في هذا الدين..

وفيها : تمت الدلالة على الطريق للإيمان بالكتاب وهو تلاوته حق التلاوة .

إن كل قضية من القضايا التي تعرضت لها الفقرة ذات أهمية بالغة جداً ،

فأية غفلة عنها ، أو جهل بها ، أو انحراف عن الأخذ بها ،

يترتب عليه شر كبير وبلاء مستطير .

إن دروس ما مر من قبل في هذا المقطع تأتينا هنا بشكل مكثف

فلنعرف ذلك .

التفسير :



( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا )

ذكر لي بعض الدارسين للغة العبرية أن كلمة ( راعينو ) ومشتقاتها

لا زالت تستعمل في اللغة العبرية الحالية كلمة ســباب ،

هـذه الكلمة يشبهـها في اللغة العربية من حيث اللفظ مع اختلاف المعنى

كلمة ( راعنا ) .

فكان اليهود يستعملون هذه الكلمة في خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

متسترين بمعناها العربي ، وهم يريدون الإساءة ،

وكان المسلمون يظنون باليهود خيراً فتابعوهم على ذلك ،

فأنزل الله الآية .

***

قال ابن كثير : نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين

في مقالهم وفعالهم ، وذلك أن اليهود كانوا يعنون من الكلام ما فيه تورية

لما يقصدونه من التنقيص ، عليهم لعائن الله ،

فإذا أرادوا أن يقولوا : اسمع لنا ، يقولون : راعنا ويورون بالرعونة .



والغـرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً

***

أخـرج الإمـام أحمـد عـن ابـن عمـر قـال ،

قال رسول اله صلى الله عليه وسلم :

" بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له ،

وجعل رزقي تحت ظل رمحي ،

وجعلت الذلة والصَّغار على من خالف أمري ،

ومن تشبه بقوم فهو منهم " .

وأخـرج أبـو داوود عـن رسول الله صلى الله عليه وسلم

" مـن تشبــه بقــوم فهـــو منهــم " .

قال ابن كثير : ففيه دلالة على النهي الشديد ، والتهديد والوعيد ،

على التشبه بالكفار ، في أقوالهم ، وأفعالهم ولباسهم ، وأعيادهم ،

وعباداتهم ، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نُقّر عليها .

***

يقول صاحب الظلال :

" فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي صلى الله عليه وسلم مواجهة ،

فيحتالون على سبِّه - صلوات الله وسلامه عليه - عن هذا الطريق الملتوي

الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء ، ومن ثًمًّ جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ

الذي يتخذه اليهود ذريعة ، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى ،

الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته ،

كي يفوِّتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه .

واستخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم وحقدهم ،

كما يشي بسوء الأدب وخسًّة الوسيلة وانحطاط السلوك ،

والنهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه ، وللجماعة المسلمة ،

ودفاعه سبحانه عن أوليائه ، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين.

***

أقول _ القول للمؤلف رحمه الله _ :

إن هذه الحادثة تدل على أن اليهود لا يتركون فرصة يسيئون إلينا بها

إلا اهتبلوها مهما كانت هذه الفرصة صغيرة أو خسيسة ،

وان أمثالهم كثيرون ، وعلينا أن نكون يقظين بحيث لا نعطى عدواً فرصة .

وأول درس يستفاد من الحادثة والآية :

أن يحذر المسلم من خداع الألفاظ التي يطلقها الكافرون ومن متابعتهم عليها ،

ولعل غياب هذه الحقيقة عن أذهان المسلمين كان من أعظم أسباب كوارثهم ،

فقد تابعوا أعداء الله والإسلام في شعاراتهم وألبستهم وعاداتهم وأفكارهم

وتقويمهم للأشياء ، وإذا بآلاف الألوية الكافرة ترتفع في ارض الإسلام ،

ويلتف حولها أبناء المسلمين .!!

واللواء الحقيقي للمسلم لواء الله ورسوله لم يعد يحمله إلا القليل ،

ولو أن المسلم عقل الانحراف النفسي والعقلي للكافرين عامة

لأدرك خطر المتابعة ،

ولو أن المسلم عقل الوضع النفسي والعقلي للكافرين عامة :

لعرف أن هؤلاء الكافرين جميعاً أعداؤه وانهم لا يريدون به خيراً ،

ولا يريدون له خيراً كما سنرى في الآية اللاحقة للآية التي نحن بصددها .

**

( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ). أي :

واحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ،

ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة ،

وليكن سماعكم سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم كسماع اليهود ،

حيث قالوا سمعنا وعصينا ..

اخرج ابن أبى حاتم : " أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود فقال : أعهد إلىًّ .

فقال : إذا سمعت الله يقول ( يا أيها الذين آمنوا ) فارعها سمعك ،

فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه " .

ثم تأتي الآية التالية للآية الأولى لتؤكد أن الكافرين
- سواء كانوا كتابيين أو مشركين - يكرهون أن يصيب المسلمين أي خير

من ربهم ، فهي تكمل الآية السابقة فكأنها تقول للمسلم :

كيف تتابع أعداء الله وتقلدهم وتترك طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

وأعداء الله يعادونك ، ويحاربونك ، ويكرهون لك الخير!!؟ :

( ما يودُ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين

أن ينزًّل عليكم من خير من ربكم ) الخير هنا الوحي .

وبين الله عز وجل في هذه الآية :

شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى

من تقليدهم ومحاكاتهم ، ليقطع المودة بيننا وبينهم .

ونبه تعالى على ما انعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل
الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى

( والله يختص برحمته من يشاء ) المراد بالرحمة هنا النبوة والوحي والشريعة

( والله ذو الفضل العظيم ) وفي هذا إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم

على الرسول وعلى المستجيبين له .

***

بيّن سياق المقطع :

الانحراف الخطير الذي وقع به أهل الكتاب فكان مقتضى هذه المعرفة :

أن يكون المسلم في علاقته بأهل الكتاب - فضلاً عن غيرهم –

على حذر وخاصة في المتابعة والطاعة .

وكيف لا وقد خُصّت هذه الأمة بالخير وبالفضل ..
أفتترك هذه الأمة هذا الخير وهذا الفضل وتتابع أعداءها ممن لا خير عندهم

ولا فضل ولا يريدون بهذه الأمة خيراً !!!؟

ثم يأتي بعد ذلك قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ...) الآيتان

وذكر المؤلف كلاما طيبا هاهنا عن هاتين الآيتين ثم قال :

بعد هذه المقدمة اصبح بإمكاننا أن ندرك محل هاتين الآيتين في سياق الفقرة :

خص الله هذه الأمة بالفضل والخير : بإنزاله شريعته الأخيرة الناسخة لسواها

والكافرون الذين لا يريدون لهذه الأمة خيراً ،

ينكرون أن تسنخ شريعة لاحقة شريعة سابقة ..

وبالتالي فإنهم يعتبرون الإسلام باطلا ..!

وهم يزعمون هذا الزعم فكأنهم يعتبرون الله عاجزاً !

وهم بذلك لا يعرفون إحاطة علم الله سبحانه .

فتأتي هاتان الآيتان لترد هذا كله وتبطله .

ففي الآيتين تأكيد لفضل الله على هذه الأمة ..

وهذا يستدعي من هذه الأمة أن تعرف فضل الله عليها

فلا تُستجر إلى متابعة أهل الضلال

بل عليها أن تشكر الله على نعمائه : بالسماع والمتابعة ..

وبهذا نعرف صلة هاتين الآيتين بسياق الفقرة التي بدايتها :

( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقوا انظرنا واسمعوا )

**

ثم جاء قوله تعالى :

( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ

وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (البقرة:108)

وبعد كلام للمؤلف رحمه الله .. قال :

إن بني إسرائيل عندما بُعث لهم موسى عليه السلام كانوا أمة مستعبدة

ثم تخلصوا من العبودية وبقوا حدثاء عهد بها ،

وكانوا حدثاء عهد بكتاب ، ومن ثم كانوا يسألون ما لا يُسال

وتعنتون ويخالفون ..

وقد أعطى الله هذه الأمة دروساً عن هؤلاء ..

فالمفروض أن تكون أمتنا بمنأى عن الأسئلة الساذجة

أو المتعنتة ، أو التي لا تليق بالأمة الربانية

وأهم الأسئلة التي وجهها بنو إسرائيل لموسى عليه السلام:

في هذا السياق تعليقهم الإيمان به : برؤية الله جهرة !!

وهو طلب متعنت ظالم جاهل ..

وطلبهم طعام الرخاء ، وهو طلب أمة مسترخية ..

والأمة المسترخية لا تستطيع تحمل أعباء جهاد طويل المدى

إن هذا التوجيه يُراد به من الأمة أن تبتعد

عن مثل هذا النوع من السير الخاطئ الذي سارت به بنو إسرائيل

واقرأ هذه النصوص لترى كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

نماذج صدق في كل حق :

في الصحيحين عن المغيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال ...

وتنفيذاً لمثل هذا ولمثل ما ورد في الاية :

يقول البراء بن عازب : إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل

رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتهيب ،

وإن كنا لنتمنى الأعراب ." أي نتمنى أن يأتي الأعرابي فيسأله .

وقال ابن عباس : ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم

ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة ، كلها في القرآن .....

فهم لم يكتفوا ألا يسألوا طلب تعتنت ، بل لم يسألوا حتى

على شاكلة أخرى إلا حيث الضرورة القصوى ..!

ثم قال المؤلف بعد كلام :

فهذه الآية تأتي بعد أن بين الله لهذه الأمة فضله عليها

لتدلهم على ما لا ينبغي فعله ، قياماً بشكر الله

ولتبين لهم أن مما تُسلب به هذه النعمة العظيمة عنهم هو :

السؤال المتعنت كسؤال قوم موسى لموسى ..

إذا تقرر هذا فلنلاحظ الآن :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا..)

ثم بعد آيات جاء قوله تعالى :

( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ

وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) ..

إن السياق كأنه يقول لنا :

إنكم إن واتيتم اليهود بمثل ( راعنا ) فستصلون في النهاية إلى

أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى ، لأنهم لا يريدون بكم الخير

ويثيرون الشبهات والشكوك ضد إسلامكم ودينكم من مثل شبهة النسخ وغيرها.

ثم تأتي الآية اللاحقة وهي :

( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)

:لتبين كيف أن أهل الكتاب يودون لو أنهم أرجعونا كفارا !!

فأمام هذه الرغبة فإنه لا ينبغي أن نواتيهم في بدايات توصلنا إلى نهايات خطيرة

نضل بها عن سواء السبيل .....

**

... والحديث عن الفقرة كلها ودروسها وعبرها طويل .. ونكتفي بهذا ..

من ( الأساس في التفسير ) بتصرف قليل ..

تعال نؤمن ساعة

.
1
371

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

طمطومه
طمطومه
جزاك الله خير

وحشتيني يا سحوووبه بارك الله فيج على المواضيع القيمه